الشعر الحسَاني المغربي وخصوصية تجربة «التبراع»

اثنين, 2015-11-16 23:48
 زهور كرام

عندما ظهرت «الكتابة النسائية» باعتبارها مصطلحا معرفيا وثقافيا، لم يكن القصد منها تأمين المطلب الدفاعي والنضالي لأحقية المرأة في التعبير الرمزي، كما لم تكن تعني الاهتمام بالمرأة باعتبارها موضوعا للإشكالية التاريخية، وإنما كان القصد الثقافي المفهومي من مصطلح الكتابة النسائية الاقتراب من التفكير النسائي عبر وسيط الإبداع. 
لأن هذا المصطلح ينتعش في الخطاب الرمزي، ويتحقق هدفه في التخييل باعتباره حاملا للتصورات الذهنية والتمثلات الاجتماعية والثقافية، التي تأخذ شكلا وترتيبا نظاميا في الإبداع يجعلها منتجة للرؤية، وبالتالي فهذا المصطلح يفقد أصالته وشرعيته، عندما يتم تعميمه على كل الخطابات المعرفية والثقافية والعلمية التي تُنتجها المرأة. وارتباط مصطلح الكتابة النسائية بالخطاب الرمزي، له علاقة بوظيفية هذا المصطلح الذي يتوخى البحث في تصورات المرأة، وتمثلاتها للأشياء، وهي إمكانيات لا تتحقق إلا عبر الوسيط الرمزي الذي يُشخص الرؤى والتصورات بشكل لا إرادي، أي بالوعي الأدبي. وبالعودة إلى تاريخية اشتغال هذا المصطلح في التجربة العربية – مع التأكيد على تفاوت الوعي به وباستعماله – فإن الاشتغال بهذا المصطلح معرفيا ومنهجيا، ساهم في إنتاج تصورات جديدة، ليس فقط عن المرأة إنما، أيضا عن الرجل والمجتمع، لأن الوعي بالمرأة من خلال خطاب تمثلاتها، سمح بإدراك الخطابات الأخرى، كما سمح بالاقتراب من ظواهر ومكتسبات ثقافية واجتماعية، لم يكن الوعي بها ممكنا مع إهمال العناية بهذه الخطابات باعتبارها منتجة للرؤية. عندما نذكر شعر «التبراع»، فقد يثير هذا الشعر، وقبله هذه التسمية» التبراع» دهشة، قد تصل إلى حد الاستغراب من وجود شكل من الشعر تحت هذه التسمية، نظرا لكونه غير حاضر في الدراسات الشعرية، مما يطرح تساؤلات حول معنى الكلمة، وهوية الشعر الذي يُنظم باسمها، وبنية القصيدة، وطبيعة اللغة التي تنظمه، لكن، عبر وسيط « الكتابة النسائية»، نستطيع أن نقترب من هذا الشعر عبر مدخل المرأة باعتبارها منتجة هذا الشكل من التعبير الرمزي، ويسمح لنا هذا المدخل للتعرف على عينة من التصورات التي لا ترتبط –فقط- بالمرأة، إنما بالمجتمع وبخطابات أخرى. 
يعد « التبراع» شكلا شعريا، تنظمه المرأة المغربية الحسانية وفق شروط فنية ومعرفية، ومستوى لغوي ينحت منطقه من الحسانية، ويأتي هذا الشعر تعبيرا خاصا لصوت المرأة، يُعبر عن رؤيتها. بدون أن يعني ذلك، عدم كتابة المرأة في الأنواع الشعرية الأخرى. فالشاعرة الحسانية مثلها مثل الشاعر الحساني، تنظم في كل أنواع الشعر الحساني المعروف بـ»لغن»، غير أنها تتميز بشكل «التبراع»، الذي يُعبر عن حالتها الشعرية الخاصة، وعبره تُقدم تعريفا بذاتها، ليس عبر تمجيد الذات، والانتصار لضميرها، أو عبر تحويل ذاتها إلى موضوع منظور إليه، إنما تأخذ المرأة – الشاعرة في شعر «التبراع» موقع الذات الفاعلة في نظم الحالة، وإدخال الآخر/الرجل إلى الشعر باعتباره موضوعا منظورا إليه من قبل الشاعرة. ولعل هيمنة موضوع الغزل على شعر التبراع، في ارتباطه بالرجل الذي تُحوله الشاعرة إلى منظور له، يمنح لهذا الشعر خصوصية ثقافية واجتماعية، باستطاعتها أن تجعلنا نُعيد النظر في بعض التصورات التي نحملها عن المرأة، وتُحفزنا للبحث عن كيفية تطوير هذه الخصوصية في خطابنا الثقافي حول المرأة وما يُرافقها من تصورات. كما يتميز هذا الشعر بظاهرة الاسم المجهول للشاعرة. فقائلة «التبراع» تظل مجهولة الاسم بالنسبة للمجتمع، والوسط الثقافي، ولذلك فإن التعبير من خلال هذا الشعر، يشكل فضاء آمنا للمرأة، لكي تعبر بحرية وجرأة، و من خلال لغة بسيطة وواضحة عن مشاعرها تجاه الرجل، كما تصفه في تعبيرها وفق حالتها. يصبح الاقتراب من قصيدة «التبراع» اقترابا من سياق ثقافي اجتماعي رمزي معين. لا نقرأ شعرا عاديا، تبدعه النساء في جلساتهن، ويأتي مختلفا عن المألوف في النظم، إنما نتعامل مع شكل تعبيري، ينظُم الشعر رؤية نسائية، فيساهم بذلك، في تعبيد الطريق أمام فهم المجتمع، وتعاقداته الاجتماعية، ومكتسباته الثقافية والتاريخية. وبهذا فشعر التبراع يعد خزَانا لمجموعة من التصورات والقيم والمفاهيم، سواء تلك التي ما تزال تُحدد العلاقات الاجتماعية في مستوى المعاملات، أو التي بدأت تتلاشى، وتفقد حضورها في الحياة العامة، والممارسة اليومية والثقافية، مثل مفهومي الجمال، والأناقة في المجتمع الحساني. كما يعد هذا الشعر ملتقى للغات وأساليب وتعبيرات، باعتباره فضاء له القدرة على احتضان مختلف التعبيرات المغربية المحلية، والعربية والأمازيغية، وأحيانا أخرى الأجنبية، ولعل ذلك يعود إلى قدرة الشاعرة على نظم الحالة الشعرية، باستدعاءاتها اللغوية والتعبيرية، من جهة، وإلى طبيعة الشعر الحساني/ لغن بشكل عام، والذي عُرف بمزجه – في كثير من نماذجه – بين لغات ولهجات عديدة.
كما يتحول شعر التبراع إلى حقل انثروبولوجي- ثقافي، لكونه يُمكننا من التعرف على الجغرافية والثقافة الحسانيتين؛ وعبرهما، نلتقي بخصوصيات السياق المحلي، الذي بفضل دعمه التاريخي والعلمي والثقافي، مكَن المرأة من إمكانات حقوقية واجتماعية جعلتها، قلب الحياة العامة، وداخل منظومة مفهوم المواطنة. ولذا، يصبح السفر إلى/في التبراع، سفرا في موضوع المرأة المغربية الحسانية، من خلال، موقعها في السياق الاجتماعي الحساني، الذي يمنحها امتيازات حقوقية اجتماعية، ثم عبر الدور الذي تقوم به في محيطها الأسري والاجتماعي. إن تحليل خطاب شعر التبراع، يُتيح إمكانية قراءة خطابات مُجاورة، تُميز السياق الاجتماعي، وتُقدم تصورا حول الاجتهادات الدينية الفقهية التي جعلت علماء المنطقة، يتجاوزون التصورات الجاهزة حول المرأة وحقوقها، ويقترحون تصورات جديدة، تمنح للمرأة قيمة إنسانية، ترقى بموقعها كشريك في الحياة، ثم اجتماعيا وتربويا، عبر التربية الاجتماعية والتعليمية، التي تُدعم وتنتصر لثقافة احترام الرجل والمجتمع للمرأة. وتضعنا هذه المكتسبات التي تتجلى في الشعر، أمام مفاهيم مختلفة في الدلالة والتصريف (مثل الطلاق، الشراكة، المناصفة، احترام المجتمع/الرجل للمرأة…) عن تلك التي تُرافق المرأة في بقية السياقات الاجتماعية العربية، التي بالإمكان استثمارها، لصالح تجربة السياق المغربي المتعدد والمتنوع. إن قراءة شعر التبراع الحساني المغربي، الذي تنظمه المرأة بدون تعيين اسمها، وتنتصر فيه لذاتها الفاعلة في التعبير عن المشاعر، من خلال هذا السفر الثقافي الأنثروبولوجي، يجعلنا نطرح من جهة أسئلة نقدية أدبية مثل: ألا يُمكن للمنجز الإبداعي، كيفما كان نوعه، أن يتحول إلى موضوع للدرس النقدي، وتحليل الخطاب، بغض النظر عن اسم مؤلفه؟ ألا يمكن للإبداع أن ينتشر، ويصبح له قراء ينتظرون سماعه وقراءته، بدون الوقوف عند اسم مؤلفه؟ ومن جهة أخرى أسئلة ثقافية- سياسية مثل: لماذا نظل نبحث عن مفاهيم التحرر من خارج السياق المحلي، ولا نعتمد المكتسبات السياقية؟ كيف نستطيع أن نُعيد النظر في مكونات الذات الجماعية، واستثمار إيجابياتها، وجعلها دعما وظيفيا للتطور؟ إلى أي حد نستطيع أن نجعل من الإبداع وسيطا للوعي بتحولات التصورات الذهنية؟ تلك بعض الأسئلة الضمنية، التي تُرافق عملية التذكير بموقع المرأة الحسانية في الفكر الفقهي والتعليمي والاجتماعي والثقافي، والتي تتجلى في شعر التبراع شكلا وخطابا وثقافة. إن الاهتمام بهذا الشكل التعبيري، وتقديمه وفق سياقه التكويني، من شأنه أن يجعلنا ننفتح على الطبيعة الفسيفسائية للإبداع المغربي، التي تنعكس على الخطاب بكل أنواعه، وتجعله ينفتح على مكوناته. ولعل كتاب «التبراع الشعر النسائي الحساني المفهوم السياق الدلالة» للكاتبة والناقدة المغربية العالية ماء العينين، الذي سيصدر قريبا، سيفتح النقاش النقدي والشعري حول شعر التبراع، وطبيعة منتجه، هل يتعلق الأمر بشاعرة واحدة، أم شاعرات كثيرات ينظمن القصيدة نفسها. إن الحفر في ذاكرة إبداع المجتمعات، والانتصار لكل إبداع على حدة، من خلال الاهتمام به دراسة وتحليلا وتنظيرا، يُساهم في تحصين الذاكرة من التلف التاريخي، أو الضياع مع منطق العولمة الثقافية.