ما الذي يميز تونس عن بقية الدول العربية؟ ولماذا نجحت ثورة الياسمين الرائدة بينما أخفقت كافة الثورات الأخرى، أو أريد لها أن تخفق، أو نجحت مؤامرة الخارج والداخل لحرف مساراتها لصالح الطغاة ودولة النفط والكيان الغاصب؟
وللجواب على هذه الأسئلة من الناحية الأكاديمية لا بد أن نلاحظ أن تونس تتميز بثلاث مزايا ما توافرت في بلد واحد معا إلا تمكن من النهوض وتجاوز الكبوات بالحوار لا بالصواريخ والمفخخات والبراميل والرشاوى. وهذه المزايا هي: نضوج المجتمع المدني، وارتفاع نسبة التعليم، وفصل الجيش عن السياسة وتحويله إلى جيش مهني يقتصر دوره على حماية الوطن.
ومن يقارن تونس مع أي بلد عربي آخر لوجد أن هذه المزايا الثلاث لا توجد مجتمعة في أي بلد عربي صغيرا كان كالبحرين أو كبيرا كالجزائر والسودان أو كثيف السكان كمصر. لذلك نجحت ثورة الياسمين، خاصة أن المجتمع المدني لعب دورا أساسيا ليس فقط في تفجير الثورة السلمية ووصولها إلى منتهاها في فصلها الأول، بل في حمايتها من الانزلاق إلى الحرب الأهلية، كما حدث في سوريا وليبيا واليمن. لذلك استحق المجتمع المدني التونسي هذا التكريم من لجنة نوبل، التي اختارت الرباعي التونسي في 9 أكتوبر 2015 لتسلم هذه الجائزة الرفيعة.
ومع أن المنافسة كانت حادة لجائزة نوبل للسلام لهذا العام، إلا أنها منحت للرباعي التونسي تقديرا لما قامت به المنظمات الأربع. ومن بين المرشحين للجائزة في هذا العام البابا فرنسيس، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ووزير الخارجية الأمريكي جون كيري ونظيره الإيراني محمد جواد ظريف. لكن الرباعي التونسي بزّهم جميعا وعن جدارة حقيقية ليكون الفائز الخامس بجائزة نوبل للسلام من العالم العربي بعد السادات مناصفة مع بيغن وعرفات مثالثة مع قطبي «سلام الشجعان» بيريز ورابين، ومحمد البرادعي مناصفة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتوكل كرمان مثالثة مع السيدتين الليبيريتين إلين جونسون سيرليف (رئيسة البلاد) وليما غبوي. وجائزة نوبل للسلام هي الجائزة الأرفع في سلسلة جوائز نوبل التي تمنح سنويا لفرد أو مجموعة أفراد أو منظمة غير حكومية أو مؤسسة دولية، بشرط أن يكون الفائز بالجائزة قد عمل أو يعمل على تعزيز السلم والأمن المحليين أو الدوليين، أو في تقديم المساعدة للفقراء المحتاجين، أو في تعزيز ثقافة التسامح وقبول الآخر ومد الجسور ومحاربة الظلم والقهر والعنصرية، أو المساهمة في حل صراع أو التوسط في حل نزاع. الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة عندما منحت لجنة نوبل الجائزة للرئيس أوباما في سنته الأولى بناء على النوايا ونكاية في سلفه جورج بوش.
من هو الرباعي التونسي للحوار الوطني الذي استحق الجائزة؟
تتكون اللجنة الرباعية
من أربع منظمات أهلية وهي:
الاتحاد التونسي للشغل برئاسة حسين العباسي- وهو أعرق الاتحادات وأصلبها عودا وأنصعها تاريخا. ظل عييا على الكسر أو الاستيعاب خلال حكم الرئيسين بورقيبة وبن علي ويتمتع بشعبية كبيرة ومصداقية ثورية. تأسس عام 1946 واشتهر من قياداته الشهيد الكبير فرحات حشاد، الذي اغتالته عصابة فرنسية تدعى «اليد الحمراء» يوم 5 ديسمبر 1952 أثناء فترة النضال من أجل الاستقلال. وقد دخل الاتحاد في صراع طويل ومرير مع الحكم الفردي للرئيس الحبيب بورقيبة، الذي بدأ يتدخل في الاتحاد ويفرض قيادات موالية له، حيث أبعد أحمد بن صالح وسجن الحبيب عاشور. ولم تكن علاقات الاتحاد مع الرئيس بن علي بأفضل منها مع سلفه، حيث وضعت قيادات الاتحاد في السجن عام 2000. وعمل بن علي على إضعاف العمل النقابي كليا وتهميش الاتحادات وحاول خلق كيانات موازية. وللعلم لقد وقف الاتحاد ضد أي محاولة للتطبيع مع الكيان الصهيوني وظل وفيا لمبادئة ومصداقيته مع العمال والفلاحين والمهمشين في تونس.
– الاتحاد التونسي للصناعة والتجـــارة والصناعات التقليدية- وقد تأسس سنة 1947 ويتمتع الاتحاد بالقوة والتأثير، حيث يضم في عضويته غالبية التجار والصناعيين وأكثر المنتجين وأصحاب الأعمال الأثرياء. وترأس النقابة الآن السيدة وداد بوشماوي.
- الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان- عبد الستار بن موسى- تأسست عام 1977 لتكون أول رابطة من نوعها في القارة الأفريقية والوطن العربي. ولها تاريخ طويل في مقارعة نظام بن علي بسبب الانتهاكات العديدة التي كان يتعرض لها الناشطون من حبس تعسفي وتعذيب وتضييق للحريات ورقابة شديدة وكتم للأنفاس. وقد شغل الرئيس السابق منصف المرزوقي رئاسة الرابطة بين عامي 1989و2000 .
- الهيئة الوطنية للمحامين التونسيين التي تصدت للانتهاكات القانونية أيام بورقيبة وبن علي، وظلت تدافع عن سيادة القانون وإرساء قواعد العدالة منذ إنشائها عام 1958. ويرأسها حاليا المحامي محمد فاضل.
دور الرباعي في إنقاذ السفينة من الغرق
خلال عام 2013 بدت تونس لي في زيارتي الثانية لها بعد الثورة وكأنها على أبواب حرب أهلية، خاصة بعد اغتيال شكري بلعيد، وتعرض قوات الأمن والجيش للعديد من عمليات الاغتيال على أيدي المتطرفين والإرهابيين، خاصة في جبل الشعانبي حيث تم ذبح الجنود على الطريقة الداعشية، كما سيطرالسلفيون على مئات، بل آلاف المساجد، حتى أن مدينة القيروان أصبحت تحت سيطرتهم تماما، وبدأت عصابات جريمة منظمة وعناصر متطرفة تتسلل من الحدود الليبية وتنتشر في البلاد. وكان حزب النهضة ما زال متمسكا بالسلطة والإضرابات والمظاهرات تعم البلاد طولا وعرضا، وكانت الخلافات حول كتابة الدستور قد بلغت أوجها ووصلت إلى طريق مسدود، كما ارتفعت نسبة القلق لدى النساء التونسيات بسبب انتشار الفكر السلفي وتعرض العديد منهن للمضايقة في الشارع والعمل والمقهى، بل وقعت حوادث لاغتصاب نساء شملت قاصرات. لقد وصلت الأزمة الاقتصادية إلى مستويات خطيرة مع انخفاض مداخيل السياحة، بعد تراجع عدد السياح بنسبة 30٪ وارتفاع نسبة البطالة من 10٪ عام 2010 إلى نحو 20٪ عام 2013 وكادت الميزانية تصل إلى حالة الإفلاس لولا بعض القروض العاجلة من البنك الدولي وبعض الدول الشقيقة والصديقة. تلك هي الصورة التي كانت عليها تونس خلال صيف 2013 عندما تشكل الرباعي، رغم بعض الخلافات بين أعضائه ورأى أن مهمة إنقاذ الوطن أهم من أي حسابات شخصية.
شاهد رؤساء هذه المنظمات الأربع، سفينة ثورة الياسمين تتعرض لاضطرابات شديدة بسبب الانقسام الحاد بين العلمانيين والإسلاميين، وصل إلى مقصورة القيادة حيث علت أصواتهم وكثرت تهديداتهم لبعضهم بعضا، فبدا أن سفينة الوطن قد ضلت الاتجاه وكأنها على وشك الغرق، كما حدث مع الثورة المصرية. عندها تدخل الرباعي في الوقت المناسب لإنقاذ الوطن على حساب إنقاذ الأحزاب، فطلبوا كل من في مقصورة القيادة أن يخلوها وأن يفسحوا المجال لربان محايد أن يقود السفينة مؤقتا كي تهدأ النفوس وتتم تسوية الخلافات الحادة بالحوار. لقد ساهمت المنظمات الأربع في إبعاد شبح الحرب الأهلية أو المواجهات الدموية عن تونس عام 2013، عن طريق تقديم ثلاثة اقتراحات محددة والعمل على تنفيذها:
- أن تستقيل حكومة الأحزاب وتحل محلها حكومة تكنوقراط
- أن يتم تحديد موعد الانتخابات
- أن يتم التوافق على دستور يؤكد على المساواة والتعددية وسيادة القانون وتمكين المرأة
وكانت هذه الشروط مرهونة بموافقــــة حــــزب النهضة الفائز الأكبر في انتخابات أكتوبر 2011. وبالفعل، وافق حزب النهضة على الدخول في سلسلة الحوارات التي انطلقت يوم 5 أكتوبر 2013.
استطاعت اللجنة الرباعية بالحوار الشاق والمتواصل إقناع طرفي الاستقطاب أن يعطيا الفرصة لشخص ثالث من خارج الدائرة للجلوس في مقعد القيادة مؤقتا لغاية ترتيب أمور البيت التونسي والخروج من المأزق الحاد. وهكذا كان. استقال علي العريّض من منصب رئيس الوزراء يوم 9 يناير 2014. وفي 26 يناير تمت المصادقة على الدستور ودخل مقصورة القيادة مهدي جمعة يوم 29 يناير 2014. كما صادق البرلمان على الدستور وإجراء انتخابات برلمانية في 26 أكتوبر 2014 التي شهدت تراجع حزب النهضة وفوز «نداء تونس»، حيث اتصل راشد الغنوشي برئيس نداء تونس وهنأه بالفوز واعدا بتعاون حزب النهضة مع البرلمان الجديد. ثم جرت انتخابات رئاسية في دورتين: نوفمبر وديسمبر حيث فاز يوم 21 ديسمبر 2014 الباجي قايد السبسي زعيم نداء تونس على منافسه المنصف المرزوقي بنسبة 55.68٪ وتسلم مهام منصب رئيس الجمهورية في 31 ديسمبر 2014.
حزب النهضة كان جزءا
من الأزمة فاصبح جزءا من الحل
لا بد أن نثني على الدور الإيجابي الذي لعبه حزب النهضة، فبدل أن يصاب بالغرور ويقرر الاستفراد بالسلطة ـ كما فعل نظيره «حزب الحرية والعدالة» في مصر، ما سهل مهمة العسكر للقيام بالانقلاب يوم 3 يوليو 2013 ـ آثر أن يتخلى عنها من أجل الوطن. ولو استمع قادة الإخوان المسلمين في مصر لنصيحة الغنوشي «بعدم الاستئثار بالسلطة» لربما تجنبت مصر كثيرا من الأخطار والمواجهات الدموية والتفجيرات الإرهابية وتضييق الحريات التي تعيشها اليوم. وكما قالت وداد بوشماوي، رئيسة الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة وعضو الرباعي أمام مجلس الأمن، عندما وجه لها دعوة رسمية لمخاطبة الجلسة المخصصة لجذور الإرهاب يوم 17 نوفمبر: «نحن في تونس لسنا الاستثناء، بل فضلنا أن نحل مشاكلنا بالحوار ولذلك منحنا جائزة نوبل للسلام». ولو اتبعت دول الربيع العربي مسار الحوار هذا بدل الرصاص والبراميل والبلطجية والميليشيات وتسليح الجماعات الإرهابية لربما لم نشهد ما يجري اليوم من تدمير للمجتمعات وتشريد لملايين من السكان، وهدم للبنى التحتية وانطلاق الغول الطائفي وانتشار الجماعات الإرهابية المسلحة بأيديولوجية الموت وكراهية الآخرين، وتعمل ليس فقط على تدمير الحاضر والمستقبل، بل وتلتفت إلى الوراء لتحطيم التراث والآثار النفيسة التي تركتها حضارات عظيمة وكل هذا باسم الإسلام. ولا نعرف عن أي إسلام يتحدثون.
فتحية لتونس التي قررت أن تعيش حرة سيدة وحضارية «رغم الداء والأعداء كالنسر فوق القمة الشماء».