أسباب فشل التجربة التونسية.. وتكرار الفشل العربي

سهيل الغنوشي

لا الفشل رغم تكرّره ولا الجمود رغم طول مدّته وتصالحنا معه قدَرُ العرب والتجارب العربيّة أو لغزٌ، خصوصا أنّ الأخطاء متكرّرة، وصعود الأمم وسقوطها أمر خاضع لسنن وقوانين معلومة.

أمّا تخصيص تونس فلأنّ ثورتها أتاحت فرصة حقيقية للتحرر والنهوض غير مسبوقة في التاريخ العربي المعاصر، منذ الاستقلال. فقد سلمت من كلّ المطبّات التي واجهت وأفشلت نظيراتها في سوريا ومصر وليبيا واليمن، إذ كانت ثورة خاطفة وسلميّة، أسقطت النّظام ولم تسقط الدّولة، ووحّدت الشعب تحت الراية الوطنية، وعلى قضايا وطنيّة، وأوجدت زخما كبيرا ورفعت سقف التطلّعات عاليا.

ومع ذلك فشلت التجربة كما فشلت نظيراتها (إلاّ إذا سلّمنا بأنّ سقف النّجاح العربي الاستقرار وتجنّب الاقتتال -وهو تحصيل حاصل في تونس- أو حرّية التنفيس والديمقراطية الشكليّة). لم يختلف في تونس سوى السيناريو والسكريبت؛ فبينما كان المطلوب في البلدان الأخرى الحرب الأهليّة والتقسيم، أو كان الانقلاب العسكري خيارا متاحا لإجهاض الثورة.

لم يكن مطلوبا في تونس سوى إفراغ الثورة من مضمونها وتمييع أهدافها، وغلق قوسها دون إحداث تغيير جوهري، ودون خروج تونس من "الاستقرار الهشّ في ظلّ الوصاية"، ومن ثمّ إعادة تأهيل منظومة الوصاية والفساد والاستبداد في شكل أكثر مقبوليّة، وبتطعيم بعناصر وأطراف غير محروقة؛ وقد كان.

السبب الرئيسي وراء تكرار الفشل واستمرار الجمود هو القابليّة لذلك والاستسلام، وغياب الطّموحات والأحلام الكبرى الفردّية والجماعيّة. فالأفراد طموحاتهم محدودة، وإن كبرت فهي شخصية مادّية بحتة، وكثيرا ما تتحقّق بطرق ملتوية يسمح بها النّظام الفساد، وتلك حلقة مفرغة مدمّرة للدولة والمجتمع والاقتصاد.

أمّا المجتمع فيفتقر إلى حلم وطني، إلى مشروع وطني طموح وملهم يستنهض الشعب، ويحدث فيه رجّة نفسية وانتفاضة في العقول والسلوكيّات، ينبثق عنها رفض قاطع للجمود، كما تفعل حركات التحرّر الوطني والزعامات التاريخية. فكلّ نهضة شعب بدأت برؤية ملهمة، تحوّلت إلى حلم وطني مشترك، أوجد إرادة وتصميما على التغيير والتحرّر والنّهوض.

"تخصيص تونس هنا بالحديث لأنّ ثورتها أتاحت فرصة حقيقية للتحرر والنهوض غير مسبوقة في التاريخ العربي المعاصر، منذ الاستقلال. فقد سلمت من كلّ المطبّات التي واجهت وأفشلت نظيراتها في سوريا ومصر وليبيا واليمن، إذ كانت ثورة خاطفة وسلميّة، أسقطت النّظام ولم تسقط الدّولة، ووحّدت الشعب تحت الراية الوطنية، وعلى قضايا وطنيّة، وأوجدت زخما كبيرا ورفعت سقف التطلّعات عاليا"

فبفعل مفاهيم دينية وحياتية مغلوطة ومشوّهة مترسّخة؛ سادت في المجتمعات العربية عقليّة الحدّ الأدنى التي تؤبّد الجمود وتوجد القابليّة والاستعداد للفشل، وعقليّة الكسب السريع السهل التي تدفع نحو الطرق الملتوية التي تكرّس الفساد، أو نحو التفكير بالتمنّي الذي ينقلب إلى سلبيّة وإحباط.

كما تنتشر ظواهر وعقليّات أخرى مرضيّة ومعيقة، كالإنكار والتبرير والمظلومية والبحث عن شمّاعات ومؤامرات نعلّق عليها أزماتنا، فنتنصّل من المسؤولية عن واقعنا وعن تغييره، ونميل للتكيّف مع الواقع بدل العمل على تغييره، ولتبرير الفشل بدل صناعة النّجاح.

ومن نكد الدنيا على الشعوب العربيّة أنّها ابتليت بنخب هي الأسوأ والأشد فشلا. نخب جمعت بين النرجسية والانتهازية والتعصّب والضحالة والخداع.. نخب قابلة جدّا للعمالة والفساد والترويض والتوظيف.. نخب تحرّض الشعب، وتدفع به إلى المحارق، فإذا وصلت إلى الحكم -بتعميد خارجي- تقوم بدور سلفها الذي حرّضت ضدّه، ليكتشف الشعب أنّه كان مجرّد مطيّة، ووقود لصراعات نخبويّة على السلطة ليس له فيها ناقة ولا بعير.

ولأنّ الحاكم في الدّول العربيّة هو مجرّد وكيل لقوى الوصاية، وواجهة لمنظومة الوصاية والفساد، فإنّ دوره يتمثّل أساسا في التحكّم في الشّعب، وإبقاء البلاد تحت الوصاية وإخماد أو احتواء أيّ نفس تغييري ثوري تحرّري؛ أي عكس الدّور الذي قامت به النّخب في الدّول التي نهضت وأقلعت، والمتمثّل في استنهاض الشعوب ورفع سقف الطموحات والتطلّعات.

ذلك ما يفسّر ظاهرتين متكرّرتين في السياسة العربية: بمجرّد وصول فريق جديد للسلطة من خارجها تظهر عليه حالة كبيرة من النشوة (نشوة من تحقّق حلم حياته)، ويتحوّل توصيفه للواقع فورا وكلّيا من السواد القاتم إلى خطاب "ليس بالإمكان أفضل ممّا كان"، ممّا يؤكّد أنّ الحلم كان شخصيّا أو حزبيّا ومحدودا.

وبالتوازي؛ يسترخي الشعب وينتشي وكأنّ مهمّته تنحصر في تغيير الحاكم أو النّظام. ثمّ ما يلبث أن يصاب بخيبة أمل، تدفعه إلى اليأس والإحباط والعزوف عن الشأن العام. وتظلّ الأوضاع على حالها أو تسوء، في انتظار جولة أخرى وفرصة أخرى تضيع بطريقة مشابهة.

وسواء رجّحنا منطق "النّاس على دين ملوكهم" أو منطق "كما تكونوا يولّى عليكم"، فإن المحصّلة هي نفسها: شعوب وأوطان تدور في حلقة مفرغة، تعيدهم في كلّ مرّة إلى المربّع الأوّل.

يقودنا ذلك إلى معضلة أخرى مسبّبة للفشل المتكرّر والجمود المزمن، والمتمثّلة في التشخيص الخاطئ الذي لا يمكن أن يؤدّي إلى حلول وعلاجات سليمة. فالتاريخ السياسي العربي المعاصر يمكن اختزاله في أبرز ثلاث ظواهر وأحداث فارقة: الحركة الوطنية، الحركة الإسلامية، وموجات الرّبيع العربي، دون إهمال للنّضالات المتنوّعة والمتراكمة، والتي لم تتوقّف منذ الاستقلال المزيّف أو المنقوص.

في المرّات الثلاث تحقّق الهدف المنشود ونجاحات كبيرة وتغيير ملحوظ. فالجيش المحتلّ أجلي، والنّاس عادوا للدين أفواجا والمساجد التي كانت شبه مقفرة امتلأت بالشباب والمتعلّمين، وانتشرت مظاهر التديّن، وأسقطت بعض أنظمة الاستبداد والفساد.

ولكن في الحالات الثلاث لم يصاحب التغيير المهول في الشكل تغيير يذكر في الجوهر والمضمون، لا في الدولة ولا في المجتمع، ولا حتّى في الأفراد، في العقليّات والسلوكيّات والمعاملات والتطلّعات. لغزٌ لا يفسّر إلاّ بالقصور في التشخيص الذي كان جزئيّا أو سطحيّا أو خاطئا، فتمّت معالجة الأعراض لا الجذور، وأغلِق الجرح دون تنظيف فتعفّن.

ففي المرّة الأولى؛ اختُزِلت المشكلة في وجود المحتلّ، فلمّا أجلِي وتحقّق الهدف استرخى الشعب وسلّم مصيره إلى نخبة خذلته، فتحوّل الاحتلال إلى وصاية ونظام استبدادي شمولي، جعل البعض يتحسّرون على أيّام الاحتلال المباشر. لم ننفذ إلى جذور الأزمة: الضعف والوهن والقابليّة للاستعمار.

"هناك معضلة أخرى مسبّبة للفشل المتكرّر والجمود المزمن عربيا، والمتمثّلة في التشخيص الخاطئ الذي لا يمكن أن يؤدّي إلى حلول وعلاجات سليمة. فالتاريخ السياسي العربي المعاصر يمكن اختزاله في أبرز ثلاث ظواهر وأحداث فارقة: الحركة الوطنية، الحركة الإسلامية، وموجات الرّبيع العربي، دون إهمال للنّضالات المتنوّعة والمتراكمة، والتي لم تتوقّف منذ الاستقلال المزيّف أو المنقوص"

وفي المرّة الثانية؛ وقع تشخيص الأزمة في بُعد النّاس عن الدّين، فكان الحلّ في نشر التديّن. ورغم أنّ جهودا معتبرة بُذلت لتجديد الفهم ومصالحة الدين مع العصر والعلوم، فإنّ جوانب وأبعادا حيويّة في الدّين لم تنل حظّها من التركيز، كالبعد الرسالي والبعد الروحي والبعد الأخلاقي والبعد الإنساني والبعد الوطني.

فقد طغى التركيز على الشعائر والفقه (الحلال والحرام) والمظاهر في التديّن العام، وطغى التركيز داخل صفّ الحركة الإسلامية على الأنشطة والخدمات والتنظيم والانضباط، وطغت السياسة على التجربة ككلّ، وتفاقم طغيان السياسة والتنظيم بسبب المواجهات والصدامات المزمنة والمتكرّرة مع الأنظمة الاستبدادية، والتي دفعت الحركة إلى السرّية والانغلاق، وعطّلت تقريبا أيّ جهود فكريّة اجتهاديّة.

فحال ذلك دون إعادة صياغة العقول والنّفوس، وتغيير العقليّات والمعاملات، وإنتاج قدوات وقادة مجتمع إلاّ قليلا. فكانت النتيجة انتشارا واسعا لتديّن سطحي في المجتمع، وانتشارا بين الأعضاء لتديّن منغلق مصطبغ بالسّياسة، حوّل الحركة إلى شبه طائفة (أو حزب)، وصوّب التركيز نحو النظام والحكم بدل المجتمع والإنسان والإصلاح. فاستمرّ التخلّف والجمود في العقليّات والسلوكيات والمعاملات، وفي جميع المجالات. مرّة أخرى أخطأنا التشخيص، فتحقّق الهدف، ولم تعالج الجذور.

أمّا موجات الربيع العربي فقد حقّقت هدفها، ونجحت في إسقاط أربعة أنظمة، وإنهاء الاستبداد على الأقل في شكله الخشن السافر. وانتزع الشعب حرّيته نسبيّا حتّى في دول لم تقم فيها ثورة ولم يسقط فيها النّظام. والنتيجة ما ترى. مرّة أخرى؛ كان التشخيص قاصرا ولم يلامس الجذور المتمثّلة في الوصاية والتّبعيّة. فهي التي تنتج وتعيد إنتاج الاستبداد الذي يكون دوما مقترنا بالفساد.

لم يقع التعامل مع جذور الأزمة المتمثّلة في معضلتين رئيسيتين:
1- منظومة الوصاية والفساد والاستبداد، وهي منظومة أخطبوطية/سرطانية جذورها الوصاية، وهي التي تكبّل البلاد والشعوب العربيّة وتعيق نهضتها. وبالتالي فإن أيّ مشروع وطني لا يكون التحرّر من الوصاية على رأس أولويّاته، محكوم بالفشل ولن يحقّق عدلا أو تنمية أو ديمقراطية.

2- تشوّهات كبيرة وعميقة وخطيرة في النفوس والعقول أحدثتها قرون من الاستبداد والاستعمار، تستوجب ثورة في العقول والنّفوس. إن الاستبداد وغياب الديمقراطية ضلع رئيسي في المنظومة (ولكنّه ليس الجذر)، ولا معنى ولا قيمة لدستور وأحزاب وانتخابات في ظلّ الوصاية (كما في ظلّ الاحتلال).

فالديمقراطية تعني سلطة الشعب التي يفوّضها مؤقّتا لمن يشاء، وفي ظلّ الوصاية (أو الاحتلال) الشعب لا يملك السلطة حتّى يفوّضها (وفاقد الشيء لا يعطيه)، والديمقراطية لا تكون إلاّ مغشوشة وموجّهة من الخارج الذي يستمرّ في وصايته، ولكن من خلال وكلاء متوافقين أو متشاكسين بدل الوكيل الحصري.

وهكذا استُدرجت الطبقة السياسية في تونس إلى مسار سمح بتماسك المنظومة وإعادة تأهيلها، مع احتواء لحركة النّهضة وتمييع مشروعها، بعد أن سلّمت بالوصاية، وهي الحركة التي فوّضها الشعب لتقود الثورة. وتفاقم الفساد ولم يتغيّر شيء جوهريّ، وظلّت العمليّة السياسيّة تُدار من الخارج، برعاية السفارات وبتمويل مشبوه من الدّاخل والخارج.

في ظلّ الوصاية -كما في ظلّ الاحتلال- لا حلّ أمام الشعب إلاّ حركة تحرّر وطني تحمل مشروعا وطنيّا ملهما، تستنهض به الشعب وطاقاته الكامنة، وتنفض عن معدنه الغبار والركام، ليستأنف ويستكمل معركة الاستقلال.

سبب آخر لا يقلّ أهمّية في الفشل المتكرّر والجمود المزمن وضياع الفرص، هو أزمة القيادة والإدارة التي تعاني منها البلدان العربيّة والإسلامية، ليس فقط في الأنظمة بل وفي الأحزاب والجمعيّات وعلى كلّ المستويات.

فمنذ أصبح الحكم شموليّا وراثيّا ورضي المسلمون بحكم المتسلّط بحثا عن الأمن والاستقرار؛ لم يجدوا -وربّما لم ينشدوا- الصيغة المناسبة في القيادة والإدارة التي تجمع بين الشورى والحسم والحزم، بين القيادة الجماعية والقيادة الفردية، بين القائد والمؤسسات. وظلّوا يراوحون بين طرفيْ النّقيض: بين حكم المتسلّط والفوضى والفراغ القيادي.

"تبقى في تونس فرصة التدارك قائمة، بالتأكيد ليس بهذا المسار المنحرف وهذه العمليّة السياسية التي بُنيت على باطل، وليس بهذه الطبقة السياسية البائسة التي أخذت فرصتها وأثبتت ضحالتها وفشلها، والتي تفتقد التشخيص السليم والإرادة والقدرة على التغيير. فهل تنطلق أيضا من تونس موجة تصحيح الثورة واستكمالها؟"

حتى النّظام الديمقراطي الذي طوّره الغرب لتحقيق تلك المعادلات الدقيقة، حين استورده المسلمون طبّقوه بطريقة مشوّهة جدّا، جعلت الدساتير والمظاهر والهيكلة واللّوائح ديمقراطية جدّا ومتطوّرة جدّا، بينما ظلّت الممارسة متخلّفة جدّا وقبليّة جدّا، ولا تختلف عن حكم المتسلّط والنظام الشمولي.

وينشأ صراع مزمن بين المتسلّط الذي يحتكر السلطة ويسعى لتطويع الدساتير والقوانين لتتطابق مع الممارسة ويتخلّص من الإزعاج، وبين من يحرصون على ضبط وتطويع الممارسة لتتطابق مع الدساتير والقوانين، ولا تكاد تجد في البلاد العربيّة نظاما أو حزبا ديمقراطيّا.

أمّا في الإدارة، فما زالت العشوائيّة والارتجال يسودان المشهد. فلا تخطيط ولا توثيق ولا تقييم ولا محاسبة إلاّ على الورق، ولا علاقة له بالممارسة ولا تأثير له فيها.

هذا الإخفاق القيادي الإداري يؤدّي إلى الفشل في إدارة أي خيار أو مسار حتّى ولو كان صحيحا، كما يؤدّي إلى تكرار الأخطاء، وضياع الكثير من الجهود والأوقات في الصراعات الداخلية، في غياب وضوح المسؤوليات والصلاحيات أو عدم الالتزام بها.

كما يحول دون مراكمة الإنجازات والتداول السلس على القيادة، وتكوين القيادات (في غياب التفويض والتشاركية والشفافية)، وبناء مؤسسات قويّة تضمن الاستمرارية، حتّى لا يظلّ مصير الحزب أو الدولة مرتبطا بشخص.

ولكن تبقى في تونس فرصة التدارك قائمة، بالتأكيد ليس بهذا المسار المنحرف وهذه العمليّة السياسية التي بُنيت على باطل، وليس بهذه الطبقة السياسية البائسة التي أخذت فرصتها وأثبتت ضحالتها وفشلها، والتي تفتقد التشخيص السليم والإرادة والقدرة على التغيير.

فهل تنطلق أيضا من تونس موجة تصحيح الثورة واستكمالها؟ الفرصة ما زالت قائمة، وشباب تونس وشعبها قادرون، وكثير منهم رافض للوصاية ومتحرّر من عقدة الأجنبي، والشعوب التي نهضت وأقلعت لا تفوقنا في شيء.

المصدر : الجزيرة نت

سبت, 20/07/2019 - 10:50