عن الاستقلال وكرنفاليّته التضليليّة: المجد المنحوت من الخواء للخواء
" هل من نقصانٍ في الأمور يامُطيعي الأمر؟ هِبوا إلى جاهزيّتِكم يارُعاة الكرنفال الأكبر: نشّطوا عضلاتِكم وأجسامكم أيها العسكر. نمّقوا خطبكم وزيّنوها يامثقفي الخطابة. انفخوا أمعاءكُم بالمدح المهزوم. أنتمُ أيضاً أولئكَ أيها الأئمة النحارير جهّزوا أدعيّتُكم المُبارِكة، ريقكُم الحلو، ورعكُم المحشود كرهاً. أما أنتم ياشيوخ القبائل فجهّزوا عرائضكم المطلبيّة، المتعلقة بتقسيم حصة الشهادة والمجد، على قبائلكم العُظمى. وفي الأخير ارجعُوا لي الفضل والأسبقيّة العظيمان في الاهتمام برعاية مجدكم الذي كان في الماضي منسياً، ومُقسّماً ككعكةٍ بائتةٍ لايرغبُ بها أحد. إلى أن قدمتُ أنا في الأخير. أما الباقي من المشهد الناقص فيُكمل الضروري- اللّزوم: أنتَ ذاكَ، يا أيها الشعب العظيم احشِدْ نفسَك بنفسك لهذا الحدث الأكبر المُكبّرْ. اقدِمْ من كل الجهات، جمعاء، ياشعب "العِظامْ". لاتتعذّرْ بالوقتِ فقد منحتُك العطالةَ على طبقٍ رسميّ مني لهذا الحدث خصيصاً، لاتتعذّر بانعدام أجرة التاكسي فقدماكَ حينَ تتحسّسْ نيّة الكدحِ بها، كما هي عادتُك دائماً، يُطيعانِك إلى الأبد فتنبسطُ الأرضُ أمامَك إليَّ-افرِغْ نفسَك لقليلٍ من الوقتِ فيَّ وفي أكذوباتي التضليليّة، نفِّسْ عن وجعكِ المكبوتِ قليلاً، صدّق لقليلٍ من الوقت كذبتي الكُبرى عليك: أنَّ لك وطنُ كبير، وأنَّك تستحقُ ذلك الوطن ويستحقُكَ. ياشعبُ لاتخذُلْ مشروعي التضليليّ- نيّتي الحسنة إزاءَكَ: فأن تفرحَ كثيراً، وإنْ بالوهمِ، لوقتٍ قصيرٍ خيرٌ من أن تحزَنَ الدّهرُ كلّه. فاقدمْ من كل فوجٍ عظيم، نحو جهتي، جهة تضليليّ الأكبر لكَ.
ارفعْ راياتِكُ وشعاراتِكَ الاحتفاليّة، في وجهي وموكبي الشريف. وحينَ نحطُّ رحالنا من جولتنا الكرنفاليّة، التي لوّحنا فيها بأيدينا تحيّةً لك على خلاصِكَ لي في العذاب والمُعاناة، ونجلسُ على مقاعدنا الوثيرة الناعمة لنُسْمِعَكَ خطبَ مثقفينا الطائرة، وأدعيّة أئمتنا الطائرة بدورها، في مجاليْ الإنجاز المُحقّقِ و الأمل الطموح. قُمْ أنتَ بدورَك بالرقص لي، قليلاً، ومن بعدِ ذلكْ قُمْ بسائِرَكَ فاقتعِدَ الأرضَ، ولوّحْ براياتِكَ ذات الألوان الأمليّة الفاقدة للأمل رغم أيَّ شيء. ومن بعدِ ذلك كله جهّزْ آذانَك كلها لتسمعَ وتسمعَ مراراً وتكراراً فراغاتي وموكبي العظيم حتى تتقيّاَ فراغاً-كلامياً مُنمقاً تدجيلياً.
انشِدْ مع أطفالَ المدارِسْ-أطفالَك نشيدَك الوطنيّ المهرجانيّ، المأخوذ تنازعياً بحيرة التوجه إلى الوطن الدنيويّ أو إلى اللّه أوآل شيخ سيديا الكبير. وحينَ تمرُّ على تلك المقاطع غير اللاّئقة التي توصيكَ بنصرانِ الحق ونكران المُنكر دائماً اقرأها في داخلِكَ فقط- إنني فقط أنصَحُكَ، ياشعبي العظيم. فكما تعرفُ نحنُ الآنَ في ظرفٍ هامّ ولسنا بحاجةٍ للمشاكل المُكدّرة. ولكن لاتنسَ في النهاية أن تقولَ: البركة في بكار ولد اسويد أحمد وسيد محمد ولد عيده، وباقي المُقاومين العظماء، وفيَّ أنا أيضاً".
- فقراتٌ تمَّ حذفها من خطاب الجنرال لتهنئة الشعب، بمناسبة عيد الاستقلال المجيد، في تلفازه الرسميّ، وعلى الأخصّ في مكتبه الآثم به، ذا الخلفيّة المُزيّنة بـ "الأغاني" لأبو فرج الأصفهاني، الشاكي بحرقة من سوء الجوار وعزلة المقام هناك.
**
أيامٌ قليلة، هي الفارق الوحيد، بيننا وبين وقت الاحتفال بالعيد الوطنيّ، المُسمّى عيدُ الاستقلال. سنرى خواءً كبيراً، سنرى فراغاً كثيراً يبحثُ عن معنًى له، ولكن دون جدوائية. سنرى ألواناً زاهيّة عاجزة عن تصديقِ نفسها بنفسها، ونرى تمظهراتٍ كرنفاليّة مُبالغ فيها إلى حدٍ بعيد. تأبى إلاَّ أن تُبثتَ بطريقةٍ ما، أنها زائفة وفاسدة المسعى.
منذُ مجيئه الأوّل بانقلابٍ عسكريّ في السادس من أغشت عام 2008 كانت للجنرال عزيز طموحاتٌ كبيرة يُحاوِلُ من خلال تحقيقها النفاذ إلى قلوب الموريتانيين- الشعب الذي خذله خذلاناً ساحقاً، عندما نسفَ جهوده المُتحققة، ممثلةً في إجهاضِ تجربة ديموقراطيّة مدنيّة نزيهة، كلفته الكثير من الخيبة والأمل المعلق وفقدان الثقة، تُعدُّ من أفضل التجارب الديموقراطيّة القليلة جداً، التي عاشتها البلاد، في تاريخها السياسيّ المُكتظّ بالانقلابات العسكرية والأحذية الثقيلة المُزعجة. في نفس السياق، من العام الـ 2008 كان قد بدأ بترتيبِ مهامِه وأنشطته الفراغية الفارغة المُفرغة. بعد ذلك بأشهر، عندما أطمئنَ قليلاً بأنَّ مؤخرته لاصقةٌ شيئاً ما بالكرسيّ، ولكن هنالكَ ردود فعلٍ غاضبة، محلياً ودولياً، أخذَ يُفكّر في طريقةٍ يُسكتَ بهَا تلك الردود المُزعجة، وفي نفس الوقتِ لكي يضمنَ ثقةً كانت مستحيلة في الشارع الشعبي القلق والمُحتقن. هناكَ أهداهُ عقله، بفعل الصدفة وتخطيطٍ استتراتيجيّ أعمى، إلى فكرة الانتخابات، أي صناديق الاقتراع فقط، بالتحديد التقليدي الناقص لدى فاعلي الشأن السياسي لدينا، وهو تحديدٌ سينشطُ عليه الجنرال فيما بعد، لاسكاتِ مُعارضيه.
كان العام الـ 2009 عاماً مُحمّلاً بالخيبة ونقيضها في نفس الآن. الخيبة كانت للشعب عندما أعلنَ الجنرال الدخول في انتخاباتٍ رئاسية، ولم ينعزل لسلاحه وحزامه وأوامره ونواهيه الفوقية (طالما فعلها الأوغاد!) كعسكريّ سابق، وحالي، وأبديّ أيضاً. ونقيضها لأنَّ الجنرال كان طموحاً إلى حدٍ تفاؤلي ساذج. لقد كان يرى مُستقبل سيطرته اللّعينة قادماً، والواقع وفق رؤيته حينها لايملكُ إلاّ الأذعان أمام جبروته. هكذا كانُ حالُ طرفا الصراع، الثنائي القطب، تقريباً، فغالبُ الأحزابُ السياسيّة غير مُتحدّدة موقفياً بشكلٍ جديّ وراديكاليّ، يُميّزها عن جوقة المشهد السياسي آنذاك. في نفس العام، وقبل الانتخابات تلك المُرتجلة، نزلَ الجنرالُ للهامش الشعبيّ، لكن ليس لغرضٍ ثوريّ إنما لغرضٍ غاية في المحافظة. كان الجنرال قد قررّ زيارة الدّاخل المحليّ، للترويج لبرنامجه الانتخابي ومهدويّته المنقذة معاً. فيما بعد، تصادف أنه زار الطينطان يوم الاستقلال الوطنيّ، الموافق الـ28 نوفمبر من نفس عام 2009، وكانت الذكرى حينذاك الـ49. كان يوماً صعباً، اعتقدَ فيه ساكنُة المقاطعة أنَّ بعض الفرج يقدُم عليه، لكنهم بعد تعدّي الزمن ذلك، تبين لهم أنهم كانوا مخدوعين بشكلٍ كبير. كان شيوخُ القبائل هناك كعادتهم قد انضمُّوا للنظام العسكري الجديد، الذي بيده مفاتيح الدولة ومغاليقها، ولديه حزبُها الرسميّ الحديث الولادة آنذاك. كانوا يُطبّلون بحماسٍ شديد، وكانت جماهيرهم المربوطة بربقة القبيلة-الدّم النّسبيّ، قد أُحضِرتْ على نحوٍ قواديّ لتجشيع هذا العسكريّ المترشح للرئاسة. لقد كان حفلاً استقبالياً ضخماً حضرته القبيلة والتّجار ومابين أتباع الصنفين من الفاقدينَ للاستقلاليّة الذاتية في وطنٍ بحاجةٍ لاستقلالٍ جذريّ حقيقي. أحْد مُطبّلي القبائل المُستقبلين في ذلك اليوم أخذ الميكرفون على مرأىً من الجميع وقال مامفاده أنَّ عزيز رجلُ تحرير وحُرية. جاءهم في يوم التحرير والاستقلال الوطني وجاء لموريتانيا ليُحرّرها من الفساد والمُجرمين. كانَ ربطاً زمنياً ماكراً جداً صفقت له جميع الدّمى الحاضرة حتّى تلك المُرافقة للجنرال. ففي تلك الأيّام كان الجنرال عزيز يشحنُ ويشحذُ بشكلٍ مُبالغٍ فيه خطابي: "محاربة الفساد" و "رئاسة الفقراء" التضليليْن. دَرجةً أنَّك توقظ بالَك، قليلاً أو كثيراً، لتفتّش عن مغزى الأمَر.
فيما بعد أيضاً حين فاز حزبُ الجنرال بالانتخابات بعد أن تمَّ تزويرها على نحوٍ مكشوف لصالحه، بدأ الجنرالُ يُدرجُ طموحاته الأولى تلك، داخل قائمة المشاريع الأولى الواجبة التحقيق. وكانَ أحد تلك المشاريع. مشروع/تاريخ المقاومة. أيْ مأسستُها، وإعادة كتابتها، وأدلجتها سياسيا-بمعني التوظيف، وتوزيعها بشكلٍ جديد، وشحنها بطاقاتِ المجد والعز حدَّ الانفجار. يبدو أنه ظنَّ نفسه وريثاً شرعياً بانقلابه العسكري لمُقاومي الاحتلال الغاشم عندنا. لقد ظهرَ لأوّل مرة، في الخطاب المتلقي، وكأنه أوّل من يلقي بالاً للأمر من الرؤساء. والحقُ أنَّ ذلك صحيحٌ شيئاً ما. فخطاب إعلاء الماضي السحيق، مقابل تسفيل الحاضرالضّاغطِ، ترسّخ لأوّل مرة معه. والخطابُ ذلك هو خطابٌ إيدلوجي بحت. واضح المقاصد، علنيّ التقنيات. إنه خطابٌ ملء الخواء، خطابُ الأسطرة-التجهيل، خطاب توظيف المنتهي في القادِم، خطاب التضييع والدّخول في فراغاتٍ مُعلقة، والرجوع لزمنٍ انتهى والقيام فيه، بدلاً من التوّجه بشكلٍ مباشر إلى الواقع المتأزم، والانهماك في شؤونه.
والآن لن نعدَم، من يدافع عن ذلك الخطاب وممارساتِه. بل إنَّنا سنرى من يراه الأفضل على الإطلاق. ويرى أنه سدَّ ثغرة كبيرة كانت قائمة في علاقتنا مع ماضينا. ومنهم من يراهُ الخيرَ المطلق، متجاهلاً مساعي التجهيل والتضليل والاستغلال فيه.
السؤال التالي: أيُّ شيءٍ هيَ احتفاليّةُ الاستقلال الكرنفاليّة في جوهرها؟ يقودُ بنا إلى مواطنَ مُحرّكها الأوّل الفطنة، لاتلبثُ تُسلِّمُنا بدورها بعضاً من حقيقةٍ كُبرى كانت مُغيبة ولاتزال. إنَّ الاحتفاليّة الكرنفاليّة الخاصة بالاستقلال، هي في حقيقتها الأعمق، كذبةٌ رديئة، ولكنها مُفيدة ونافعة، لمن؟ للنظام الحاكم، أو بصيغةٍ أصّح للمنظومة الحاكمة، على جميع الأصعدة، السياسية، الاجتماعية، الثقافية. كيفَ؟
نحنُ تمجيديّون. تعلقنا بالماضي أكبر من تعلقنا بالحاضر. لذلك لانبالي بحاضرنا إلا من باب أنه ظلٌ لماضٍ مجيد، استخلافُ لأسلافٍ عظماء، أو من بابِ أنه من الممكن أن يتحوّل حاضرنا إلى صورةٍ طبق الأصل من ماضينا الغابر. لاعتبار أن ذلك الماضي هو مُحرّك ومركز إدراكنا للعالم، وأساسُ رؤيتنا إليه. من ثمَّ لاعجب إن تلقفنا كلَّ ماله شأنٌ به بطواعية عمياء، وأقمناه مقام التقديس، ليس لأنه ذلك الماضي عينه، وإنّما لأنه يُشيرُ إليه على نحوٍ ما.
تلك الإشارة إلى ماضينا، هي باختصار نوعُ العلاقة معه. لكن أيُّ أطراف تُشير إليه؟ أيًّ نوع من العلاقة؟ هنا يأتي السؤال: هل نحنُ بعدُ على علاقة من هذا النوع بماضينا المتناول؟ نفرق هنا بين فترتيْن في صميم المتناول، الأولى-المقاومة، والثانية-زمنيّة الاستقلال. ينبغي أن يكون شعورنا إزاء مقاومينا مطبوعٌ بالإحترام. أي أننا نحترمهم وندين لهم بالشكر الجزيل بالإضافة إلى نقدهم أيضاً، فهم في النهاية ماقاموا إلا بالواجبِ عليهم. والذي هو: الدفاع عن أرضهم. فالوطن/الدولة مفاهيمٌ كانت يومذاك خارج قاموس السياق، في مرحلةٍ منه، على الأقل. وهي المرحلة الأولى، التي لم تواكب دعوات ونضالات التحرر الثوريّ من الكولونياليّة في العالم، الإفريقي والعربي منه خصوصاً. أما زمنيّة الاستقلال، كنتاجٍ صميميّ مباشر للمقاومة (هنالك أيضاً وعيٌ عام عن المقاوممة بأنها جهادٌ في سبيل الله ذا خلفيّة دينيّة خالصة في الأساس) كممارسة تحرريّة هو في النهاية أيضاً زمنيّة رمزيّة شديدة الخصوصيّة بما تعنيه لنا، على مدار تاريخ وجودنا. وأقولُ أنّها لاتزيدُ على ذلك فقط، على الأقل في مثل هذا الظرف الحرج، زيادةً على ذلك يجبُ محاولة فتحها على المستقبل بُغية إكمالها دائماً حتى تبلغ أوّجها، فنحنُ إلى اليوم لم نستقلّ بعدُ بشكلٍ كامل. فماحصل هو في النهاية: أنَّ المستعمر الأصل زال صُورياً، وبقيت له أيادٍ طويلة خفيّة بالبلاد، ثم أنَّ أشكال الاستعمار تنوعت وتعدّدت. فأصبحنا تحت استعمار شيوخ القبيلة والعسكر ورجال الأعمال. وهي استعماراتٌ مختلفة كلياً لكنها خطيرة.
ذلك هو المفترض أنه هو شكلُ علاقتنا بماضينا في نوعه المتناول، المقاومة ثم الاستقلال. لكن ماذا عن شكل علاقة السلطة الحاكمة به؟ إنَّ اهتمام السلطة الحاكمة، وكما هي عادة الأنظمة السلطوية الفاسدة جميعاً، يُبيّن جيداً، شكل تلك العلاقة التي تربطها بذلك الجانب من ماضينا وارتباطه بالحاضر، في استرجاع الذكرى وغيرها. إنها علاقةٌ توظيف واستغلالٍ وتضليل. هكذا هي في كلماتٍ موجزة. فالإهتمام المُبالغ فيه، ذا الطابع المهرجانيّ الاحتفاليّ، هو في الغالب ذا مغزىً تضليلياً خطيراً، لاينوي على أكثر من إحكام السيطرة السلطوية إلى مالانهاية.
واليوم، نحنُ نرى الأمور واضحة، بشكلٍ كبير. فالمبلغ الضخم الذي خصصته السلطة العسكرية-القبلية المتحكمة لإجراء احتفالات عيد الاستقلال، في ذكراه الخامسة والخمسين، والمتمثل في (6 مليارات من الأوقية) يكشفَ الحقيقة عالياً. خاصةً وأن الواقع المعيشي للمواطنين في تأزمٍ كارثي صعب، فعلى جانبه هناك الارتفاع الجنوني للأسعار، و تدني خدمات الماء والكهرباء الرديئة، هنالك أيضاً وضعُ التعليم السيّء، ومثله الصحة المريض. فإلى اليوم مازالت الحُمى النزيفيّة-الضنكية تُمارسُ شراستها القاتلة على مكونات الشعب الموريتاني المنسيّ، مع تجاهل الدولة لها، ونفيها لها علناً في القنوات الرسميّة، في واضحة النهار. والحُمّى القاتلة هذه هي حلقةٌ من حلقاتٍ عدة من المعاناة مرِّ بها الشعب الموريتاني في الظرفيّة الأخيرة دون أيَّ اهتمامٍ مُضادٍ لها من طرف الدولة، بسلطتها المتحكمة، على أيَّ مستوى كان. فالمستشفيات أضحت أشبه بمجازر جاهزة، والمرضى يتراكمون على الأبواب دونَ أن علاجٍ- دواءٍ مُحترم. يحصلُ هذا في تواقتٍ تام مع الفساد المُمنهج للثروات الوطنيّة، على كافة المستويات من طرف الثلة الحاكمة، التي تُمارس الاستطباب والاستجمام الراقيان في الخارج، بالعالم المتقدّم، تاركةً الشعب المنسي في هذا الجحيم المُشتعل مُعاناةً. كأنَّ القسمة تنزلت من عند اللّه على هذه الصيغة. كما يقولُ ويرى بذلك قدريّو التأبيد العُمي. وفي الحقيقة، فإنَّ الاحتفالات المهرجانيّة المرتقبة، والخاصة بعيد الاستقلال المُستأنف في ذكراه ماهي إلا سياسةٌ تضليليّة لنا، كسائر السياسيات التضليليّة التي برع النظام العسكري-القبليّ المتحكم في انتاجها ومُمارستها، بعد أن أوكلَ على رعايتها غالبية المثقفين ورجال الأعمال والدين والإعلام كي يُباركونها. وهي سياسةٌ ماكرة تستهدفُ تضليلنا عن واقعنا المتأزم كُلياً، حيثُ نغدو فاقدين للأمل، مُعلقين في ماضٍ سحيق، لانملكُ إزاءَه إلا الفخر الفارغ، بينما نحنُ في واقعنا اليوميّ نُطحنُ باستمرارٍ على كافة المستويات، ونواجه تحدياً حقيقياً، فيما يخصُّ الوجود والمصير، المعيشة والمستقبل. طارحين السؤال التذمريّ الأبرز: متى الخلاص من كل هذه المعاناة؟
فهنا على بعدِ رؤية واحدة ثاقبة: كل شيءٍ في نزيفٍ حادّ. حتى نحن؟ هذا ما تتأكّدُ منه عندما تُقلّب النظر قليلاً في هذا الواقع، واقعنا: نزيف شاملٌ. بلدٌ ينزف. لذلك السبب الموغل بعيداً في واقعيّته المؤلمة، لابأس، إن قلنا بوضوحٍ جليّ: أنَّ النزيف هو سمةُ حالنا. حيثُ الأمورُ نزيفيّة، إلى حدٍ مُرعب يتطلّب منّا، لنُعايشها، قدراً كبيراً من: اللاّمبالاة التامّة. وهو مايفوقُ عالياً مُدّخرنا البشريّ-الطبيعيّ منها، في ظل ضغط الواقع الشديد المُلح الشاملِ لكُلِّ شيءٍ عندنا حتى أكثر الأشياء بساطة، من ذوات الصلة الأساسية بوجودنا الحياتيّ. وذلك بديهيّ جداً، فكون بلدٍ ما ينزف، فإنّ ذلك يعني في الأساس أنَّ النزيف تسللَّ إلى أعماق ساكنته، وتأصَّل فيهم دون أن يشعروا به، عبر نقاط حياتهم المركزية الضرورية، كالمعيشة، الصحة والتعليم والأمن..الخ؛ وهي نقاطُ كلها في حالةٍ نزيفيّة حادّة، تأتي هي نفسها ضمنَ نزيف شامل لهذا البلد المحمول على الألم والمعاناة.
في النهاية، هذه وصية للزمن:
ارفعوا/ارفعنَ قرونَ البقرات العِجاف في وجه الملهاة هذه، صلّوا وحجّوا بأقدامِكم/بأقدامكنّ من أجل التغيير إلى الأحسن، الأفضل.
نقلا عن مدونة الكاتب