
لغة العصاة.. لغة الاستعمار.. لغة أهل النار، تلك بعض الصفات التي تطلق هنا على اللغة الفرنسية من قبل نخب سياسية -وليست ثقافية لأنه لا أعتقد أن ثمة مثقف له مشكلة مع أية لغة في العالم- تنصح بعدم تعلمها ،فبالنسبة لأصحاب الميول الدينية فيتم إقناعهم أنها لغة الكفار وكلام النصارى كما أفتى بذلك فقهاء تقليديون فجر ميلاد الدولة الموريتانية؛ أما من لهم ميول قومية فيتم إقناعهم بأن اللغة الفرنسية لغة المستعمر و محاربتها جزء من المقاومة والشرف.
النخب السياسية التي فشلت في اقتراح حلول لمشاكلنا المزمنة وتنفيذها تجد في مثل هذه المواضيع غير القابلة للقياس ضالتها كقضية اللغة الفرنسية وقضية "الهوية" التي يتشدق بها كثيرون دون إدراك لمعانيها ولا تعريفاتها على الرغم من أن مفهوم الهوية هلامي ومتغير ومتحول بطريقة يصعب القبض عليه وهذا ما يريده سياسيونا لأنه موضوع غير قابل للتكميم(من الكم) والحساب وبالتالي يصبح موضوعا دسما للمزايدات والتجدد.
الخطاب السياسي المفلس والإعلام غير الناضج رسخا في الذهنية العامة أولياويات مغشوشة يتم تجديدها منذ نصف قرن ولم تنتج إلا صراعات هنا ومشادات هناك لكنها لم ولن تصنع وطنا يوفر لأبنائه الخبز والكرامة.
هكذا تم تهميش القضاايا المصيرية الكبرى للوطن ليتم حصر المعركة في سجالات لفظية ومفردات براقة لا تغني ولا تسمن بل تؤدي إلى ترحيل المشكلات للمستقبل لتكتوي بها أجيال لم تساهم في خلقها وليستمر الجدل البيزنطي حول جنس الملائكة ؛أذكور أم إناث!
إن من حرمنا من فرصة تعلم إحدى أهم اللغات التي تكتنز أهم روافد العلم و المعرفة في العالم لا يمكن أن يتمتع بأية ذرة من التنوير.
إن من جعلنا نضطر للبحث عن ترجمات لكي يتسنى لنا قراءة موليير و فيكتور هيغو و ألفريد دي موسيه وجاك دريدا و جان بول سارتر وألبير كامي وديكارت وأمدو همباطي با وسنغور و حبيب ولد محفوظ؛ إن من جعلنا هكذا لا يمكن أن نقول إنه يسعى لبناء وطن يسحتق الاحترام ويفخر به من ينتمون إليه.
إن من يشجع أنباء الفقراء و المستضعفين والمسترقين على الهروب أثناء حصص الفرنسية في المدارس و المعاهد والجامعة(حتى لا أقول الجامعات) في الوقت الذي تنفق فيه الحكومة ملايين الأوقية على مدرسي الفرنسية وتحلب المنظمات الدولية باسم تعليم هذه اللغة فإنه يقود الشعب نحو المجهول والجهل الذي نتردى فيه.
أحد النواب في عمل استعراضي مزق نسخته من مشروع قانون بدعوى أنه مكتوب باللغة الفرنسية بينما هو ينفق من جيبه مئات الآلاف من الأوقية لتوفير معلم فرنسية في البيت لأطفاله وهذا نقله لي مصدر محترم وينتمي لنفس التيار ومقرب من النائب المذكور، وهل يخفى علينا جميعا أن هؤلاء يرسلون أبناءهم إلى المدارس الحرة والأجنبية ليتعلموا اللغات العالمية بينما يبقى أبناء العامة والمستصعفين يغوصون في الجهل والأمية؟
الهدف إذن واضح.. هو تهيئة أبنائهم لحكم البلاد من بعدهم وإبقاء الشعب في حالة من الفقر و الجهل لا تسمح له بالتفكير خارج دائرة البحث عن لقمة عيش حافية أو قطعة خبز متربة، وهنا يظل اقتيادهم إلى المذبح مهمة يسيرة.
إنهم يغرقوننا في الظلام ويمجدون الجهل ويمتدحون عدم الانفتاح على ما وصلت إليه البشرية من علم وإنجاز؛ لكي نبقى قطيعا مطيعا لا يهتم بغير العلف الشحيح ؛نلوك مفردات هلامية يصعب التحقق من منها لأن نسبيتها المفرطة في النسبية تجعلها مشاريع أبدية لا تكتمل أبدا.
إنا يا ساسة نريد حلا لمشكلة الفقر ونريد صحة و نريد ماء لأدوابه والفركان والقرى الغارقين في عطشهم الأزلي.. نريد بنية تحتية تليق بالإنسان وليس مهدئات لفظية.
نريد تعليما (لا يخفى عليهم أن موريتانيا هي آخر دولة في ذيل القائمة حسب تقريردولي تناول 140 بلدا فيما يتعلق بجودة التعليم) ومن يريد أن يتأكد أنهم رحمونا لأنهم لم يخرجونا من القائمة فليتابع ما يكتب في المواقع الموريتانية وبتلك اللغة التي تشبه ازريكه ولد أحمد يوره أو البلاغات الشعبية على الأرجح.
إننا نريد عدالة اجتماعية وتضييق الهوة بين أقلية تملك كل شيء وأكثرية لا تملك أي شيء.. إننا نريد وطنا حقيقيا لا يخجلنا الانتماء إليه ولا يسألنا عنه الجيران والإخوة السؤال الصادم والموجع ايضا: أين موريتانيا؟
إننا لا نريد صراعا بين اللغة العربية والفرنسية ولا أي لغة أخرى.. نريده بلدا متعدد اللغات والرؤى والثقافات.
اقرؤا وتعلموا أيها المحرومون فإنهم يكذبون عليكم.. إنهم يقودونكم إلى المقصلة.. الى المزبلة.. إلى المقتلة!
أيها الساسة الجهلة النتنون ،إننا لا نريد صراعا بين البنطلون و القميص أو بين الملحفة و الفستان أو بين البذلة و الدراعة فلا تشغلونا لتنهبوا ثرواتنا وتتحكموا أنتم وأبناؤكم في رقابنا.
تبا لكم... وتبا لل"وطن"!