عندما ينتحر المنطق

سبت, 2014-11-08 10:23
عبير ياسين

سنوات طويلة تفصل ما بين تعريف سعيد صالح العبقري في مسرحية «المشاغبين» للمنطق بأنه السقوط بعد تلقي ضربة على الرأس، حيث يسقط الشخص ويغيب «المنطق»، وبين تناول عادل أمام لشخصية الزعيم وما تحمله من منطق خاص بكل من وما يحيط بالزعيم من أشياء وبشر. 
سنوات تفصل بين تلك الصور وظروفها المحيطة، وبين الواقع الحالي الذي يعيدنا بكوارثه، رغم حزنها الشديد، للكوميديا واسقاطاتها لنجد أن المنطق تلقى ضربة قوية فقد بعدها القدرة على الوجود البناء في المحروسة، وأصبح وجوده متقطعا، وفقا لصورة الزعيم ومن يحيط به، وهو يحصي عدد الخطب الحماسية والأناشيد المؤيدة لفكرة، بقاء الوطن من بقاء الزعيم، وموت الشعوب أفضل لها.
واقع يحاصرنا وهو يشهد من يمثل وجها ثقافيا وأدبيا بارزا، متحدثا عن إغلاق الجامعات لسنوات حتى تتوقف المظاهرات. ويؤكد أن الحاكم هو سبب بقاءمصر! لا يهتم كثيرا، على ما يبدو، بخطاب تفتيت الاستبداد، والسلطوية التي يراها بعيدة عنا بعدة سنوات، والتي من شأنها أن تتيح للمجتمع الفرصة للعمل على تجنبها، وربما يجد الوقت مناسبا لبعض الكتابات من أجل تلك الفكرة خلال السنوات التمهيدية التي ستمثل بدورها فرصة لترويج تلك الأفكار حتى تنمو أوضاع وأفكار أخرى. خطورة لا ترتبط بشخص معين في السلطة، وخطاب يتشابه مع حديث متكرر يربط الوطن بالحاكم، بما فيه من تقليص لمكانة الوطن وتعظيم لمكانة ودور الشخص، حالة تتجاوز أحيانا التماهي إلى تعظيم الحاكم نفسه في صورة الأب الذي يصعب تخيل حياة الوطن بدونه فتصبح السلطوية حتمية.
واقع نشهد فيه أصواتا متنوعة وهي تطالب علنا بالقتل والدم، من دون انتظار لمحاكمة أو محاسبة وفقا للقوانين.. كلمات تخرج عالية الصوت تعبيرا عن ضعف الحجة، وتجد في كل بقعة دم ولحظة ألم فرصة لترويج الغابة الانتقائية -ان جاز القول – حيث التعامل بقسوة مع البعض والمطالبة بالرحمة للبعض الآخر. كلمات لا تختلف عن خطاب الثأر وما يحمله من فكرة التعميم في العقاب، والتركيز على الإبادة كحل أول ووحيد، من خلال مقولات الحرب التي تغطي الفضاء الإعلامي المصري بكل صوره، والتي لا تخلو منها أحيانا حتى برامج الطهي وغيرها من مساحات الحوار المفتوحة، التي ترى الفضاء فرصة لترويج خطاب الدم. دم افتراضي يراق طوال الوقت ويستحل الحديث عن كل الأشياء التي تخص الاعداء – وفقا لهذا التصور- بطريقة تتجاوز الانسانية والحقوق والمبادئ والقوانين وغيرها من أسس بناء الدول الحديثة، باسم الانتقام للضحايا وللوطن. خطاب يتجاوز حقيقة أساسية، هي أن الغابة ليست وطنا، وأن التطور يفترض أن يحوّل حياة الغابة إلى وطن وليس العكس.
أصوات إعلامية ارتفعت عاليا وهي تنتقد ثورة يناير، ثم تؤيدها وتعود لتنتقدها بالطريقة نفسها التي ارتفعت فيها في كل كارثة، لتنتقد من يجلس على كرسي السلطة خلال فترة حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي، ثم لتركز بعده على انتقاد الشعب وإخلاء السلطة السياسية من المسؤولية عن تلك الكوارث والأحداث. أصوات لا ترغب في انتقاد وزير في منصبه حتى لا يتسع مجال الانتقاد لغيره، على الرغم من أنها بدأت بانتقاد السلطة من أعلى إلى أسفل في ما سبق. مات جنود في رفح أيام مرسي وتم تحميله المسؤولية، ومات جنود بعده ولكن من دون توجيه الانتقاد للمناصب نفسها التي سبق وتم انتقادها. لم يكن مرسي سائقا لقطار أسيوط في نوفمبر 2012، ولا عبد الفتاح السيسي سائقا لأتوبيس البحيرة في نوفمبر 2014، كما لم يكن الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك سائقا لقطار الصعيد المحترق في 2002، ولكن تلك الحقيقة البسيطة لا تعني غياب المسؤولية أو التساؤل عن المحاسبة والدور الذي يفترض أن تقوم به السلطة في مواجهة تلك الأحداث، لأن إصلاح الوطن لا يتم من دون محاسبة. ولأنها احداث متشابهة، مع اختلاف تفاصيلها وعدد ضحاياها، فإن المقارنة بين التعامل الإعلامي معها لا يمكن التجاوز عنه. الأحداث تبدو متشابهة، والدم على الأرض مصري بلا شك، ولكن التفسير والتحليل والتبرير الذي يقدم للمواطن يختلف، وفقا لأجندات متغيرة، فيبدو التناقض واضحا وساخرا أحيانا لأنه في صميم المشكلة الأصلية، وهي عدم توحيد المبدأ الذي يقاس عليه والتعامل بشكل انتقائي حسب اللحظة والمرحلة، تماما كما هو حال الانتقاء في خطاب الدم.
حوادث متعددة في المدارس منذ بداية العام الدراسي، راح ضحيتها عدد غير قليل من الطلاب، ولكن ما تم تأكيده أن مصر ليست اليابان وأن ما يحدث لا يقود المسؤول للاستقالة. أما الإقالة فلم تكن مطروحة، ورئيس الوزراء يتحدث عن ضرورة مراعاة الحالة النفسية لوزير التعليم، لأنه فقد ابنا له من قبل. حديث تحول بعد حادث أتوبيس البحيرة إلى قضية كرامة وطنية، من خلال ترديد البعض لخطاب رفض استقالة أو إقالة المسؤولين، لأنه تعبير عن الخضوع للإرهاب، كما يرى البعض، أو لصعوبة إيجاد من يتحمل المسؤولية بعد هذا، كما يؤكد البعض الآخر. تبدو الأسباب المقدمة واهية ولكن في ظل وفاة المنطق والحرب الكبرى تصبح عين الصواب!
وزير كهرباء يتحدث عن حل مشكلة الكهرباء وتوفير أموال كثيرة للدولة بعد خمس سنوات، بإلغاء الدعم عن الكهرباء كليا، مؤكدا على ما يعبر عنه هذا الموقف والتصريح من شفافية. ولنا الحق أن نتساءل عن معنى الشفافية وعن مفهوم التوفير، إن كان على حساب المواطن، وأن نطرح السؤال المهم عن تماشي تلك القرارات مع وجود مخططات لتحسين حياة المواطن وإصلاح القوانين ومراجعة الأثر المحتمل للقرار دوريا قبل تطبيقه، وفقا لدراسات جادة من عدمه. لا ينظر المسؤول إلى اليابان، النموذج المكرر الإشارة إليه، ورئيس الوزراء يكرر مرات ومرات أنه يبحث الوضع الاقتصادي عن كثب قبل رفع ضريبة الاستهلاك من 8٪ إلى 10٪ عام 2015، مع استمرار دراسة أبعاد رفعها عام 2014 من5٪ إلى 8٪، ودراسة تأثيرها على السوق والمواطن. يظل القرار مؤجلا وقائما على أساس دراسة الواقع الاقتصادي وحال المواطن وانعكاس القرار على مستوى المعيشة، وليس الاكتفاء بقرارات تتخذ في المكاتب المغلقة بعيدا عن قراءة حالة المواطن ومستواه المعيشي، وكأن عليه أن يتصرف وحده في مواجهة صعوبات الحياة.
المواطن فعليا عليه أن يتصرف وحده في الكثير من الأحيان، ولكن في أحيان أخرى عليه أن يتصرف وفقا لرؤية السلطة.. فلا يتظاهر معارضا لأنه يضعف الدولة، ولكن يمكن أن يتظاهر مؤيدا وأن يرفع الأحذية العسكرية (البيادة) على رأسه ورؤوس أبنائه، تعبيرا عن مواطنة وولاء مفترض لا يعرف أن الولاء الحقيقي ابن الحرية الذي لا يعيش ويزدهر بدونها. وأن الإهانة وترويجها ليست إلا جرحا عميقا ونازفا في الوطن. مواطن شاب يتم توجيه الانتقاد له بأن عارض ودافع عن الحقوق والحريات، ولكن تطالبه السلطة بالتدخل لدعم المدارس والمستشفيات لأنه الأقدر على البناء، لما لديه من رؤى وقدرات.. هي نفسها الرؤى والقدرات التي تعيد إنتاج الكراسي الموسيقية في اختيار الاسماء المعبرة عن النظام والمقربة منه والمتحدثة باسمه، في الكثير من التفاصيل المحيطة بالمشهد، ضمن دائرة متكررة من الاسماء الممتدة من مراحل تاريخية سابقة ونظم سياسية يفترض أن تكون مختلفة.
يحاصرنا واقع قد يصعب فهمه، لأن القراءة والفهم يحتاجان إلى منطق واتساق، ولكن في غياب المنطق يصبح من الصعب الفهم وتصبح كل الأشياء ممكنة، بما في ذلك أن تجتمع المتناقضات في جملة واحدة. ولكن العزاء أن تلك اللحظة لا تدوم وأن الغيمة قد تصبح مطرا يوما ما، والمطر قد ينبت شجرا، والشجر لا بد أن يثمر يوما وطنا أكثر حبا لأجيال قادمة، لازالت قادرة على التمسك بحلم أوطان للانسان لا تعرف معنى الغابة ولا الحرمان.