لجنة الأخلاق بين «سرير بروكوست» و«أرض النفاق»

أربعاء, 2015-12-02 00:12
 عبير ياسين

اجتمع الرئيس عبد الفتاح السيسي في 25 نوفمبر 2015 مع أعضاء مجلس علماء وخبراء مصر، وتناول اللقاء العديد من الموضوعات ذات الصلة بعدد من القطاعات اللازمة لتحقيق التنمية الشاملة والنهوض بالمجتمع».
هذا ما جاء في الأخبار بشكل أو بآخر عن اجتماع الرئيس باللجنة. أما الموضوعات المهمة لتحقيق تلك الأهداف فجاء في مقدمتها تطوير قطاعي التعليم والصحة، والارتقاء بمنظومة الأخلاق والقيم في المجتمع. ومع الإشارة إلى تناول موضوعات أخرى مثل المشروعات الوطنية، إلا أن ما نشر عن اقتراح اللجنة إنشاء لجنة «تنمية الأخلاق والضمير وتعزيز قيم العمل والانتماء» على أن تباشر عملها تحت رعاية مؤسسة الرئاسة، فهو الأمر الأكثر أهمية لأنه يعبر عن جزء من السياق الممتد في مرحلة ما بعد 30 يونيو، وكل ما ارتبط بها من ضرورة إعادة تعريف القيم الأساسية والتمييز بين حرية الرأي وحدود التعبير عنها وغيرها من النقاط التي تقيد حدود المواطن ومجال حركته، في الوقت الذي تسمح فيه بالمزيد من الامتداد والتوسع في دور السلطة.
يتحول الواقع إلى سرير بروكوست المرتبط في الأساطير الإغريقية بشخصية قاطع طريق، يجبر كل من يمر به على الاستلقاء على سرير معدني، وإن كان الشخص أقصر من السرير يقوم بشده بقوة من أجل أن يتلاءم طوله مع السرير، وإن كان أطول يقوم بقطع أطرافه. المحصلة تبدو واحدة وهي موت الشخص بعد خضوعه لعملية التنميط التي يمثلها السرير، أو الفكرة الجاهزة سلفا، التي يرى صاحبها أنه وأنها الحق الوحيد الذي يجب أن يلتزم به الجميع، لا يختلف أن تقوم بهذا دولة أو جماعة أو تنظيم.
قد يرى البعض أن الحديث عن لجنة لم تعلن بعد، وأفكار لم تتشكل، مرحلة مبكرة للنقاش أو النقد، ولكن القضية الأساسية تظل في الفكرة وما يحيط بها وما ارتبط بها حتى الآن من جدل. هل الأخلاق مجال عمل الدولة بتلك الصورة التي يعبر عنها عنوان لجنة الأخلاق والضمير، وهل هي ما ينقص مصر بالفعل للتقدم والنمو وتحقيق التنمية الشاملة، وهل يمكن أن تكون مشكلة مصر هي المواطن وأخلاقه، في الوقت الذي تهدد فيه الحياة وتعود أرقام التعذيب في السجون وأقسام الشرطة، والوفاة بعد التعذيب وغياب المحاسبة لتشكل جزءا من الوقائع المتكررة، في الوقت الذي تتحدث فيه وزارة الداخلية عن الحالات الفردية ومحاسبة «ابنائها» وليس محاسبة من يخطئ، هل يعبر كل هذا عن عقلية وخطاب إدارة دولة أم عقلية إدارة الأسرة، على طريقة كبير العائلة وعلاقات القوة والنفوذ والهيراركية التي تحكمها.
يتحدث مسعود «فؤاد المهندس» بسعادة وتفاؤل في فيلم «أرض النفاق» -1968- وبعد أن قام بإلقاء كمية من حبوب خلاصة الإخلاق في مصدر لمياه الشرب قائلا:»هنبقى الدولة الوحيدة اللي كل أهلها عندهم أخلاق». وعلى ما يبدو أن هناك من يرغب في تحويل أحداث وخطاب الفيلم إلى واقع بدلا من إعادة إنتاجه في نسخة جديدة.
لا تتوقف الأخبار عند حدود نقل خبر الاجتماع، ولكن تمتد لتعليق الرئيس المؤيد للفكرة على ما يبدو بتأكيده على «أن منظومة القيم والأخلاق في المجتمع تعد الحكم الأول لسلوك المواطنين في المجتمع، وتقوم بدور جوهري في تقدم الشعوب والأوطان، وتمثل حافزا ووازعا لمزيد من العمل والإنتاج، فضلا عن نشر الرقي والتحضر في كافة مناحي الحياة، سواء في الشارع المصري أو على المستويين الثقافي والأدبي. يبدو واضحا أن الخطاب قائم على تصور للأخلاق بشكل عام في كافة مناحي الحياة، ولكن تلك الكلمات المنشورة عن الرئيس تظل غير واضحة، فهل هناك تعريف محدد لمجموعة الأخلاق التي ساعدت على تنمية وتقدم الشعوب، وعن أي شعوب وأي أخلاق نتحدث تحديدا، وهل هناك مفهوم للتحضر جامع مانع يشمل الجميع ويمكن تعميمه بتلك الصورة، وكيف يرتبط هذا بالحديث عن الخصوصيات الثقافية، وأن ما يمكن التعبير عنه في مجمتع بوصفه أمرا سلبيا قد يكون إيجابيا أو طبيعيا في مجتمع آخر والعكس صحيح.
ما هي الأخلاق المطلوب تنميتها وتعريفها والمؤهل لتعريفها أو ما هو سرير بروكوست المطلوب استخدامه بوصفه مقياس الأخلاق؟ سؤال مطروح حتى داخل أحداث الفيلم، عندما يتحدث مسعود مع جارته «سوسو» سميحة أيوب عن تعريف الشرف، حيث تبدأ من الحديث بثقة عن تصورها قبل أن تقبل بتعريفه المخالف كليا لها. وبافتراض الاتفاق على مجموعة الأخلاق المطلوبة للمرحلة، كيف يمكن تنميتها ونشرها، هل يمكن تصنيعها في حبوب أم خلطها في صباع كفته آخر مثل العلاج المعجزة المنتظر.
يعبر «أرض النفاق» وقبله فيلم «أخلاق للبيع» - 1950- عن اتساع مفهوم الأخلاق، حيث الاخلاقيات السلبية والايجابية من وجهة نظر من يبيع الأخلاق قد تختلف عن وجهة نظر طالبها. في الوقت نفسه فإن التعامل مع تلك الأخلاقيات مرتبط بسياق المجتمع وإعادة التعريف أمر وارد من مرحلة لأخرى. ولكن التطور في اسماء الأفلام شديد التعبير، فعندما تبدأ بطرح الأخلاق للبيع، طبيعي أن تكتشف أن الطلب الأشد على النفاق وأن الصعود والارتقاء أسهل عندما ترتدي ثوب النفاق أو تتناول حبوبه، وإن كانت الأخلاق للبيع في أرض النفاق، وهناك من يحدد المعروض والمتاح والناقص في السوق فمن الطبيعي أن نتحول إلى لجنة الأخلاق.
في الوقت نفسه فإن الحديث عن التحضر والتنمية في العالم وربطه بالأخلاق يتجاوز حديث القوانين وسيادتها والمحاسبة والمكاشفة وتوفرها، والديمقراطية وآلياتها.. العالم لا يتطور بالحديث عن أخلاقيات الشعب بمعنى التربية والتنظيم البيروقراطي عن طريق اللجان واللجان المنبثقة، ولكن عن حفظ النظام ووجود قوانين محترمة تطبق على الجميع. التقدم الذي يراد أن يلصق بأخلاقيات الشعب لا يختلف عن حديث عقود حكم الرئيس الأسبق مبارك، وما بعده عن الشعب بوصفه المشكلة والأزمة، ولكن بدلا من حديث الأزمة يتحول إلى حديث غير مباشر عن أن أخلاقه هي سبب الأزمة وأصلاحه هو أساس الحل. ولكن التقدم ليس مسؤولية الشعب وحده والأولى محاسبة السلطة ومعرفتها بحدود دورها وعدم تجاوز هذا الدور.
وهنا يطرح السؤال هل سيكون بإمكان اللجنة تناول حبوب الشجاعة والصراحة في بداية عملها، حتى تكون قادرة على محاسبة السلطة، ومحاسبة قيمة وجودها وكيفية تقييمها وتكلفتها على المجتمع. هل يتوقع من اللجنة أن تقول إن النفاق مرفوض وتلميع السلطة، رغم الأخطاء مرفوض والشجاعة في مواجهه الأخطاء خلق حميد.. هل ستحاسب اللجنة كل مسؤول ونائب وصاحب سلطة يكذب في الوعود المقدمة، أو ما تم تنفيذه منها؟ أم ستكون حكرا على عموم الناس وتعتبر أن الكذب جزء من الأخلاق وربما ضرورة من ضرورات المرحلة حيث الحرب على الإرهاب تعلو على كل الأصوات؟
يتحول حديث السلطة عن الأخلاق إلى مدخل لعالم علاقات القوة، حيث تريد السلطة أن تشكل من يرى في نفسه مرتبة أعلى تمكنه من تحديد أخلاق المجتمع والمحاسبة عليها، رغم أن المؤسسات لم تنجح في أدوارها الأصلية حتى تقحم نفسها في أدوار خارج نطاقها. إن لم تنجح في تنمية ما هو مادي من طرق ومساكن وشبكات صرف صحي ومياه وكهرباء، ولم تحقق وعود العلاج المعجزة وإن كانت عقود الانتظار من أجل الحلول المقبلة وفك الحزام بعد شده لم تتحقق، كيف تنجح في مواجهة قضية معنوية ليست مطروحة بالأساس للتقييد البيروقراطي؟
ما يفترض أن تحكمه الدولة هو السلوك، ولكن محاسبة السلوك في واقعنا انتقائية، حيث لا يخضع الجميع للمعاملة نفسها ولا يحاسب الجميع بالطريقة نفسها ولعقاب أو الثواب نفسيهما. وإن كان العدل يسحق بحقارة كل يوم، كما قال غسان كنفاني، كيف ترغب في أن تقيم ميزان الأخلاق وتضعه في أيدي مجموعة أخرى من البشر مهما كانت قيمتهم العلمية.
يعلق بعض الخبراء بأن الشعب المصري تحديدا، لا يصلح معه مثل تلك اللجان، والسؤال هل هذا رأي علمي حقا؟ وهل يعني أن دول العالم الأخرى -عدا مصر- تسير وفقا للجان الأخلاق؟ وأن الدول المتقدمة تحديدا تقدمت لوجود مثل تلك اللجان؟ أم لوجود دولة القانون والمحاسبة؟ وإن كان الشعب لا تصلح معه لجنة أخلاق فهل سيتم استيراد أعضائها على طريقة شركات القمامة التي فشلت في مهمتها؟ أم أن اللجنة لها درجة ما من الفوقية الأخلاقية بحكم شهادات خاصة بالجدارة ترفع درجتهم عن عموم الشعب الذي لم يتخرج بعد من سنوات الأخلاق والضمير المؤهلة للتعامل معه بوصفه مواطنا كامل الحقوق والواجبات وجديرا بالحرية. أما المواطن فيمكن أن يكرر مع أحمد مطر «إن الفرد في بلادنا مواطن أو سلطان.. ليس لدينا إنسان» والإنسان جار البحث عنه بمعرفة السلطات المختصة بتعريف الانسان.