المرأة والتعديل اللغوي في كتابات النهضة

اثنين, 2014-11-10 23:36
زهور كرام

تتحدد وظيفية أي خطاب معرفي- ثقافي بمدى استيعابه طبيعة ونوعية المُخاطب. ويتمثل ذلك في حسن تدبير وضعية المرسل إليه في الخطاب، وجعله مكونا منتجا لنظام الخطاب. يحدث الأمر عندما تكون الذات المُخاطِبة على وعي ثقافي بأهمية المرسل إليه في تحقَق خطابها. نلتقي بهذا المستوى من الخطاب في بعض كتابات المرأة العربية زمن النهضة. 
تشكل مقالة الكاتبة سارة نوفل، الواردة في بداية أنطولوجيا «زينب فواز العاملي» (1895)* مجموعة من الاقتراحات التي اقترحتها على علماء اللغة، من أجل التعديل في بنيتها انسجاما مع وضع المرأة اجتماعيا.
تفتتح الكاتبة قولها الموجه إلى علماء اللغة بالمقطع التالي :»نحن في عصر سطعت فيه شموس العلوم والآداب، فأنارت بأشعتها مدارك ذوي الألباب فلا غرو إذا سميناه بعصر الاختراعات والاكتشافات، وقد رأينا فيه من فعل البخار والنور أعجب العجائب زمن قوة البرق والكهرباء أغرب الغرائب حتى لم يبق فيه محل للغرابة» (ص7). تعطي الكاتبة في البداية نظرة موجزة عن التحول العلمي والحضاري الذي يشهده العالم من اختراعات واكتشافات. كما تعين مظاهر هذا التحول الذي بحكم حدوثه، لم يعد يدعو إلى الغرابة. وهي ملاحظة نسجلها على مختلف كتابات النساء في عصر النهضة، إذ تلجأ المرأة في كتابتها إلى مقدمة توضح فيها أسباب الدعوة إلى التغيير انطلاقا من تحولات العصر. وفي الوقت نفسه تذكر المتلقي (والتاريخ ) بمظاهر المرحلة. فهي تسجل أهم المحطات التاريخية الصناعية والاجتماعية التي يعرفها العصر في العالم بأسره. فالمرأة /الكاتبة، في هذا المستوى، تعد مؤرخة لزمنها، ومدركة للتحولات العلمية التي يعرفها عصرها، وهي تكتب عن هذه التحولات باعتبارها شيئا مفكرا فيه.
تهيئ سارة نوفل بهذا الافتتاح، العقلية المتلقية من جهة، والمرسل إليه المقصود في هذه الإرسالية (علماء اللغة)، ومن جهة ثانية فهي تذكر بما حققه العقل البشري من انتصار على الطبيعة، ومن اختراع النور والبخار والكهرباء. وهي أشياء كانت تعد غرائب، فإذا بها قد أصبحت واقعا محققا تستفيد منه البشرية بأكملها. تدخل الكاتبة بعد هذا الافتتاح التقديمي، في صلب موضوع اقتراحها فتكتب: «إذ تطفلت في هذا المقام على نصراء العلم والعلماء وأرباب الفضل الألباء باقتراح يهمني الحصول على نتيجته والوصول إلى فائدته، كما يهم البنات الشرقيات اللواتي عرفن ما كان لهن من الحق المسلوب وما عليهن من الواجب المفروض فأقول بعد الاستسماح من ذوي الفضل والآداب» (ص 7). إن طريقة بناء هذا القول فيه اعتبار للمتلقي. فالكاتبة تدرك مسبقا أن الاقتراح الذي ستطرحه يحتاج إلى مرونة لغوية، وصيغة بيداغوجية، قصد إحداث التواصل المرغوب فيه، خاصة أن الأمر يتعلق بعينة من المتلقين (علماء اللغة). تدخل بعد ذلك في صميم الموضوع وتقدم اقتراحها من خلال الاستعانة بنموذج غربي، وتفعل ذلك بشكل تدريجي. 
«قد علم السواد الأعظم أن الأوروبيين وغيرهم من الأمم الأكثر تمدنا قد اتحدوا بعقد الخناصر واتفاق الخواطر، سواء كان في محافلهم العلمية ومجتمعاتهم الأدبية أو في نواديهم العمومية وهيئاتهم الاجتماعية وقرروا وجوب احترام المرأة يوم عرفوها عضوا مهما في جسم الكون، للارتقاء وحسن التربية» (ص 7). إنها ما تزال تهيئ سياق التلقي، وتعمل على ترويضه من خلال التذكير بما حدث عند الغرب وجرى. وتؤكد على التحولات الحضارية التي حصلت عندالغرب، وجعلتهم يفكرون في احترام المرأة. تسترسل فتقول: «ولم يكتف الغربيون بهذه الأمنية حتى استنبطوا للتمييز بين البنت العذراء والمرأة المتزوجة لفظة افتخارية قائمة بذاتها كقولهم في اللغة الفرنساوية للمرأة «مدام» وللعذراء «مدموزيل»، وفي الإنكليزية «مسسز» و»مس» وباليونانية «كرياد» و»سبينيس» وبالإيطالية «سنيوره» و»سنيورينه» أو «ما داما» و»مدام» وهكذا في غيرها من اللغات الأجنبية الأكثر انتشارا في وقتنا الحاضر» (ص 7-8). بعد أن تضع الكاتبة أمام المتلقي هذه المعلومة اللغوية عند الغربيين، حول تعيين المرأة المتزوجة والعذراء، تتحدث عن الوضع اللغوي بالنسبة للمرأة في الثقافة العربية فتقول: «أما نحن الشرقيين عموما (…) فقد أغمضنا الجفن عن هذا التخصيص، رغما عن اتساع اللغة العربية وتسابقنا إلى انتحال عوائد الغربيين وأزيائهم واشتركنا في معظم هيئاتهم ومنتدياتهم واستحسان أخلاق البعض منهم، إلا أننا لسوء الحظ لم نحذ حذوهم بإعطاء البنات هذا التمييز الاحترامي والإشارة الخاصة بهن عندهم، والأغرب من هذا أننا لو فتشنا وبحثنا مليا بين مئة مليون نفس وأكثر من الناطقين بالضاد لما وجدنا فيها كلمة واحدة تقوم مقام المدام والمدموزيل في مبناها ومعناها، وإن قيل ان ست وستــيته يستعملان بمعنى مدام ومداموزيل في الفرنساوية إلا أن هاتين الكلمتين ليستا صحيحتين على ما يظهر، وفضلا عن ذلك فإن التصغير في ستيته هو للاحتقار لا للافتخار، خلافا للمعنى المقصود بالمدموزيل كما لا يخفى على كل لبيب أديب» ( ص 8).
إنها تدعو علماء اللغة إلى الاجتهاد لتطوير اللغة، واحترام المرأة العربية، عبر وصف وضعياتها الاجتماعية من خلال مفردات تعين وضعها. كما أن الكاتبة تدرك مشاكل تعديل اللغة، لهذا تطرح في مقالتها كل الصعوبات الممكنة في الدرس اللغوي، وعملية الترجمة ثم الجدال الممكن حدوثه عند عملية تغيير اللغة في النسق الذهني العربي. كما لا تكتفي بإعطاء التبريرات اللغوية والعلمية والحضارية التي تدفع باللغة نحو التجدد والتطور، بل تضيف اعتبارات تاريخية تعزز بها موقفها، أو موقف النساء الراغبات في التعديل اللغوي حتى ينسجم ووضعهن وحضورهن. تعود سارة نوفل إلى تاريخ تدوين اللغة العربية، وتثير وضعية المرأة في المجتمع والذهنية داخل النسق اللغوي. وينبغي في هذا الصدد تسجيل الموقف الفكري الذي عبرت عنه المرأة العربية في عصر النهضة، والمتمثل في إدراج اللغة العربية ضمن مجال التطور تبعا لتطور الأوضاع الاجتماعية. وكما نعلم فقد أدرجت اللغة العربية ضمن ملف حركة النهضة. لهذا، فالكاتبة تربط وضع المرأة في المجتمع وفي الذهنية بوضعها داخل اللغة تقول: «ولا ننكر أن في زمن تدوين اللغة العربية كانت المرأة في عين الرجل حقيرة ذليلة، وليست بأكثر من أدوات البيت أو كباقة من الأزهار تطرح خارجا، حينما تذبل ولذلك لم يخطر ببال أحد من ذلك العصر أن يستنبط في اللغة كلمة مثل هذه تدل على المرأة دلالة صريحة باحترام وتوقير، ولكن نحن الآن في عصر تنوعت فيه أنواع الاستنباطات فلا يعسر على نصراء اللغة ابتكار كلمة كالمدموزيل للدلالة والتمييز مع حفظ صفة الاحترام والافتخار، وحبذا لو أضافوا إلى اللغة ما لا يوجد فيها من الكلمات المستحدثة، ولكن هذا يحتاج إلى معاضدة الحكومة بإقامة مجمع علمي (اكاديمي) وليس من خصائصي ان أبحث فيه وأحث عليه في هذا المقام « (ص 8).
وبما أن سارة نوفل تصوغ قولها/ اقتراحها وهي تدرك طبيعة المتلقي، فإنها تستحضره في عمليتي البناء والصياغة، وتجعله حاضرا في عملية ترتيب الأفكار. فالمتلقي يبدو واضحا في القول، بل إن طبيعته فعلت في الافتتاح، وفي تدرج المواقف، وفي اختيار نوعية التبريرات. وهذا ما أدى بالكاتبة إلى الإجابة عن أسئلة تعي جيدا أن علماء اللغة يطرحونها، وتجيب بنعم إذ تقول: «نعم عندنا كلمتان مترادفتان وهما السيدة والخاتون، ولكن نراهما غير وافيتين بالمدام لأنهما تطلقان على العذراء والمتزوجة في آن واحد بلا استثناء، وليس في إحداهما صفة خاصة تدلنا على معرفة الموصوفة بإحداهما معرفة حقيقية» (ص 8).
نتيجة لهذا الاقتراح، وبفضل طريقة توجيه الخطاب إلى علماء اللغة، ونوعية التبريرات اللغوية والعلمية والحضارية التي اعتمدتها الكاتبة، ونظرا لكون صياغة هذا القول الاقتراحي، أخذت في الاعتبار الأسئلة الضمنية لعلماء اللغة، واقتراحاتهم الممكنة، وتدخلاتهم في شأن التعبير اللغوي، فإن اقتراح الكاتبة قد تمت الموافقة عليه، واستنبط، كما تقول زينب فواز في أنطولوجيتها، بعض علماء اللغة لفظة آنسة للبنت وعقيلة للمتزوجة واستعملهما أكثر الجرائد.
إن الوعي بالمرأة- الكاتبة باعتبارها شريكا في إنتاج المفاهيم، والتصورات، يتم من خلال الوعي بنظام خطابها المعرفي.