عرفت العاصمة نواكشوط في مثل هذا الشهر من العام الماضي جريمة بشعة تمثلت في اغتصاب وحرق وقتل الطفلة "زينب" في مقاطعة "عرفات" من طرف ثلاثة مجرمين من أصحاب السوابق. وفي نفش الشهر من هذا العام عرفت العاصمة نواكشوط جريمة بشعة أخرى تمثلت في قتل المرحومة "خدوج" في قلب سوق العاصمة، ومن طرف صاحب سوابق. بين هذه الجريمة وتلك عرفت العاصمة نواكشوط عددا كبيرا من الجرائم البشعة، ولكن ورغم ذلك فإن هذا العدد الكبير من الجرائم البشعة لم تترتب عليه أية ردود أفعال مناسبة، لا على المستوى الشعبي ولا على مستوى الرسمي، ولتبيان ذلك فإني سأعيد نشر مقال كنتُ قد كتبته منذ عام تقريبا. هذا المقال الذي نُشر منذ عام بعد اغتصاب وقتل الطفلة "زينب" لا يزال يصلح لأن يعاد نشره بعد تعديلات بسيطة للتعليق على الجريمة البشعة التي راحت ضحيتها المرحومة "خدوج"، وهو ما يعني بأنه لا شيء تغير في سلوك السلطة والمجتمع في الفترة الفاصلة بين قتل الطفلة "زينب" في عرفات وقتل المرحومة "خدوج" في سوق العاصمة.
لم تكن الجريمة البشعة التي راحت ضحيتها الطفلة "زينب" بالجريمة العادية، ولقد طالبتٌ حينها بأن لا يكون التحقيق في تلك الجريمة عاديا. ولم تكن أيضا الجريمة التي راحت ضحيتها المرحومة "خدوج" بالجريمة العادية، ولذلك فإن التحقيق في هذه الجريمة يجب أن لا يكون أيضا تحقيقا عاديا، ويجب أن لا يتوقف عند من تولى تنفيذ الجريمة بشكل مباشر، وإنما يجب أن يمتد ليشمل جهات أخرى تتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية، وذلك باعتبار أنها كانت قد شاركت بشكل أو بآخر في ارتكاب هذه الجريمة.
إن هناك جهات عديدة شاركت في قتل المرحومة "خدوج"، بعض تلك الجهات تولى التنفيذ المباشر، وأقصد هنا "الداهي ولد الفروة"، والذي اعترف بارتكاب الجريمة. إنه يجب علينا جميعا أن نضغط بكل الوسائل المتاحة حتى يعاقب المنفذ المباشر لهذه الجريمة البشعة أشد عقاب، ولكن، وفي المقابل، فإنه عليننا أن نعترف بأن هناك جهات أخرى شاركت بشكل غير مباشر في ارتكاب هذه الجريمة، بعض هذه الجهات لا يمكن عقابه على مشاركته في هذه الجريمة البشعة، وذلك لأن القانون لم يحدد له أي عقوبة. إنه علينا أن نفضح بقية الشركاء في هذه الجريمة، وذلك هو أقل ما يجب علينا فعله ما دام ليس بإمكاننا أن نعاقبهم على مشاركتهم غير المباشرة في ارتكاب هذه الجريمة البشعة.
ومن بين الجهات التي شاركت في هذه الجريمة بشكل غير مباشر يمكننا أن نذكر جهتين كبيرتين، وهما السلطة والمجتمع.
أولا السلطة: وهذه شاركت في جريمة قتل المرحومة "خدوج" من خلال عدة أوجه لعل من أبرزها:
1 ـ غياب أي إستراتيجية واضحة المعالم لدى السلطة القائمة لمحاربة الجريمة، وعدم اعتبار الجريمة في الداخل من المخاطر الكبيرة التي تهدد أمن بلادنا.لقد حققت السلطة القائمة نجاحات ملحوظة على مستوى مكافحة الإرهاب، ولكنها فشلت فشلا ذريعا في محاربة الجريمة الداخلية، ويلاحظ في هذا المجال تراجع الشعور بالأمن لدى المواطن الموريتاني خلال السنوات الأخيرة. وفي المحصلة النهائية فإن المكاسب التي حققتها السلطة القائمة في مجال مكافحة الإرهاب قد تبخرت بسبب الفشل الواضح والبين في مكافحة الجريمة الداخلية.
2 ـ تهميش قطاع الشرطة، وتوجيه نسبة هامة من موارد وإمكانيات هذا القطاع المحدودة أصلا إلى قضايا أخرى لا أهمية لها بالنسبة لأمن البلاد، كالتجسس على السياسيين، والعمل على تفكيك أحزابهم، والانشغال بالتنكيل بالمحتجين السلميين من أصحاب المطالب المشروعة بدلا من الانشغال بالمجرمين، ففي الوقت الذي كان فيه "الداهي" يرتكب جريمته البشعة في قلب سوق العاصمة، كانت بعض عناصر الشرطة منشغلة بإعداد العدة للبطش ببعض الطلاب المحتجين الذين يطالبون بتوفير النقل إلى الجامعة. لقد أظهرت الشرطة شجاعة منقطعة النظير وجرأة قوية في تعاملها مع الطلاب العزل، ولكن شجاعة الشرطة وجرأتها تغيب دائما عندما يتعلق الأمر بمطاردة عتاة المجرمين. ولو أن السلطة قامت بتوجيه موارد و إمكانيات الشرطة إلى الوجهة الصحيحة، أي إلى متابعة المجرمين وإلى تفكيك شبكاتهم الإجرامية، بدلا من متابعة السياسيين والتنكيل بالمحتجين السلميين، لكانت البلاد أكثر أمنا مما هي عليه الآن.
3 ـ قطاع العدل: إن نسبة كبيرة من الجرائم التي تحدث اليوم هي جرائم يرتكبها أصحاب سوابق كان من المفترض بهم أن يكونوا داخل السجن لحظة ارتكابهم للجرائم، وإن المسؤول الأول عن هذا الوضع الغريب والمختل هو القضاء.
وإذا ما عدنا إلى جريمة السوق البشعة فسنجد بأن مرتكبها ـ وكما هو الحال في جريمة "عرفات ـ هو من أصحاب السوابق، وقد تمت إحالته إلى النيابة أكثر من 12 مرة، وكان يخرج في كل مرة من السجن، ولقد كانت آخر مرة هي تلك التي تمت فيها إحالة المعني في مطلع هذا الشهر من طرف مفوضية السبخة رقم 2 مع محضر يتضمن عددا من الأدلة التي تدينه بالسطو والحرابة وتعاطي المخدرات، ومع ذلك فقد أفرج عنه القضاء دون أي متابعة. لقد كان من المفترض بقاتل "خدوج" أن يكون لحظة ارتكابه للجريمة داخل السجن. فمن ذا الذي يتحمل مسؤولية إخراج "الهادي" من السجن للمرة الثانية عشر؟ ومن ذا الذي أطلق سراحه في آخر مرة، وأتاح له بالتالي الفرصة ليقتل المرحومة "خدوج"؟ ألا يمكننا أن نعتبر أن من أطلق سراح ولد "الهادي" هو شريك فعلي في جريمة قتل المرحومة "خدوج"؟
4 ـ وزارة الداخلية : كثيرا ما يفتخر وزير الداخلية بأن القطاعات الأمنية التابعة له لم تسجل أي جريمة ضد مجهول، ولكن ما أهمية أن يتم التعرف على المجرم إذا كان هذا المجرم لن يقضي فترة العقوبة في السجن؟ وما أهمية إلقاء القبض على المجرم إذا كان سيفرج عنه بعد أيام معدودة ليرتكب المزيد من الجرائم؟ ألم يتم القبض على "الهادي" أسبوعا واحدا من قبل ارتكابه لجريمة قتل المرحومة "خدوج"؟
يُذْكَر أيضا بأن وزير الداخلية والقائمين على الأمن يكررون دائما القول بأن ما تشهده عاصمتنا من جرائم لا يختلف عما تشهده عواصم الدول الأخرى من جرائم.إننا سنقبل بمقارنة عاصمتنا بالعواصم الأخرى، ولكن رجاءً لا تتوقفوا عند المقارنة في الأمور السلبية والسيئة فقط، فلم لا تقارنوا في الأمور الإيجابية والحسنة؟ وَلِمً لا تقارنوا بين عاصمتنا والعواصم الأخرى في مجال توفر الصرف الصحي؟ ولم لا تقارنوا بينها مع بقية العواصم في مجال النظافة والشوارع الفسيحة والجسور وناطحات السحاب وقطارات الأنفاق والحدائق العامة والساحات الخضراء..؟
لو كان وزير الداخلية شجاعا لكتب في الساعات الأولى التي أعقبت جريمة السوق البشعة ما يلي: نظرا لتفشي الجريمة ونظرا للانفلات الأمني الذي تشهده العاصمة، والذي لم تكن جريمة سوق العاصمة البشعة إلا واحدة من تجلياته الخطيرة. ونظرا لفشلي في إدارة هذا القطاع فإني أنا وزير الداخلية أعلن لكم بأني قد قررت ـ في هذا اليوم الموافق : 09 ـ 12 ـ 2015 ـ أن أقدم استقالتي إلى رئيس الدولة.
5 ـ قطاع الصحة والتوجيه الإسلامي والإعلام الرسمي: إن هذه القطاعات وغيرها لم تلعب أي دور في محاربة الجريمة، فالصيدليات تبيع الأدوية التي يحرم بيعها بغير وصفة طبية، ولقد أثبتت التحقيقات في جريمة السوق البشعة ذلك، وفيما يخص قطاع التوجيه الإسلامي فإننا لم نسمع في مساجدنا خطبا قوية عن تفشي الجريمة، ولا عن الانفلات الأمني، ولم نسمع عن ندوة تنظمها وزارة التوجيه الإسلامي في هذا المجال. أما فيما يخص الإعلام الرسمي فمن المعروف بأنه منشغل عن القضايا التي تهم المواطن بالحديث عن القفزات النوعية التي حققتها بلادنا في مختلف المجالات بما في ذلك ما تحقق على مستوى الأمن الذي شهد انقلانا غير مسبوق!!
ثانيا المجتمع : لا شك بأن المجتمع الموريتاني قد شارك هو الآخر، وبشكل غير مباشر في ارتكاب جريمة السوق، وما سبقها من جرائم بشعة.
إن ردود الأفعال الخجولة للمجتمع الموريتاني على هذه الجرائم البشعة، وإن عدم اكتراث المجتمع ولا مبالاته بما يحدث حوله من جرائم بشعة هو ما شجع المجرمين على ارتكاب المزيد من الجرائم، وهو ما شجع أيضا السلطة القائمة على التساهل في معاقبة المجرمين، ولو أن الشعب الموريتاني خرج عن بكرة أبيه في احتجاجات قوية بعد أي جريمة بشعة من هذه الجرائم لما تكررت مثل هذه الجرائم. إن أي مواطن موريتاني يقبل بالسكوت، ولا يندد بهذه الجرائم البشعة، وبالانفلات الأمني الذي تعيشه البلاد عليه أن لا يلومن إلا نفسه إذا ما تعرض غدا هو أو أحد أفراد أسرته لطعنة سكين قاتلة من طرف أحد عتاة المجرمين.
حفظ الله موريتانيا..
نقلا عن مدونة الكاتب