اختراع البطل وتأميم المفاهيم

ثلاثاء, 2015-12-15 13:04
عبير ياسين

على الرغم من كثرة الأحداث التي تمر بمصر والتي لا تتوقف عن طرح الكثير من الجدل حولها، إلا أن بعضها ينصب نفسه على رأس القائمة بدون منافسة، حتى إن كان مجرد حدث عرضي أو عابر وقصير في عمر الزمن. أحيانا تكون مثل تلك الأحداث كاشفة أو معبرة عن الكثير من سلبيات الواقع، أو بمعنى أكثر موضوعية عن الأوضاع التي تعيشها مصر، وجزء من سبب المشكلات التي تمر بها وتتراكم عبر العقود، ورغم قصر المدة تكون تلك الأحداث دليلا على عمق المرض واستمراره.
تتابع الكثير من الأخبار عن المزيد من المشاريع القومية التي تعلن بالطريقة المكررة نفسها، خاصة بند المفاوضة العلنية على المدة اللازمة لتنفيذ المشروع، التي تقدم بوصفها رغبة رئاسية في سرعة استحضار المنافع، على الرغم من تناقضها الشديد مع خطــــاب الرئيس نفسه، عن أن الإعلان عن أي مشروع لا يتم بدون دراسة وبحث وتأكد من توفر الإمكانيات والقدرة على التنفيذ، وغيرها من الأسس الموضوعية المفترض توفرها في مشاريع بتلك الضخامة والتكلفة، وسط المعاناة القائمة وقائمة المشاريع المعلنة والمخطط الإعلان عنها. ولكن تلك الموضوعية المفترضة تصطدم بالرغبة في تأكيد صورة الرئيس المسيطر، والحريص بشكل شخصي على مصالح البشر في المحروسة، من أجل شعبية لازمة وترسيخ لفكرة العلاقة الخاصة مع الشعب المفوض والرئيس المختار.
ولكن بدلا من تجديد وسيلة إيصال الرسالة يعبر الخطاب عن جزء من المشكلة القائمة، وهي حالة الإفلاس وغياب التجديد حتى في أبجديات صناعة الشعبية، رغم تغير الزمن وطرق التعبير ووسائل التواصل. وبهذا يطل علينا خطاب المفاوضات على مدة تنفيذ المشروع لفترات ليست قليلة، وتثير التساؤلات عن مصداقية طرح المدة الأولى والرجوع عنها، وأسباب تلك الفترة الطويلة المحددة سلفا، والتكلفة التي كانت سترتبط بها، إن لم تحدث عملية المفاوضات أو شكلية عملية المفاوضات ذاتها وفقدان قيمتها عبر تكرارها من وقت لآخر.
تلك الطريقة التي تتحول إلى عناوين الأخبار وتثير البعض، تتجسد بشكل أكثر وضوحا في معركة ظهرت على ساحة النقاش المصري خلال عدة أيام بعد موقعة «الميكروفون» الشهيرة. والمقصود هو الحدث المرتبط بتعامل وزير الخارجية السفير سامح شكري مع ميكروفون قناة الجزيرة في التغطية الصحافية لإلقاء البيان الختامي لاجتماعات سد النهضة في العاصمة السودانية الخرطوم. وعلى طريقة أغنية المطرب الشعبي المصري شعبان عبد الرحيم الشهيرة حول عمرو موسى عندما كان وزيرا للخارجية، يتحول شكري لدى البعض إلى تعبير قوى عن تغير مكانة مصر الدولية، وقدرتها على اتخاذ قرارات قوية، وأن وزير الخارجية تعبير عن البطولة والقدرة على اتخاذ المواقف والرد بحسم.
تلك التعليقات التي لا تختلف عن تعظيم مكانة موسى وقدرته على حل الأزمات العربية وتحرير فلسطين، وفقا لخطاب اللحظة المرتبط بالأغنية الشعبية «بحب عمرو موسى»، لا يختلف عن فكرة معركة الميكروفون. في النهاية نحن أمام مواقف لا تثمر في الواقع عن تحرك حقيقي ولا تحرر أرض ولا ترسم حالة الاستقلالية والبطولة التي يتم الحديث عنها. 
والأكثر أهمية في حالة الميكروفون أنها تحتاج لسؤال موضوعي عن معنى الدولة ودورها ودور وزير الخارجية ومكانة مصر التي وضعت في مواجهة الميكروفون، سواء بشكل عام أو في حدث شديد الأهمية والقيمة مثل الوضع المرتبط بسد النهضة وكل ما يثار حول فشل اللقاء في التوصل إلى اتفاق، وتفرغ بعض وسائل الإعلام للحديث عن البديل العسكري وفشل الخيار التفاوضي مقابل حديث وزير الموارد المائية والري عن تفهم إثيوبيا لمخاوف مصر ووعدها بالالتزام بحصص دول المصب، وكأن هذا التفهم كاف على أرض الواقع لضمان تلك الحقوق في المستقبل، وكأنه أسلوب تعامل كاف بين الدول.
تبدو القضية الأساسية الممثلة في لقاء سد النهضة والتعامل معه والتناقض فى ما ينشر حوله، والمعركة المتفرعة الممثلة في «موقعة الميكروفون» وإبعاده عن الطاولة ثم وضعه أو إلقائه أرضا، بما ساهمت فيه من سحب الأضواء عن القضية الأساسية وفقا للبعض، تعبيرا واضحا عن الاختلاط والخلط القائم بين المفاهيم الكبرى وسهولة تفريغها واختراع البطل المرتبط بتلك المعارك المصطنعة، في الوقت نفسه الذي يتم فيه تقزيم الدولة من أجل معارك لحظية.
المعارك المصطنعة نفسها من أجل أهداف جزئية تبدو في متابعة الكثير من التصريحات التي ترد على لسان أعضاء مجلس النواب الجديد، التي تثير الكثير من التساؤلات حول دور الأعضاء والمجلس عموما، في واقع ومستقبل مصر. حديث يبدأ من تأميم فكرة حب مصر وحب الوطن أو دعم الدولة، ويمتد للانتصار للنظام القائم ودعمه بدون نقاش أو محاسبة، مع تحميل المسؤولية كاملة على المواطن. يبدو الخلط واضحا بين فكرة الدولة وفكرة النظام الحاكم، وبين دور مجلس تشريعي وسلطات الدولة الأخرى التنفيذية والقضائية، وبين دوره المفترض بوصفه مجلسا منتخبا معبرا عن المواطن وبين تحميل المسؤولية على المواطن.
معركة بدأت واضحة في حالة الحزن الواضحة التي تشبه حالة سرادق العزاء، التي تم التعامل بها مع وصول عدد سكان مصر إلى 90 مليونا. فكرة أن الشعب هو الأزمة كانت ملازمة لخطاب الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك وشعاره المكرر على طريقة من أين أقوم بهذا أيها الشعب، لا تختلف الفكرة عن حديث المرشح الرئاسي عبد الفتاح السيسي عن الفرق بين الرغبة والقدرة، وأنه غير قادر على أن يعطي ومن أين يحصل على تلك الأموال اللازمة للشعب. يبدو الشعب في موقف لا يحسد عليه، ولان مدير عام قناة «الجزيرة» القطرية اعتبر أن الرد على موقف وزير الخارجية المصري يكون على طريقة الرسم الساخر، فإن الرد على الحالة أقرب ما تكون إلى حديث ساخر في مسرحية «الزعيم» للفنان المصري عادل أمام، التي تقف في خلفية الكثير من صور رسم الزعامات المنفصلة عن الواقع، ومن يحيط بها ويساعد في ترسيخ تلك الصورة والفجوة القائمة بين هذا العالم الذي يتحدث عن الأغاني الحماسية وعدد مرات تكرار اسم الزعيم في الأخبار، والعالم الآخر الذي يعبر عن الشعب هذا الطرف المطحون والمدان، لأنه وفقا للمسرحية يتسبب في إزعاج الزعماء. هذا الشعب نفسه تطالبه نائبة في البرلمان بضرورة التوقف عن «الاستموات» وقبول إلغاء مجانية التعليم أو الإلغاء الجزئي لها. بالطبع الشعب يعيش في نعيم واضح يدركه ممثله في البرلمان ويطالبه بالتوقف عن تلك الحياة ومساعدة البلد بالمزيد من شد الحزام أو التبرع بالحزام نفسه على طريقة كنبة البطل في مسرحية الزعيم، التي تم احتجازها بوصفها رمزا من رموز الإمبريالية، مثلها مثل الحزام الذي يجب شده ووارد تأميمه.
تبدو الفجوة واضحة بين النائب والمواطن، كما هي بين الخطاب الرسمي والواقع. ينشر بيان الخارجية المصرية في الاحتفال باليوم العالمي لحقوق الانسان، مؤكدا على الاقتناع المصري بالإعلان العالمي وأنه حجر الزاوية الذي يمثل ركيزة للتحركات المصرية «النشيطة لتقرير السلم والأمن الدوليين… والعمل على ضمان الحياة الكريمة والعدالة والمساواة لجميع أبناء الوطن في ظل دستور 2014» في الوقت نفسه الذي تكشف فيه منظمة العفو الدولية عن تفاصيل تعذيب طفل – 14 عاما- وهتك عرضه واجباره على الاعتراف بالانتماء لجماعة الإخوان المسلمين، ومع غيرها من التقارير والاحصاءات المختلفة عن حالات التعذيب والقتل والاختفاء القسري.
وفى وسط كل تلك الصور المختلطة بين المعلن والواقع، يؤكد الرئيس ومعه البعض، باختلاف لغة الخطاب، على ضرورة دعم الموقف الرسمي. ويؤكد البعض أن نقد ما يحدث بوابة إلى عالم يحكمه «داعش»، وتكتشف وسط الخطاب أن 30 يونيو لم تنجز حماية مصر من واقع سوريا والعراق المتكرر الإشارة إليه، ولكن يظل التهديد حاضرا ما دام يمكن أن تنتقد الاخطاء القائمة، فالاخوان ليسوا هم مشكلة مصر فقط، ولكن مشكلة مصر – من وجهة نظر نظام الحكم- هي كل من يعترض ويرغب في الإصلاح.
يغيب عن حديث التهديد بـ»داعش» أن الطريق إليها لم يبدأ من اللحظة في سوريا أو غيرها، ولكن جذوره تمتد إلى الأوضاع التي قادت إلى الهزيمة على طريقة الشاعر نزار قباني وهو ينعى نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة في «هوامش على دفتر النكسة»، أن تحمل كل عوامل السقوط من ظلم وفساد وغياب للديمقراطية والحقوق والحريات يمكن أن تولد «داعش» أو غيرها من الاسماء، فالتربة التي تنبت «داعش» أكثر تعقيدا من حالة النقد من أجل الإصلاح، وتختلف كليا عن مشرط الجراح الذي يحدث الألم من أجل الحياة ولا يمكن أن تقارن بمن يرغب في تأميم معنى الحياة والحقوق والحريات على حساب عموم الناس وواقع ومستقبل الأوطان.