إشكال إصطدام السودانيين بالدولة

محجوب حسين

ما إن غادرت الكولنيالية  تراب مستعمرتها السودانية حتى إصطدم السودانيون بالدولة مبكرا، حيث رأوا منذئذ أن مشروع الدولة  الذي كان هو قيد  التأسيس الإعداد و الهندسة و الرسم  يمضي في الوقوع  تحت عمليتي نصب و إحتيال  كبيرتين بين قوى الخارج و الداخل و بالتالي مشروع  الدولة المرتقب  قد يستشرف خللا بنيويا في الأمد المنظور و ربما يتجاوزه إلى الإصطدام بين مكوناته الاجتماعية و كذا مع المشروع العام محل الشراكة و الإنتفاع المشترك، لتتجذر معها رؤى الرفض المبكرة تلك بقناعة أكبر و أكثر رسوخا بعد عملية  “تفويت” البيض الإنجليز إدارة شؤون مستعمرتها  للبنى السودانية  المنتقاة  قديما و التي أُعيد إنتاجها فيما بعد حديثا و بأشكالها المختلفة، الأهلية منها و القبائلية، الطائفية، الجهوية، المناطقية، العرقية، الاقتصادية. حيث تمكنت  تلك  البنى جراء  عملية “التفويت” التاريخية من وضع يدها و بشراهة منقطعة النظير على مشروع الدولة ما بعد كولنيالية، متحالفة و متضامنة و تعمل بدقة متناهية و إحترافية عالية لتكرس وضعا شبيها بسلطة الوصايا الإستعمارية من الداخل و بهيمنة مطلقة، جراء إحتكار أدوات معرفة القوة التي تنتج إستراتيجيات سلطة القوة المنتجة للهيمنة-كما يشير ميشيل فوكو عند تناوله الهيمنة و علاقة السلطة بالقوة و المعرفة –  لتتملك سلطة التقرير و الفعل و الإفتاء و كل ناصية الحقيقة في الشأن الحياتي العام بالبلاد عبر شبكة علاقات مصالحية جدّ معقدة، متباينة و متقاطعة. متفقة في أحايين و مختلفة في أخرى، حسب حركة نسق السلطة الإجتماعي و حاجته، و الذي يرى فيها عالم الإجتماع  فليفردو باتريو” أنه نسق يسعى دائما لثبات سيطرته” و يضيف “يوجد داخل كل مجتمع  قوى تعمل على تدعيم الصورة التي يوجد عليها النسق، فإذا ما خضع  النسق لخلل ما بسبب عوامل  خارجية  فإن  العوامل الداخلية لا تلبث أن تعمل على إستعادة التوازن و إعادة البناء لتثبيته و تقويته خوفا من إنهيار النسق”.

هذا يفيد إلى جدل الإجتماعي و السياسي في السودان و  تفاعلهما في إنتاج الهيمنة و السيطرة  المستشرية كثقافة متجذرة و راسخة  عند الطبقة السياسية السودانية  التي راكمت فعل و ثقافة الهيمنة عبر حقب التاريخ الطويلة، و هو ما مكنها من فرض شروطها و قيمها عبر إبتلاع الدولة و قولبة  وظائفها لخدمتها من خلال نسقها السياسي الذي ما هو إلا تعاضد لتلك العناصر المادية و غير المادية من الإجتماعي و الثقافي و الإقتصادي و التاريخي و السياسي، مرتبطة في أجزائه مع بعضها بعض و  في كلية واحدة و كيان فكري محدد، ظاهر أو مستتر، و من ثم يتفاعل مع طبيعة علاقاته الداخلية و الخارجية  و عبر مجموع تلك العناصر و التفاعلات  ينفذ  النسق السلطوي  الاجتماعي مطلوباته في الهيمنة بآليات مختلفة.

لهذا، ما إنفكت تلك البنى الإجتماعية  السلطوية تعمل بآليات عنف أكثر وحشية و دون مسوغات أخلاقية و لا دينية  كلما تكشفت لها  تآكل حيل أدوات شرعنتها و إختلال منظومتها القيمية و تهاوي مراكز قواها التي تجير بها سياسات شرعناتها السائدة، و هي الممسكة على الدوام بزمام المبادرة في الفعل السوداني العام مع إستحواذها على كل فائض قيمة الشعوب السودانية المعنوية و المادية. و يأتي هذا ربما بعيدة حتى عن مراكز قوى إجتماعية  تزعم بتمثيلها أو التعبير عنها، رغم البرغماتية المعهودة عند بعضها-موالاة أو تماهيا أو سكوتا- لذلك إستطاعت على طول خط التاريخ السوداني الذي يُنعت في  أدبياته ب” الحديث” من بناء أكبر تراكمية إستبدادية إقصائية تتولى كل أوامر فعل القيام و الجلوس و الفحص للزوم الغربلة في المشهد  السوداني عبر ميكانيزمات  بنائية هي عبارة عن دوغمائيات ثقافية إجتماعية جهوية سياسية للنسق الإجتماعي المهيمن الذي  يحتل عنده الدين “الأخلاقي” يحتل الأخيرة.

الواضح ، أن ميكانيزمات فعل وعمل تلك البنى تتشابه بل تتطابق إلى حد كبير في طرق إشتغالها مع ذات الأدوات الكولنيالية الخارجية، حيث فلحت في  إعادة إنتاج نفسها و تبيئتها في البيئة السياسية السودانية و بفاعليين قدامى/  جدد و من الداخل بالضرورة، يؤدون الدور الوظيفي لدوائر دولية و إقليمية و في الداخل يعملون على تغذية مراكز قواهم بكم هائل من بعض قوى المحيط السوداني التي تم تدجينها أو ترويضها أو إعادة إنتاجها لفائدة خدمة بقاء منظومة الهيمنة ماثلة. و المثال الأنموذج على هذا، فضيحة لعبة قطع جنوب البلاد عن شماله و شكل التواطؤ. علما أن الأزمة متواجدة في الخرطوم، ليست في “جوبا”. فيها  لفظت قوى الوصاية في سودان الخرطوم جنوبه و بكراهية ثقافية عرقية لا لبس فيها و بغض النظر عن  الذرائعية السياسية التي قدمت. هذه الكراهية الثقافية العرقية تقف حتي يومنا هذا حجر عثرة  للحيلولة دون وقوع إستحقاق مبدأ المواطنة الحقة و الذي إذا تم  تفعليه  قد تحسبه قوى الشرعنة “التاريخية” أنه  إنتقاص و مهدد  لهيمنة النسق و إن كان في الأخير جراء هيمنته  سبب قعود الدولة السودانية في التاريخ المعاصر و الذي على ما يبدو في إنتظار  معامل  فرز آخر قادم،  قريب أو بعيد، مرن أو عنيف بعد الفرز الجنوبي، فرز قد يؤسس للمبدأ، مبدأ المواطنة أو يرفضه، و من ثم تحمل النتائج المترتبة عن ذلك، كل على حدة. يأتي هذا بغض النظر عن الحكومات المتعاقبة  في البلاد و عن أدوات تذييل بقاءها، منفردة أم مجتمعة، لا يختلفان ما دام الفعل المنهجي و في باب الموضوع  واحد و متفق عليه ، فيما  التشتيت في إتجاهات التطبيق و إختلاف الشخوص و الأدوار، بعمائم  مختلفة الطي رغم البياض الذي  يتقاسمها أو في اللحى أو الخوذات العسكرية .

إلى ذلك، جميع  قوالب هذه البنى الإجتماعية و الثقافية و العرقية والجهوية و  السياسية  السودانية التي تموقعت على سدة الإدارة و السلطة فيما بعد خروج المستعمر، تتحرك حول  تمركز المدار دون إنحراف، أيا كان شكل قوة الدفع و ذلك لفائدة السيطرة و التحكم  للهيمنة  عبر أبنيتها الرسوبية الثقافية و التاريخية و لطالما مثل حوض النهر النيلي نفسه هذا التمركز و على الدوام  شكل  جغرافيته تضاد الثنائيات، عمق تفاعل الصراع السوداني، في الماضي و الراهن، سلما أو حربا، إن كان مع قوى الداخل أو الخارج. و في هذا الإطار، تدفع القوى المتمركزة، أي التمركز الثقافي العرقي الجهوي، القبائلي ذو التحالف الضمني القوى المنافسة لها و  الواقعة تحت عباءة “التوطين” و المصنفة بالهوامش العرقية/ الثقافية المصنوعة ضمن ألاعيب النسق، على الإحتفاظ  فقط بقوة الدفع الجسمانية المرسومة و المقررة  سلفا في قوة العمل، كشكل من أشكال “السخرة” السياسية لأجل ضمان وقود دوران التمركز دون أي عطب، و يقع هذا  تحت شرط واقف، و هو عدم الإقتراب على مركز إمتيازها التاريخي أو التأثير على  قرارها و خطوات تنظيمه بما لا يخل و موقع السيطرة، في إستنزاف مؤسس لطاقات المحيط و بنظريات إستراتيجية أهمها، لعبة تبادل المواقع بين قوى إجتماعية ضد أخرى، المعروفة ب” فرق/ تسد” الإستعمارية للإلهاء مرة، و في أخرى، للحد من طاقاتها و في ثالثة، لفائدة توظيفها ككلاب “حراسة أو كوادر عنف” في مؤسسة سلطة الدولة/ النسق و واجهاتها الحزبية و بقية مكونات ما يعرف بمجتمعها المدني،  و ذلك بخدعة نقلها من تراتبية إلى أخرى متخيلة غالبة و مستحوذة على السلطة و الثروة ، في وداع  للتراتبيات المغلوبة لأجل خلق التماهي مع الأولى الغالبة و الدفاع عنها، بضرب ذاتها بذاتها، أي بذاتها المقاومة و “المتمردة” على النسق المتعالي الذي يكرر دوره المألوف في الفرجة على الصور التي يصنعها، تمثل ذلك في صور الذي يقاتل ذاته بذاته أو صنفه أو صور رجال الدرك في حماية نظامه أو صور أولئك الذين يصدرهم إلى الخارج بمقابل مادي.

إن الراصد لعمل هذه البني، يلحظ بأنها ذات نسق براغماتي واحد و قار، سواء كان في الدور أو الوظيفة، كما أنه  يمثل مستودع صناعة  كل المعايير و المبادئ و توزيع  القيم و جهاز  المقاييس و المواصفات الدائم  في تعريف ” السودانوي” و مطابقته أو إجازته  لقواعد الشكل و المحتوى المصاغة و المعتمدة على أساس مرجعيات مخزون التصنيفات الاجتماعية المهيمنة التي تمثل حقل التصورات و  الترميزات التضليلية و كل أنماط التحيزات الأخرى، هذا  فضلا عن كونها مرجع  التفسير  لكل منتوجات و أفعال و تصرفات و سلوكات مشروع الدولة و ذلك بعدما تمكن النسق من إلباس مكوناته  و بناءاته الدولة  أو إجبار الدولة  علي ارتداءها  قسرا و من ثم الدفع بأبنيتها الإجتماعية و الثقافية  مسنودة بماكينة السلطة من أن توزع  قيمها و منتوجاتها الثقافية و تصوراتها الخاصة  من خلال الإحتماء بمشروعية الدولة ، بإعتبارها  قيم  للدولة و على الآخرين بلعها و هضمها دون جدال، و أن أي  رأي مخالف لها يقابله جلدٌ و سلخ عنيف، جاء معنويا أو ماديا، مباشرا أو غير مباشر و بفرز عرقي/ عنصري قبيح، شكل معه  زاوية حادة في التضاد  ضاعفت من  مفعولها ضد الأنساق  الإجتماعية الأخرى و  في مجال سياسي هو الآخر، رخوٍ  و مأزوم بتوجساته و تخوفاته و تنعدم الثقة فيه بين جل إن لم نقل كل مكوناته، بل قائما على صراعات أكثر حدة و عنفا سيما بعد موجة التحرر السودانية الثانية خلال الثلاثة عقود الماضية في مقاومة  الجنرال الضال  الذي يشتهي رائحة الدم. إنه مجال ماكر، فوضوي عبثي، شديد الإنتقام، يشيع الإحباط و اليأس في المجتمع. مجال لا نهاية له ولا حتميات فيه، سقطت فيه الأيدولوجيات و العقائد السياسية، جاءت في شكل برامج أو حتى شعارات و خطابات، مجال تكشّف فيه كل المستور و إنتهت معه أساليب المناورة و المراوغة.

و في هذا الإتجاه لي أن أشير أن  النسق المهيمن لولبيا، ليس ثابتا و حركته  تتحدد بظروف زمكانه و محيطه، دون التلاعب في أي  زحزحة مرتقبة  يمكن أن تهدد ماهيته و ديناميكيته، و الأهم مواكبته لترمومتر الصراع الداخلي الذي يبني عليه عادة تكنيك إدارته في  تغيير أو تجديد تحالفاته  لإعادة تجديد مواصلة سيره في إبقاء إبتلاع الدولة قائمة و الهيمنة فيها مكرسة بجدار إسمنتي على الكليات الإجتماعية من الشعوب السودانية  الأخرى كإستراتيجية ضمن أولويات و أواليات السلطة ما بعد الإستقلال و إلى الوقت الراهن أكثر من صياغة أي مشروع وطني سوداني قومي حقيقي يؤمن مصالح و تقاطعات البنى الإجتماعية المكونة للسودان بمساواة و مواطنية حقة، و من هنا برز إشكال السودانيون في إصطدامهم ب” الدولة” المتماهية مع النسق الإجتماعي المهيمن. إشكال خلف معه أزمات أو العيش بها، و هي أزمات النسق الإجتماعي المهيمن أكثر من كونها أزمة الفسيفسائيات الإجتماعية  الشريكة الأخرى، كشاكلة، أزمة  الهوية و الدين و الدولة و أشكال  المتاجرة بهما لإحداث تراتبيات الفرز الداخلي وليس الخارجي بأي حال من الأحوال،.

رأي اليوم 

أربعاء, 26/12/2018 - 10:31