دستور أم تقنين لشريعة الغاب؟

محمد شريف كامل

دعنا بداية نتفق على مفهوم الدستور وأهميته وآليات عمله، فإن الدستور هو مجموعة قواعد مكتوبة وغير مكتوبة تمثل المجتمع وتحتوي على المبادئ والقيم المُنظمة لذلك المجتمع، وتُبين تلك القواعد شكل الحكومة ونظام الحكم وتُحدد صلاحيات وحدود السلطة السياسية، كما تُنظم السلطات والعلاقة فيما بينها، وتحدد حقوق وواجبات الأفراد وحرياتهم وتحميها وتحافظ عليها، ولا يُعتد بأي وثيقة قد تتعارض مع الأحكام الواردة في الدستور؛ لأنه يبطلها فهو الأعلى في العلاقات داخل الدولة.

وتُقَر الدساتير بإرادة الشعب ووفق رؤيته وظرفية العمل بها أو تعديلها، ويجب التأكيد على أن الدساتير تمثل قوة المجتمع وأداة حمايته، وتتضمن آليات العمل بها وكذلك أليات تعديلها. ولا يوجد دستور أبدي، كما لا يوجد ما يستدعي تجاوزه أو تعطيل العمل به إلا في أحكام شريعة الغاب، وهذا ما حدث في انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013، حيث سيطرت الألة العسكرية على مقدرات الأمور، فعطلت إرادة الشعب المتمثلة أولا في دستوره وفي باقي استحقاقاته.

وإن كان دستور 2012 غير مثالي، إلا أنه مثل إرادة شعبيه وتضمن آليات تعديله وفقا لإرادة الشعب، وكان تعطيله في 2103 هو أول خطوات انتهاك الدستور بعد ثورة 2011، ليأتي بعد ذلك انتهاك جديد يمثل الشق غير المكتوب في دستور 2014، وهو حق صاحب الانقلاب في التخلص ممن لا يروق له وقتما يشاء، وهو حق منحه له شركائه الذين شاركوا في الانتهاك الأول، حيث يتم استهدافهم وتصفيتهم بعد أن استُنفذ الهدف من شراكتهم وجاء الوقت للتخلص منهم.

وقبل أن نستعرض التعديلات، دعونا نؤكد أننا لا نعترف بهذا الدستور، والذي حتى وإن تضمن بعض البنود المحمودة، إلا أن آلية استحداثه من رحم انقلاب بغيض وعلى أطلال ثورة وبدماء سالت بأيدي غاصبة تبطله. ولا بد أن نؤكد على قناعتنا الكاملة بأن النظام يعتبره مطية للمرور على أكتاف شعارات مضللة حملها من يتم التخلص منهم بتعديله.

وعدم اعترفنا بهذا الدستور لا يمنعنا من تفنيد التعديلات المقترحة والوقوف على ما سينتج عنها. فأول نتائج هذه التعديلات المقترحة والجاري تنفيذها هو التخلص من ضمانات تنفيذ المواد الحامية لحقوق أفراد الشعب، وهو ما تصور مؤيدو 3 يوليو أنهم حققوا فيه نجاحا اصطدم بالتفريط في الأرض، فجاء يوم التخلص منهم.

وإن كان البعض قد ركز في تناوله لأمر التعديلات على جانب إعطاء السيسي المجال للبقاء لمدة اثني عشر عاما بعد 2022، بمعنى أنه يبقى رئيسا حتى 2034، وآخرون يتحدثون عن حق الشعب في قبول أو رفض هذه التعديلات، فكلاهما يوجه الأمر لغير حقيقته، فمصر ليس فيها أي مجال لممارسة أدنى درجات الديمقراطية أو حتى أي حرية للرأي، وليس الهدف بقاء السيسي، ولكن الهدف هو ضمان بقاء الحكم في أيدي المخابرات الصهيونية والأمريكية، التي تتحكم بشكل كامل في إدارة وتجهيز وتشغيل الجيش المصري.

ولذا، كانت أهم نقاط التعديل تتمثل في تسمية الجيش وصيا على شعب مصر، بتسميته "حامي الديمقراطية والدستور في مصر"، أي أنه يستطيع في أي وقت أن يتدخل في الحكم وينقلب على أي حاكم بحجة حماية الديمقراطية والدستور، مع عدم تناسي أنه أول من أنتهك الديمقراطية والدستور في 2013، حيث حول محاولة بناء الدولة المدنية إلى عسكرة شاملة.

وتستكمل عملية سيطرة الجيش على الحكم بإلزام رئيس الدولة بالرجوع في أمر اختيار وزير الدفاع للمجلس الأعلى للقوات المسلحة؛ الذي تُشترط موافقته على تعيين وزير في وزارة مُفترض أن يديرها رئيس وزراء ويترأسه رئيس، بموافقه هيئة تنفيذيه يُفترض أنها أقل درجة منهما في التسلسل الإداري للدولة، وبهذا يتأكد أنه يظلنا دولة افتراضية يديرها جيش موجه من الخارج.

وهذا ما يتنافى مع ما يقال عن الحفاظ على مدنية الدولة، وما هو إلا ادعاء شكلي ومحاولة لتصوير أن مدنية الدولة تعني أنها غير دينيه، والأمر في الأصل أن مدنية الدولة تعني أنها ليست محكومة إلا بالإرادة الشعبية، فهي ليست دينية بمفهوم القرون الوسطى، وهي ليست عسكرية كذلك، بل هي محكومة بإرادة شعبية ديمقراطية خالصة.

ثم يأتي الحديث عن تقنين تبعية القضاء للرئيس، فيكون هو رئيس المجلس الأعلى للهيئات القضائية، وهو المخول بتعيين رئيس المحكمة الدستورية، المفترض أنه الشخص الذي له الكلمة الفصل في دستورية أو عدم دستورية أي قانون وهو الحكَم بين السلطات. وكذلك يخول للرئيس تعيين رؤساء الجهات والهيئات القضائية والنائب العام، وبذلك يتم القضاء على استقلالية السلطة القضائية، وإلغاء حتى الاستقلال الشكلي الذي تعيشه مصر منذ عهود، أو على الأقل منذ انقلاب 2013.

ويجب ألا ننسى أنه بحكم حق الجيش في تصحيح مسار الدولة، يصبح رأس هذه الدولة "الرئيس" هو رأس افتراضي، فهو ليس محكوما بإرادة الشعب الذي انتخبه "فرضا"، بل هو محكوم برضى قائد الجيش عنه.

ويأتي الحديث بعد ذلك عن دور مجلس الدولة، وهو الجهاز المعني بإعادة النظر في القرارات التي تتخذها السلطة التنفيذية ومراجعة العقود اللي توقعها الدولة، فتحاول منظومة السيسي أن تحوله إلى أداة نصح وإرشاد، حيث يصبح رأيه غير ملزم، وللسلطة التنفيذية الحق في الأخذ بأحكامه أو إهمالها، فلن يصبح ذلك المجلس يمثل حتى "خيال مأته" قد تهابه انحرافات الدولة. فلا خوف منه، وللفساد أن ينعم بدولته غير الرشيدة التي ما زال يؤيدها البعض من مريديها.

ولقد مرر مجلس السيسي التعديلات المقترحة على دستوره، في ذات الوقت الذي يجتمع من نصبهم عدونا على رأس الدول العربية مع رأس الكيان الصهيوني في مؤتمر هو ليس إلا مظاهرة دعائية انتخابية لنتنياهو، ليقولوا لنا أن شريعة الغاب هي من تحكم العالم، وإننا سوف نعدل الدستور ونقنن الطريق للفاشية لحكم العالم العربي وإهدار القضية الفلسطينية وكل الحقوق العربية، وسنبدد ثرواتنا في حرب لا نهائية مع عدو مختلق، لحماية مصالح عدو حقيقي داخلي وخارجي؟؟ ألا يذكرنا ذلك بتعديلات السادات قبل زيارته المشؤومة للقدس؟!

إن تعديلات دستور 2014 وإن كان غير شرعي، فهو فرصة لنا جميعا أن نوضح الصورة لكل من تصور أنه من الممكن أن يأتي شيء صالح من رحم من انتهك مصر بانقلاب 2013، ومن يتصور أن هناك آليات لممارسة الديمقراطية في ظل تلك المنظومة، أو أنه من الممكن التعايش مع ذلك النظام والإصلاح من داخله.

إن هذه التعديلات تؤكد أنه لا حل إلا الثورة الشاملة التي ستنطلق حتما من وحدة الشعب المصري، يوم يجنب خلافاته الأيديولوجية والمذهبية وتأويلاته التاريخية المغلوطة.

"عربي21"

ثلاثاء, 19/02/2019 - 10:10