في زفة العرس الديمقراطي

ثلاثاء, 2015-11-24 00:01
 عبير ياسين

يقول مارك توين «الولاء للوطن دائم طوال الوقت، لكن الولاء للحكومة يحدث عندما تستحقه»، كلمات بسيطة واضحة تميز بين الولاء للوطن بما يفترض فيه من ثبات واستمرار، والولاء للحكومة أو الأشخاص وهو ولاء متغير مرتبط بالإنجاز، وبدرجة أوضح بالأدوار المخولة لهم وجدارتهم بتوليها وأدائهم فيها. 
هذا التمييز الواضح بين الوطن وغيره من أشخاص يغيب أحيانا كثيرة أو يغيب بشكل متعمد عن الساحة المصرية، وما يشابهها من نظم تصر على أن الدولة هي النظام، أو مؤسسة من مؤسساته، أو هي الحاكم، ثم تحول الحاكم إلى هدف بذاته يجب الولاء له وعدم مساءلته أو انتقاده، ثم تتسع الدائرة لتشمل كل من وما يحيط بالحاكم، وكل ما يخص الحكم أو النظام من اسماء.
صورة الخلط الواضح بين الدولة ككيان وغيرها من الشخصيات والمؤسسات تبدو واضحة في الكثير من الأحيان، ولكنها في مرحلة ما بعد 30 يونيو تبدو أكثر وضوحا في كل ما يتعلق بفكرة حشد الجماهير، كما هو الحال مع الانتخابات التشريعية التي تشهدها مصر.
إن كان المواطن لا يرغب في الذهاب للانتخابات، يتم دفعه لهذا بمسميات كثيرة تحت يافطة كبيرة تحمل اسم الوطن والدين. إن كان المواطن لا يرى أن هناك إنجازا حقيقيا فإن هذا لا يهم، لأن المطلوب هو حماية الوطن، وإن كانت لا توجد خدمات، أو لا يشعر بتحسن في الخدمات المقدمة لا يهم، لأن المطلوب هو حماية الوطن، وإن لم يجد من هو جدير بالانتخاب لا يهم، لأن عدم المشاركة في الانتخابات جريمة أشد من ترك الصلاة، وغيرها من مقولات وتفسيرات وتبريرات تحمل عصا لها طرف اسمه الدين وطرف اسمه الوطن، حيث العقاب حاضر لمجرد الغياب.. كل الأشياء ترتدي ثياب الوطن مثل الحفلات التنكرية، رغم أن الواقع شديد الوضوح، وعلى طريقة تحرك الشباب اللبناني ضد القمامة، وضد السياسات التي أفرزت الأزمة، للواقع رائحة لا يمكن التجاوز عنها.
يتحول الحاكم إلى الوطن والحكومة إلى الوطن وكل مؤسسة قابلة للتحــــول إلى درجــــة الوطن، حيث لا مساءلة ولا محاسبة أو مكاشفة علنية، والمواطن مجرد طرف في طوابير الانتخابات، حتى إن كان طرفا في طوابير لا تنتهى لخدمات لا تصل وإن وصلت لا تصل بشكل آدمي أو متساو أو عادل. 
الكل يدفع في اتجاه واحد وهو ضرورة المشاركة في الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية بالتصويت، عبر التوجه إلى اللجان. يعود خطاب ضرورة المشاركة بكل ما يحيط به من نقاش وصراخ أحيانا. مقولات تتجاوز ما يمكن تصوره من منطق ولا تقتصر على نوعية معينة من المشاركين. وما بين الخطاب الديني والسياسي والإستراتيجي والإعلامي، لابد أن يرى المواطن في نفسه المشكلة الكبرى لأنه يساهم في ضياع الوطن مرات، سواء بانتخابه للإسلاميين بمشاركته في الانتخابات بعد ثورة 25 يناير، أو بغيابه عن الانتخابات وتركه اللجان فارغة بعد 30 يونيو.
الغياب الواضح في الانتخابات يهدد التغطيات الإعلامية القائمة على حديث العرس الديمقراطى والطوابير الممتدة والثقة في الحاكم، التي تعبر عنها تلك الطوابير إن وجدت، وإن غابت تقدم بوصفها مجرد تعبير عن كسل وتكاسل المواطن، بدون أن تعبر عن حالة السياسة والحكم. ولأن الصراخ غطى على النقاش في الكثير من الجدل الدائر، فقد وجد من يعرف نفسه بمقدم إعلامي قادم من العمل الإكاديمى – بدون أن يتركه- ان المشاركة في الانتخابات لا تختلف عن أداء واجب العزاء. تخريجة إضافية للأحاديث التي يفترض أن تساق بها الجماهير للانتخابات، التي وصلت إلى حد تكفير من لا يشارك، واعتبار المشاركة في مرتبة الصلاة والغياب في مرتبة عقوق الوالدين. لا يتوقف من يقول هذا أمام الفارق الضخم بين واجب العزاء وما يترتب عليه، وبين المشاركة في الانتخابات بشكل عام وفي السياق المصري بشكل خاص وما يترتب عليها.
تتوقف المشاركة في واجب العزاء، بعيدا عن سياقها الديني، إلى القيام بدور اجتماعي وتوطيد أواصر العلاقات أو تحسينها، ولكن الاصطفاف في طوابير الانتخابات يساهم في رسم لوحة العرس الديمقراطي بما تحمله من شرعية، وتغذية صورة التفويض التي ظهرت واضحة في حديث عبد الفتاح السيسي -المرشح الرئاسي- عن حاجته إلى 40 مليون مشارك في الانتخابات قبل ان تنشغل اللجان في رحلة البحث عن الناخبين.
أما تخريجة العزاء فقد قدمت على أنها وصفة متكاملة للضمير، فالمشاركة واجبة مثل العزاء، والغياب يحدث بسبب التكاسل فقط والمواطن عليه أن يختار أي مرشح وإن لم يجد الجيد فعليه ان يختار الأقل سوءا! المهمة واضحة ومشابهة لغيرها من الخطابات، فالمطلوب ببساطة أن تذهب إلى اللجان وأن تتحول إلى رقم وصورة تؤكد على الشرعية المفتقدة. لا يتوقف الأكاديمي عند هذا الحد ولكن يصر على ألا معنى من طرح سؤال ما الذي يمكن أن يستفيده المواطن من المشاركة، لانه مجرد واجب عزاء. ولكن أحد الاسئلة المهمة التي يتجاوز عنها هو ما الذي سيخسره الوطن من تلك المشاركة الشكلية، الدعائية الاستخدام التي تشعر المسؤول في كرسيه بالاطمئنان، في حين تظل المعاناة من نصيب المواطن.
يكرر البعض معنى ان الحاكم لا يرتبط بحزب انتخابي وبالتالي فإن النتيجة في حد ذاتها لا تخص السلطة، ولكنها من أجل الوطن واستحقاق خريطة الطريق. ولكن ما يغيب عن تلك الرؤية ليس انفصال الحاكم عن حزب سياسي من عدمه، ولكن منهج التعامل مع فكرة المشاركة بالحضور، التي تتحول إلى حديث التفويض والتأييد، حيث يترتب على المشاركة بالحضور بدون اقتناع أو قبول بالسياسات أو الرضا عنها، المشاركة ضمنا في تغذية معزوفة العرس الديمقراطب.
تساهم الصفوف في إضفاء شرعية إنجاز غائبة وفي ايصال رسالة قبول وثقة مشكوك فيها. ولكن، إن كان المواطن غاضبا فمن الطبيعي ألا يشارك وأن يكون غيابه أو مشاركته بالغياب عن التصويت أشد تعبيرا من الأحاديث التنظيرية التي تتحدث باسمه بدون ان تعبر عنه.
قد تتعدد أسباب غياب المواطنين، لكن غياب الجماهير عن الانتخابات له قيمة سياسية ومعان مهمة يصر البعض على التجاوز عنها والتركيز على اتهام المواطنين بالتكاسل والتشكيك في وطنيتهم ودينهم. في حين أن الغياب عن التصويت أو العزوف الانتخابي له دلالات سياسية مهمة ومتنوعة، بداية من الشك في النظام الانتخابي أو الاحساس بأنه قائم على التمييز، وصولا للرغبة في عدم إضفاء شرعية على الانتخابات او النظام القائم. قد يرى البعض أن الغياب في الحالة المصرية لا يقع تحت تلك التفسيرات، وربما تتعدد الأسباب ضمن الجموع التي لم تشارك، لكن المؤكد أن الغياب له معنى أكثر قيمة من اتهام المواطن في وطنيته ودينه وأخلاقه. وإن الخلاف الدائر على تفسير الغياب وما يحيط به من اتهامات ضد المواطنين من شأنه أن يشكك في مقولات الإعلام نفسه الذي يمجد المواطن في لحظة حضوره، ثم يشن عليه حملة متنوعة ومستمرة في لحظة غيابه، وما بين تلك الصور يدافع عن السلطة. نعم، الغياب لا يسبب عدم الأخذ بالنتائج، ولكنه يؤثر على الشرعية ويؤثر على قيمتها ومعناها، خاصة لدى المراقبين. وفي إطار معين يؤثر على مفهوم العرس المعاد استخدامه.
يبدو العزاء الحقيقي واضحا في صورة متداولة لمريضة تنام على أرضية مستشفى أثناء مرور ممرضة بجوارها، بدون أي رد فعل. الصورة تبدو للبعض مكررة من مسلسل الإهمال، وبغض النظر عن اسم المستشفى فهي تعبير عن مستوى الخدمة وعن كل ما مر من حكومات وأعضاء برلمان ومحافظين ووزراء، وبشكل عام عن المنظومة التي يصرخ الجميع في وجه تلك المواطنة وغيرها أن عليها ان تصطف من أجلها في طوابير العرس الديمقراطي، وهي تفكر في عالم آخر من موقعها على أرضية المستشفى في انتظار عالم أكثر عدلا ووطن أكثر اتساعا قائم على ولاء دائم للوطن ومحاسبة دائمة لمن يحكمه.

٭ كاتبة مصرية