بن علي البوركيني هرب!

سبت, 2014-11-08 10:32
مالك التريكي

إذا كان هنالك من يتذكر النداء الشهير الذي ظل يطلقه المحامي عبد الناصر العويني في قلب تونس العاصمة ذات ليلة من عام 2011 «بن علي هرب! بن علي هرب!» ـ ذلك النداء الذي صار لازمة تلفزيونية وسمت لحظة تبدو اليوم كأنها ملحمية – فلا بد إذن أنه لاحظ أيضا أن رئيس بوركينا فاسو «بليز كومباوري هرب! بليز كومباوري هرب»!

واللافت أن بين بن علي التونسي و»بن علي البوركيني» تشابها من ثلاثة وجوه على الأقل: أولا، التلاعب المتكرر بالدستور للاستمرار، كل خمسة أعوام، في منح النفس خمسة أعوام أخرى في الحكم. ثانيا، العمل الممنهج على تنفيذ برنامج الخلود على عرش الاستبداد وعلى ضمان إثراء العائلة بإفقار البلاد إلى حد استنفاد صبر المواطنين، وخصوصا الشباب منهم، ودفعهم دفعا إلى التحرر من عقدة الخوف ومطالبة الرئيس الأبدي بالانصراف. أما وجه التشابه الآخر، فهو أن كلا الرجلين قد استولى على الحكم بالانقلاب على رئيس شرعي. بل إن الانقلاب العسكري على توما سانكارا في بوركينا فاسو قد وقع قبل ثلاثة أسابيع فقط (15 تشرين الأول/أكتوبر 1987) من «الانقلاب الطبي» على الحبيب بورقيبة (7 تشرين الثاني/نوفمبر 1987) في تونس.

كان توما سانكارا زعيما محبوبا وذا شعبية عارمة في «وطن الشرفاء»: بوركينا فاسو التي كانت تعرف باسم فولتا العليا قبل وصوله إلى الحكم يوم 4 آب/أغسطس 1983 في انقلاب عسكري على الرئيس السابق جان باتيست وادراوغو (الذي لا يزال على قيد الحياة).

كان هدف الانقلاب، حسبما أعلنه سانكارا، هو إنهاء 23 عاما من حكم الاستعمار الجديد وإقامة «دولة ديمقراطية شعبية». ولا شك أن شعبية سانكارا، الذي كان يتميز بالجاذبية (الكاريزما)، إنما تعود أساسا إلى أنه أحدث قطيعة مع تشكيلات ما قبل الدولة ـ وذلك بإلغاء امتيازات زعماء القبائل والعشائر والعائلات الكبرى المتنفذة منذ ما قبل العهد الاستعماري ـ وإلى أنه خطى خطوات جادة على طريق إحلال دولة التنمية الاقتصادية والرعاية الاجتماعية، خصوصا للطبقات الفقيرة وللفئات الشبابية والنسائية. كما أنه كان محبوبا في عموم القارة السمراء، بل إنه كان بمثابة «النجم» في منطقة إفريقيا الغربية، نظرا لحماسته لفكرة الوحدة بين الشعوب الإفريقية.

وقد كان من مشاهد بوركينا، التي أتيح لي أن أزورها أكثر من مرة، مشهد لن أنساه: ذلك أني رأيت في مكتب مدير مدرسة ريفية متواضعة صورة لتوما سانكارا معلقة على الجدار بجانب صورة لتشي غيفارا. كان ذلك عام 2011 أو 2012، أي في عز حكم بليز كومباوري (حيث أن توما سانكارا قد صار، منذ أن انقلب عليه رفيق السلاح وقتل في ملابسات لا تزال غامضة، عدوا للأمة بطبيعة الحال! ولم يعد من المنصوح به أن يذكر المرء اسمه مجرد الذكر). كانت المدرسة في عمق الريف النائي، حيث القحط والفقر المدقع. وكان معظم الأطفال، إن لم يكن جميعهم، يأتون إلى المدرسة وبطونهم خاوية لأن البيوت ليس فيها طعام. وكان السبب الأهم، إن لم يكن الوحيد، لتنازل العائلات وقبولها بإرسال أطفالها إلى المدرسة – بدل الاستعانة بهم في فلح الأرض مثلما جرت العادة – هو أن المدرسة كانت توفر لهم وجبة غداء يومية في إطار برنامج ترعاه الأمم المتحدة.

بل إن العائلات صارت تقبل بما كان يعدّ، حتى الماضي القريب، عيبا أو عبثا: أي إرسال البنات أيضا إلى المدرسة. لماذا؟ لأن المدرسة قررت، في إطار التشجيع على تعليم البنات، منح البنت ضعف وجبة الولد، بحيث أن البنت تتناول وجبة في المدرسة ثم تعود بوجبة أخرى إلى البيت. وقد أخبرني مدير المدرسة أنه متأكد أن الوجبة المنزلية هذه تستخدم لإطعام بقية أفراد العائلة. سألته: هل كان في يد الأهالي من حيلة أخرى لولا هذا البرنامج الغذائي؟ قال: كلا. كانوا سيعانون هم وأطفالهم الجوع ونقص التغذية حتى موسم الحصاد. معاناة تتكرر بمعدل خمسة أشهر كل عام. ثم فتح كراسات بعض التلاميذ في امتحانات الفرنسية والرياضيات ليريني كيف أن هذا الشظف الباعث على القنوط لم يثبطهم عن الاجتهاد والتفوق في الدراسة.

قلت باسما: ما قصة سانكارا؟ أطلق تلك القهقهة الإفريقية المحببة وقال: لن ننسى سانكارا أبدا. إنه زعيمنا الوطني الأوحد. لو بقي، أو لو ثبتنا على الأقل على نهجه، لما كان أهلنا في هذا الضنك من العيش. سألت: ألا تخاف من الوشاة يبلغون عنك أنك لا تزال تؤمن بالثورة بدليل تعليقك صورة «عدو الرئيس» بجنب صورة تشي غيفارا؟ ضحك وقال: من الذي سيتجشم هذا العناء؟ لم يحدث منذ سنين أن زارني أي متفقد من وزارة التربية! هذا مكان ناء ليس على خارطة أحد!