في الوعي الزّائف بالجريمة (تدوينة)

سبت, 2015-12-12 02:42
الكاتب والباحث أبو العباس إبرهام

أخيراً وُلد وعيٌ شعبي افتراضي ضدّ تصاعد الجريمة المنظمة. ولكنه، للأسف، وُلِد ميِّتاً. وابتداءً من الآن لم يعد يُمكننا إهمال السؤال النضالي حول إمكانيّة الفضاء الافتراضي حمل قضيّة نضاليّة (ما دام غير قادر على فهمها كليّة).

مرةً أخرى حُكّ المكان الخطأ. فقد قُرِعت الأجراس القَلِقة من الجريمة المنظمة، ليس ضد أسباب الجريمة البنيوية، بل ضدّ غياب الوازع الأخلاقي للمجرمين. ومن هنا تمّ تقديم الحلِّ السحري: تطبيق العقوبات البدنية "الشريعية". وقد تأمّرَ هذا الحلّ السحري مثقفون، بل وحتى قانونيون، بارزون. ويعتقد الفكر التكفيري اليوطوبي أنّ المآسي الاجتماعيّة تنجُمُ فقط من حيْدٍ عن "الدِّين" أو عدم تطبيق جنائي له (رغم اعتراف النخب الأصوليّة أن "الدولة تقوم على الكفر").

وهذا الحصان لن يموت أبداً. ففي الثمانينات أراد هيدالة حلّ الأزمة الاقتصاديّة بقطع أيدي فقراء الأحياء الشعبيّة. وقد حملت الحركة الإسلامية هذا الهّم قبل أن تُخصخِصه وتدفنه في لغة رمزية مُعلمنة، في ظل تبرجزها ومطامحها بالحكم وشراكتها مع الاتحاد الأوروبي والنقد الدولي.

وهكذا بقيّت هذه اليوطوبيا حلماً شعبوياً بلا سيّد يُسيِّرُه. وتخطّفها المخياليون والديماغجيون من مختلف الأنواع. وفي 2012 اعتقدت حركة "لا للإباحيّة" أن هنالك علاقة بين الجرائم ومتابعة الشباب للأفلام الإباحيّة. وسرعان ما تحوّلت "لا للإباحية" إلى حركة لا هورية الطابع. ووحّد أئمة نواكشوط خطبتهم لرؤية البعد العقابي الإلهي لانتشار الجريمة. وقد بلغت هذه الحركة أوجها في ظلِّ تعليمات وبركات الأمير يحظيه ولد داهي، هادر الدماء ومُكفِّر الأعداء، وولاّع الثورة المصحفية، ومؤخراً، مطارد الجِّن ومفكِّك السحر والحسد والعين.

وفي غمرة هذا الهراء هربَ اللِّص الحقيقي: خصخصة الأمن. إن ما سمَّتهُ الصحافة الموريتانية بـ"الإنفلات الأمني" هو نتيجة لبيع الدولة وتعهيد خدماتِها لوسطاء عقدويين خصوصيين. ومنذ 2009 والجنرال عزيز يُعهِّدُ الأمن لزبنائه، بعد أن خلق إطاراً قانونيا يسمح لشركات الأمن الخصوصي أخذ مهمات الشرطة الأساسية. وفي سبيل هذا أمكن تخفيض ميزانية الشرطة وتصريفها لرأس المال عن طريق زيادة جانبها اللاأمني (وخصوصاً التجاري والإنفاقي) على حساب جانبها الحمائي والوقائي. وفي ظلِّ الفراغ (وليس الإنفلات) الأمني أصبحت الجريمة استثماراً آمناً. طبعاً الاسباب الأهم تتعلّق بتفقير المدينة وزيادة الفروق الطبقية بها.

وليس مشكلة الأصولية الشريعاتيّة فقط عماها التحليلي بل وإنّها ترفضُ، من خلال جهلائها المنهمكين في المعارك السياسيّة الأحيائية الصغيرة، الدخول في النقاش الحقيقي عن طريق تحويله، كلّما فُتِح، إلى مجادلة دينيّة وتفتيش للإيمان والكفر.

إن كلِّ أصولية هي تحليل خاطئ لمشكلة حقيقية. وإن وراء كلّ حالة وحشية خصخصة للدولة.

يتواصل النضال.

نقلا عن صفحة الكاتب