إثر العملية "الإرهابية" ، التي استهدفت "شارل أبدو" المتطرفة ضد الاسلام ونبيه، كنت كتبت مقالا بعنوان "رسالة إلى فرانسوا هولاند" ذكرت فيها المغالطات والأكاذيب المغمورة بالدموع المزيفة التي يستثمرها ساسة الغرب وحكامه للتعمية على شعوبهم بالتعتيم على جذور "تطرف" "الحركات الجهادية" ضد الغربيين، عموما، ولكن أيضا ضد الأغلبية المسحوقة من المسلمين. فكما هي مدانة عملية " شارلي" فكذلك هي مدانة بأشد العبارات عملية تفجيرات باريس ، لأنها لا تنسجم مع تعاليم الاسلام الدافقة بالرحمة والمحبة والرأفة والتسامح وفتح القلوب بالقيم الانسانية المشتركة، بغض النظر عن قسوة المخالفين في الرأي والدين. ولذلك، استهدفت هذه العملية " الإرهابية" الأبرياء ، الذين لا علاقة لهم بعنف حكام الغربيين ، وليسوا على علم، فيما ما يبدو، بحجم الظلم والجرائم التي يرتكبها هؤلاء بحق اكثر من مليار من المسلمين ، وأكثر من ثلاثمائة مليون من العرب.
وكما كذب افرانسوا هولاند على الفرنسيين ، من قبل ،في أسباب عملية " شارلي ابدو" ، فهو يكذب عليهم في تفجيرات باريس، حين يعزو أسبابها إلى أن " الإرهابيين" يعارضون قيم فرنسا في الحرية والعلمانية ، أي إلى المخالفة في القيم. أو انهم يسعون بإرهابهم لتغير نمط الحياة في الغرب، كأن يغير الغربيون نوعية أكلاتهم ومواقيتها أو أسلوب الاستمتاع بالحياة على طريقتهم. ولو كان الأمر كذلك، لرأينا "الإرهابيين" يستهدفون دولا غربية تختلف معهم أكثر، بهذا المنطق الأخرق، مثل اسويسرا والسويد والنرويج وهولاندا، واللائحة طويلة. بل إن رعيا روسيا ظلوا في منأى من الإرهاب " الاسلامي" إلى أن تورطت في حربها الإبادية بحق الشعب العربي السوري. ف " الإرهابيون" لا يضحون بأنفسهم على هذا النحو العنيف ليقتلوا " قيمة الحرية" او " العلمانية في فرنسا أو لإجبار الفرنسيين على تطبيق أسلوب حياة مخالف لما تعودوا عليه. فهذا كلام فارغ لا معنى له، وإنما هو من باب المغالطات التي يضخها ساسة الغرب في أذهان العوام من شعوبهم. والرئيس الفرنسي ، فرانسوا هولاند، يعرف ، كما يعرف ندماؤه من حكام الغرب، أن أفعال " الحركات الجهادية" هي رد فعل إرهابي أهوج وأعمى ضد فعل إرهابي أقسى واعنف وأظلم وأقدم وأدوم وأشمل وأفتك يرتكبه حكام الغرب ضد المسلمين في كل مكان، وبخاصة في تدخلاتهم الحربية المدمرة في المنطقة العربية. ألا تبا للإرهاب، مهما كان مصدره؛ فلقد أبكتني فرنسية حين كانت تحكي عن لحظة الانفجار في باتكلان ، عندما شاهدت لحم البشر يتناثر أمام عينيها. إنها، بحق، لحظة رعب شديد وقسوة ما بعدها قسوة.. إنها لحظة موت الانسانية في الانسان ، ولحظة انتفاء الرحمة في قلوب البشر. ولقد بكيت، أيضا، حين رأيت فرنسية قادرة على البكاء بالدموع على مواطنيها، لأن نساءنا جفت في مآقيهن الدموع لفرط ما بكين على أبنائهن وأزواجهن وإخوتهن وآبائهن ، بالآلاف، منذ أكثر من قرن من الزمن ، على أيدي حكام الغرب ، الذين لم تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلا. فالفلسطينيات والعراقيات واللبنانيات واليمنيات والليبيات ما عدن يمتلكن الدموع ليبكين. فغدد الدمع فيهن تعطلت، بل ماتت، والمصائب ما عاد لها أثر على عواطف البشر في هذه الرقعة من العالم ، لأن القتل الجماعي، اليومي بالصواريخ والقنابل ، بزنة الأطنان، على الأسواق والمدارس والمساجد وكل أماكن التجمع، يحدث مع وجبة الإفطار والغداء والعشاء . أما القتل بالرصاص والمتفجرات والمفخخات فهي توابل ومكسرات ومشهيات للموت لابتلاع مزيد من أطفالنا ونسائنا وشيوخنا وشبابنا في ارضنا.
لقد بكيت، مرة أخرى، حين سمعت كبير فريق الجراحين في مستشفى جورج بومبيدو، يتحدث عن أنه لم يشهد عملا بهذه القسوة . وعرفت أن هذا الجراح، المسكين، لم يتح له الإعلام الغربي فرصة مشاهدة ضحايا ملجأ العامرية في العراق،بالمئات، الذين اختلطت لحومهم بالإسمنت وقضبان الحديد ، وبالطين وماء الأرض؛ تلك الجريمة البشعة التي ارتكبتها أكبر دولة في العالم، وأكبر دولة وقائدة للقيم الغربية – الولايات المتحدة الأمريكية – ولم ترتكبها مجموعة إرهابية، بل رؤساء دول و"أبطال قوميون" يذرعون كوكبنا دون خجل ولا وجل، لأنهم يمتلكون الوقاحة مع القوة. وعرفت أنه لم ير قط جرائم الاحتلال الصهيوني المتواصلة منذ اكثر من سبعين عاما ضد الشعب الفلسطيني ، قتلا بالجملة وسحلا وتشريدا وسجنا وتعذيبا ونفيا . لم يعلم باحتلال العراق ولا بما قامت به أمريكا وحلفاؤها الغربيون من إبادة شاملة لشعب كان آمنا مطمئنا في وطنه؛ فحطموا حضارته ونهبوا ثرواته ، دون ذنب. لقد عرفت من دموع الفرنسيين أن الطيبة والانسانية خاصيتين أصليتين في الانسان، من حيث هو انسان. .
ولكن الشعوب الغربية مرتهنة في ظلمة قفص شديد الإحكام من التعتيم ، مثلما حكم على المسلمين بالجهل والاضطهاد. ولذلك باتت هذه الشعوب ضحية لطاحونة من إرهاب مزدوج : إرهاب حكام الغرب وإرهاب مجاميع التطرف الديني. ومن حق الفرنسيين البكاء على ضحايا الإرهاب ومن واجبنا الانساني ، نحن المسلمين صادقين ، البكاء معهم حتى يدركوا قيمة الانسانية التي فقدوها لطول ما تمتعوا به من نعمة الأمن العافية في أوطانهم ، ولحجم التعتيم الاعلامي الذي يفرضه ملاك الاعلام في الغرب على ما ارتكب هؤلاء الحكام ضد العرب والمسلمين. أجل.. فنعمة الأمن و العافية المتراكمة تعمي البصر وتعطل البصيرة وتقتل الشعور بالرحمة إزاء الآخرين. فتصوروا أمة لم تبك منذ الحرب العالمية الثانية ، أي منذ سبعين سنة خلت. أي أن جيلا كاملا من الفرنسيين لم يعرف البكاء ؛ أقصد البكاء على الأمة. وفي المقابل، تصوروا أمة لم تعرف إلا البكاء، أعني العرب الذين لم يضحكوا ، باستثناء البلهاء والعملاء منهم، منذ قسم سايكس وبيكو وطنهم ، وفرضوا عليهم التشرذم بالقوة. أي أن ثلاثة أجيال من العرب لم تعرف الفرح والمرح. . وتصوروا أمة لم تنعم يوما بالأمن ولعافية في ديارها ولم تترفه ، يوما، بثرواتها التي نهبها الغربيون ، أولا باسم الاستعمار، وتاليا، بالسطوة وفرض العملاء. إن الأمة الفرنسية النابضة بالحياة تقدر على البكاء على ضحاياها، لأنهم في نطاق القابل للتعداد، أما العرب الميتون فيزيائيا ومعنويا فلا يقدرون على البكاء ، ولا يملكون إلا النظر الجامد إلى جلاديهم. فالأمة الفرنسية، إذن، تمتلك حق فرض الحياة لأبنائها وحق انتزاع هذا الحق مع الشرف من غيرها، بينما لا يسمح للعرب والمسلمين الأموات إلا بحق الاستسلام لمشيئة أعدائهم.
وبالعودة إلى تفجيرات باريس الوحشية ، لا يفوت المحللون في فرنسا الحديث عن إرهاب " الحركات الجهادية" الناتج، في أذهانهم الجامدة، عن الاختلاف في العقيدة مع الغرب وعن المعارضة لقيم الحداثة في الغرب. ولكن، ما يغيبه المحللون، عن قصد وإصرار، في تحليل أسباب الإرهاب هو قضية فلسطين واحتلالها من عصابات وشذاذ آفاق ما فتئ الغرب يدعمها في ظلمها وتنكيلها بشعب كامل، بل بالتنكيل بأمة بأسرها خدمة لهذا الكيان الغاصب، دون اعتبار لسند قانوني أو قيمة انسانية. ليس هذا فحسب، فحكام الغرب الذين يبكون ، اليوم، على ضحايا باريس من الإرهاب الديني ، هم أنفسهم الحكام الذين تحالفوا ، سرا وعلانية، لنشر الفوضى بإطاحة الدولة المدنية الحديثة التي أقامها حزب البعث في العراق، واسسوا للفتنة الطائفية في هذا البلد. وبعد ذلك، حطم الإرهاب الغربي دولة مدنية في ليبيا المترامية الأطراف ، وسلموا زمامها لمجاميع الارهابيين وشذاذ الآفاق، لفجروا، بذلك العمل الإرهابي، اشكاليات التطرف الديني بين مكونات هذه الدول. فالذين أسقطوا هذه المدنية هم الذين يغتالون العقل المدني والحديث في الوطن العربي وفي العالم الاسلامي ليغرق العالم في متاهة التطرف وردات الفعل الغرائزية البدائية، غير المسبوقة في التاريخ. فعندما يقوم حكام الغرب ، في بداية ما أسموه بالربيع العربي، بتشجيع وتسليح والترويج للمجاميع الدينية المتطرفة ، فإنهم كانوا يسعون ، بقصد، لتغليب جانبها وأطروحاتها في ذلك الحراك الشعبي ؛ وليهيئوا الأرضيات المناسبة لخلق مجتمعات متناحرة في دويلات دينية تتصارع باسم المقدسات، ومن ثم لا بد أنهم يتوقعون أن يتطاير شررها إليهم. فالغرب ، من جهة، لا يريد قيام دول حديثة في العالم الاسلامي عامة والعرب خاصة؛ بل يريد أن تبقى مجتمعاتنا تتخبط في الجهل والظلامية ،لأن قيام دول حديثة متعلمة من شأنها أن تبني مجتمعات بطبيعتها رافضة للرجعية الدينية ، التي هي " القوة الضاربة للإمبريالية والصهيونية"، ورافضة من جهة أخرى لمشاريع الغرب غير المشروعة في ثرواتنا. وهكذا يسعى هذا الغرب، في أيامنا هذه، إلى استبدال دول الرجعية الدينية بدويلات دينية راديكالية تقوم على تنازع المقدس وتتقاتل من أجل كسب" المطلق"، فيما يعمل، من مستوى آخر، لبناء" واقيات من الحريق" على حدوده، بعد امتصاص الكفاءات العلمية من المهاجرين الهاربين من الجحيم، وإعادة العوام منهم إلى بلدانهم بحجة قابلياتهم ل"الدعشنة".
حاصل القول إن تفجيرات باريس هي عمل إرهابي مدان ، لأنه إرهاب طال بشرا أبرياء ، ولكن المسؤولية فيه تقع على حكام الغرب ،أولا، الذين يصدرون في سياساتهم وسلوكهم ، إزاء العرب والمسلمين ، من تطرف ديني وظلم سياسي ونهب اقتصادي وتدخل عسكري وحشي خارج عن حدودهم، مهما اختبأوا خلف الصياغات . فالغزو العسكري للغربيين خارج بلدانهم هو ما يجر الويلات والإرهاب والكراهية عليهم. إن على الشعوب الغربية أن تمارس الضغط على حكامها ليراجعوا مواقفهم الظالمة خصوصا حيال قضية فلسطين، وعلى هذه الشعوب أن تدرك أن " الكيان الإسرائيلي" الغاصب لفلسطين شكل وسيشكل، في المستقبل، عبئا جهنميا، أمنيا واقتصاديا وأخلاقيا على شعوب الغرب وعلى البشرية، مالم يرفع هذا الظلم، ولو طال الزمن. إن حركات الارهاب الجهادي وحكام الغرب الارهابيين هن ملتان تتخادمان ويغذي بعضهما بعضا. ف" الجهاديون" لن يعدموا آلاف الشباب ، في ظل مواصلة حكام الغرب لجنونهم ضد القضايا العادلة للعرب والمسلمين، لتجنيدهم في مشروعهم ، وحكام الغرب لن يعجزوا، بحجة مكافحة الارهاب الاسلامي، عن تعبئة العواطف وتجييش المشاعر بين شعوب الغرب لتحريضها على الاسلام والمسلمين.
وهكذا، يظل "الارهاب الجهادي" يكتتب انصاره من أكثر من مليار من المسلمين عبر العالم، ويظل حكام الغرب يدفعون بعدد مماثل من الغربيين إلى الكراهية . وبالنتيجة ستجد البشرية نفسها في فرن لا طاقة لأحد بإطفائه. فتعالوا ايها الغربيون لتبكوا معنا مرة واحدة على ضحايانا في فلسطين ، رمز معاناتنا، لنبكي معكم ألف مرة على ضحاياكم في عمليات " الإرهاب الجهادي" أينما كان، وكفوا عنا بأسكم في ديارنا ، لنقف معكم إلى الأبد..