لكل شعب من شعوب الأرض ثوابت ومشتركات، ولا يمكن لشعب يحترم نفسه إلا أن تكون له ذاكرة جمعية تحيل إلى مشتركات وثوابت يتفق عليها أبناء الوطن رغم اختلافاتهم وتوجهاتهم ومشاربهم ومآربهم، من هذه المشتركات المِفصل التاريخي بين حقب ما قبل الاستقلال وما بعده؛ حدثٌ يسمى "عيد الاستقلال الوطني".
إن التضحيات الجسام التي أسست لهذه الدولة كانت بسواعد جميع أبنائها رغم تباين مواقعهم وظروفهم وأحوالهم؛ فلم تكن هذه الصحراء المترامية الأطراف لتبنى بسواعد البعض دون البعض، ولم تكن "القيم" التي كرست التفاوت الطبقي لتستطيع تغييب أدوار كانت الركن الركين في الحياة البدوية في هذه الأرض، فحين اختزل شرف المقاومة في جانبين أساسيين هما "الركاب" أو "الكتاب" أو بالتعبير "المعصرن" المقاومة الثقافية والمقاومة العسكرية (في إشارة لشريحتين من شرائح المجتمع) كان من الإجحاف تغييب الركائز التي كانت تستند إليها هذه المقاومة ألا وهي ركيزة الصناع التقليديين، وعرق العبيد المملوكين، وحناجر الشعراء والفنانين.
فمن قال إن الحياة البدوية في هذه الأرض كانت لتدوم لولا ما وفره لمعلم بمطرقته وسندانه اللذان ذللت بهما صعاب الحياة في هذه الأرض من خلال توفير الاكتفاء الذاتي الذي تمثل في صَهر الحديد من الصخور الصماء بوسائل بدائية استطاع من خلالها صناعة السلاح وأدوات الحرث والحصاد، فضلا عن وسائل الحياة الأخرى التي لا غنى عنها لأي مرتحِل في فيافي الصحراء أو متنقل بين المرابع المترامية على أرض السيبة، ومن قال إن العمود الفقري للحياة كان ليستقيم عودُه لولا سقي الحرث من عرق العبيد السابقين الذين عانوا مرارات الظلم والقهر والإقصاء.
لقد سطّرت بلادنا أروع أنواع الأمثلة في مقاومة المستعمر برغم محدودية الوسائل وبدائيتها، حيث كانت الممانعة والمقاومة على أشدها بالرغم من أنه شابها خلل العمالة والتطبيع، وناضل أبناء الوطن من أجل الحصول على استقلال ذاتي يكفل الكرامة ويؤسس لبناء الدولة المدنية.
لم تكن هذه المقاومة أيضا حكرا على البعض دون البعض، إذ لا يمكن الحديث عن لون واحد لهذه المقاومة حيث أثبتت مصادر التاريخ الشحيحة أن جميع أبناء الوطن قاوموا بمختلف الطرق والوسائل ومن مختلف المواقع والأماكن، فبجانب الأسماء المشهورة: بكار ولد اسويدأحمد أحمد وولد مولاي الزين، هناك مقاومة عمر الفوتي، وبسالة ولد امسيكه.. ولقد كانت الذاكرة الجمعية إقصائية - كعادتها - حيث طمست كل دور للمعلم الذي وفر الدعم اللوجستي الذي لا يستغني عنه أي مقاوم، ولا يمكن أن يحدث دون دعمه اشتباك أو إغارة، فكيف نفهم أن شخصا يستطيع صنع السلاح وإمداد المقاومين بمختلف الوسائل الدفاعية وهو لا يمكن أن يستخدمها؟ وكيف يعقل أن يشارك جبان – حسب التفسير الجمعي المريض – في تقويم اعوجاج أو إصلاح خلل في مواقع الاشتباك؟! وكيف يعقل أن يتم إغفال الصانع/لمعلم من دائرة استهداف العدو وهو مهندس الأسلحة التي تفوقت قريحته في بعض الأحيان في تطوير وسائلهم القتالية حيث طور مدى الأسلحة وفاعليتها ؟!
وبالرغم من محاولة طمس ذلك التاريخ الذي شارك فيه الكل بوسائله وطرقه المختلفة فقد ورد أيضا أنه كانت هناك أسماء شاركت في المعارك ضد المحتل وكانت ضمن تشكيلات المقاومة المتنقلة حيث وفرت عتاد الأسلحة من هؤلاء المذكورين:
- المرحوم محمد أحمد ولد اسويدأحمد لمعلم (هكذا كان لقب لمعلم مقترنا باسمه كميزة شرف) من منطقة تكانت، كان في فرقة "العاگر" كما تسمى آنذاك، ومن صناع السلاح والمقاومين أيضا رحمة الله عليه، يذكر عنه أنه يقول لعائلته بأنه عندما يخرج في صفوف المقاومة عليهم أن لا ينتظروا عودته أكثر من سنة وإلا فليعتبروه في عداد الشهداء وليعملوا بما يترتب على ذلك.
- ومن تكانت أيضا يعرف اللّولود ولد لخديم، الملقب انكنكه، الذي جمع بين العمل اليدوي المتقن وتحفيط علوم القرآن والحديث لساكنة تامورت انعاج برمتها والذي توفي في الميدان ليخلفه ولده أبي ولد لخديم..
- بوبَّه ولد اعل رابي، من منطقة آدرار، كان من خيرة صناع السلاح ما قبل الاستقلال وبعده، اكتتبه الجيش الموريتاني لصيانة السلاح، وهو مع ذلك شاعر، ويكثر في شعره التوحيد ويُشهد له بالاستقامة والتدين.
هذه الأسماء مجرد نماذج يتم البحث عن أمثالها من النماذج المغيّبة من تاريخ قصَص المقاومة أو الممانعة. وكثيرا ما عرف شرف عمل اليد مع خيريّة تحفيظ القرآن الكريم كخصلتان مشهورتان في أسر لمعلمين العريقة.
مشتركاتُ الشعوب هي ذاكرتها التي تعتمد عليها، وهي مشتركات يجب البناء عليها وتدارك هفواتها وأخطائها وإكمال نقصها وقصورها.
ولئن كانت الوسائل البدائية والمقاومة المتقطعة، والاكتفاء الذاتي بالصناعة المحلية، والممانعة الثقافية – رغم ما شاب ذلك من تطبيع – كانت عوامل في استعصاء هذه الأرض على استمرار الاحتلال، فقد تُوّج ذلك بنضال قام به أبناء الوطن من أجل الحصول على استقلال ذاتي يكفل الكرامة ويؤسس لبناء الدولة المدنية، وحسبهم إيجاد أرضية مستقلة وعلم خاص ونشيد وطني وإرادة صلبة استطاعت تثبيت أركان البناء على أرض متحركة وصحراء متنقلة؛ وهو جهد يحسب لأبناء الوطن المؤسسين، وما زالت تلك الدولة التي أُسست من العدم ترتقي في البناء شيئا فشيئا يوما بعد يوم، وهو بناء بقدر ما يحتاجه من مظاهر شكلية في البنى التحتية يحتاج أكثر من ذلك بكثير التركيز على بناء المظاهر الأخويّة ما بين فئات المجتمع.
وبالوصول إلى ذكرانا اليوم التي تؤرخ لخمس وخمسين سنة من الاستقلال الوطني يمكن القول بأن لحكم الرئيس محمد ولد عبد العزيز البصمة الأكبر في ذلك البناء سواء كان من حيث البنى التحتية التي تروم تطويرَ وعصرنةَ وإعمارَ الدولة، أو كان سعياً لبناء الثقة وجسر الهُوة ما بين فئات المجتمع من خلال الاعتراف بمظلمة المبعدين أو التقنين والتمييز لصالح لحراطين أو القيام بالإشراك الفعلي للمعلمين.
في النهاية لا شعب بلا ذاكرة منصفة، ولا وطن بلا ثوابت صلبة، ولا مجتمع بدون مساواة فعلية، ولا بناء بدون دعامات قوية. وعلى أبناء موريتانيا أن يسعوا للحفاظ على المشتركات الكثيرة التي تجمعهم والتعالي على الأطر الضيقة التي تفرقهم، وعلى الدولة مواصلة البناء على مختلف الصعد سواء كانت من حيث الشكل في البنى التحتية أو من حيث الجوهر في البِنى الجمعية.