أنا رايح شرم» ليس فقط الهاشتاج الذي تصدر «تويتر» إثر سقوط الطائرة الروسية، ولكنه قرار شخصي- عائلي دونما ادعاء أي بطولة، حيث أنني كنت قمت بالحجز مبكرا للحصول على أسعار تناسب الميزانية.
وعلى الرغم من أن تاريخ استئناف الرحلات من بريطانيا إلى شرم مازال غامضا، إذ يتراوح بين أسابيع وشهور طويلة، إلا أنني مازلت، ومعي كثير من الأصدقاء والأقارب الذين اتخذوا قرارهم لاحقا، لأسباب وطنية أو عاطفية، نقولها.
«أنا رايح شرم» رغم الصدمة والضجة الإعلامية الملفقة التي جعلت أخبار هذه المدينة الصغيرة المحببة إلى كل من زارها، بغض النظر عن جنسيته، تتقدم فجأة على أخبار الحروب الأهلية والصراعات الدموية في الشرق الأوسط والعالم، وتشغل بال زعماء دول حول العالم، وكأنه لم تسقط لهم طائرة من قبل.
«أنا رايح شرم» لأنني أعرفها جيدا منذ كانت منتجعا متواضعا نائما بين البحر والجبال، وحتى توسع ليصبح هذه المدينة المبهرة. وقد رأيتها عندما كانت في أوج ازدهارها قبل نحو عشرة أعوام، ولم تكن فيها غرفة واحدة فارغة، كما رأيتها بعد شهور قليلة من الثورة عام 2011، وهي خاوية على عروشها. ويخطئ من يظن أن سقوط الطائرة هو الكارثة الأولى أو الأخيرة، التي ستضرب السياحة المصرية، كما يخطئ أيضا من يظن أن العالم يمكن أن يغيب طويلا عن كنوز مصر السياحية، سواء كانت ثقافية أو الشاطئية. أما الخطأ الأكبر فهو أن يتوهم البعض أن عملا إرهابيا كهذا، كما اعتقد شخصيا، يمكن أن يركع مصر أو يحقق أهدافا سياسية، سواء داخلية أو إقليمية.
«أنا رايح شرم»، كواحد من الملايين الذين لم يتوقفوا عن الذهاب إلى مصر تحت أي ظرف، تماما كما كنت أذهب في أوج معارضتي لنظام الرئيس المخلوع حسني مبارك، قبل أن تمطر السماء أبطالا بعد ثورة يناير، رغم المضايقات والملاحقات والتهديدات. ولا يعني قرار الذهاب أبدا أنني أوافق على أسلوب تعامل النظام المصري مع سقوط الطائرة، الذي لم يقل كارثية عنه أحيانا. ولنتوقف هنا عند نقاط محددة:
اولا- أخطأ النظام في التعامل مع الكارثة منذ اللحظات الأولى، عندما عمدت بعض أبواقه إلى بث أخبار كاذبة بهدف إبعاد شبهة العمل الإرهابي، ومنها أن (الطيار طلب هبوطا اضطراريا في مطار شرم الشيخ)، وهو ما يرجح العطل الفني. وكأن مصر لا تخوض حربا ضروسا ضد الإرهاب، ومن الوارد أن تتلقى ضربات كهذه، أو أنها البلد الأول أو الأخير الذي يمكن أن يعاني من ضربة كهذه، أو كأنها تقع في قلب أوروبا، وليس في قلب منطقة تقطع فيها الرؤوس وتأكل فيها القلوب، ويقتل فيها الأبرياء بمئات الالاف، ويهجر منها الملايين عبر البحار والصحارى. ولا يعني هذا التقليل من حجم الكارثة، ولكن محاولة لإيضاح أن التعاطي الملتبس قد يؤدي احيانا إلى تعميق المأساة.
ثانيا- ومن ضمن هذه المقاربة القائمة على الإنكار، قرر الرئيس عبدالفتاح السيسي إتمام زيارته إلى لندن بعد ثلاثة أيام من الكارثة، لتبدو الأمور وكأنها طبيعية، وهي لم تكن كذلك ابدا. وبغض النظر عن مزاعم تنظيم «داعش» التي مازلت اعتبرها كاذبة لحين ظهور دليل عليها، فقد أهمل النظام رسائل واضحة تشير إلى أن سقوط الطائرة جاء بعمل إرهابي، منها تاريخ الكارثة، أي الحادي والثلاثين من اكتوبر، وهو التاريخ نفسه الذي سقطت فيه طائرة مصر للطيران قبالة سواحل نيويورك عام 1999. وكذلك موقع السقوط، الذي أريد له أن يكون في قلب سيناء حتى يتصدر الأنباء وهكذا يمكن إلحاق أكبر ضرر ممكن بمصر وسياحتها، وأخيرا كونها طائرة روسية، مع أن عشرات الطائرات من مختلف الجنسيات تغادر مطار شرم يوميا، إلا أن روسيا وحدها بدأت مؤخرا حملة ضربات جوية مكثفة قي سوريا. وحسب المحلل السياسي البريطاني باتريك كوكبرن، وهو خبير في الشرق الاوسط، فإن «إسقاط الطائرة الروسية يعكس مدى تضرر «داعش» من قسوة الغارات الروسية في سوريا». ولا يمكن أن يكون هذا كله مجرد مصادفات. وكان الأولى بالرئيس المصري تأجيل زيارته إلى لندن للتعامل مع هذه الكارثة.
ثالثا- إن الاستمرار في نهج «احتواء الكارثة» بدلا من مواجهتها لن يعيد السياح إلى شرم أو غيرها، اذ أنهم لا يشاهدون القنوات المصرية التي حولت هذه المجزرة التي راح ضحيتها 224 إنسانا بريئا إلى مناسبة أخرى للغناء والرقص وابتزاز المشاعر الوطنية عبر الادعاء انه ليس بالإمكان أبدع مما كان، وإننا نتعرض لـ«مؤامرة غربية»، بدون أن يسأل أحد: وما هي مصلحة روسيا، حليفتنا الأقوى حاليا، في دعم تلك المؤامرة؟ كما لم يجرؤ أحد على المطالبة بمراجعة شفافة وكاملة ليس فقط لأمن المطارات، وهو أمر واجب يجب أن يحدث بشكل مستمر وغير متوقع، بل بمراجعة قضية السياحة من أساسها، خاصة أنها يمكن، ويجب، أن تكون الحل السحري للأزمة الخانقة التي يعرفها الاقتصاد، بسبب نقص العملة الصعبة. وكأنه لا توجد عندنا مشاكل في معاملة السياح منذ وصوله إلى المطار، وحتى مغادرته، سواء الابتزاز أو النصب أو الملاحقة أو بلطجة (كما يحدث من أصحاب الجمال عند الأهرامات) على مرأى من رجال الشرطة المتواطئين غالبا.
رابعا – أن زيارة السيسي إلى شرم الشيخ، وإن جاءت متأخرة، إلا انها يجب أن لا تكون مجرد مناسبة لالتقاط الصور مع السياح أو اطلاق التصريحات، يجب أن تنتج استراتيجية شاملة، تشمل عناصر ثقافية وسياسية وامنية واقتصادية، للتعامل مع قضية السياحة باعتبارها قضية حياة أو موت، أو حسب التعبير الذي يفضله البعض في مصر «قضية أمن قومي».
أما اول وأهم ما يجب ان يفعله النظام فهو الشفافية الكاملة بالنسبة للنتائج، وإذا أراد أن يقول المحققون الأجانب علنا انهم يرجحون القنبلة، فليكن، بدلا من أن يغيبوا عن المؤتمر الصحافي فتبدو مصر وكأنها تريد اخفاء شيء ما. وبغض النظر عن كنه تلك النتائج فإن المسؤولية تحتم على النظام، وبمشاركة خبراء دوليين، مراجعة إجراءات الأمن، أو تغيير الترتيبات الأمنية بالكامل لطمأنة الجميع. ولا أزعم أنني خبير أمني، ولكنني اتمنى أن تعتمد المطارات المصرية، كما في دول اوروبية، على شــــركات أمنية خاصة تدفع رواتب مجزية لموظفيها، بدلا من بعض عناصر الشرطة التي تقبض قروشا قليلة وقد تضعف نفوسها، فيما تتعامل يوميا مع سياح ينفقون آلاف الدولارات. واخيرا وليس آخرا، يجب اعادة الاعتبار للسائح الذي يأتي إلى مصر حبا فيها رغم كل هذا، بحمايته بالقانون ونشر الوعي الثقافي قبل تكثيف الوجود الأمني أو العسكري الذي يقلق ولا يطمئن كما يظن البعض.
واخيرا، ومن غير اعتماد مقاربة جديدة كهذه، فإن مصر مقبلة على أوقات صعبة في توقيت حرج، تتزاحم فيه الكوارث والازمات، ما يحتم التحرك قبل فوات الاوان.