نهاية العام بين «داعش» وأبو تريكة والنظام

اثنين, 2015-12-28 13:16
عبير ياسين

يدور الكثير من الجدل حول خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي ألقاه في احتفال وزارة الأوقاف المصرية، بمناسبة ذكرى المولد النبوي. جدل على طرفي نقيض ليس بين الاتفاق والاختلاف على ما قيل فقط، ولكن على تقييم الخطاب والاتساق بينه وبين أحاديث السيسي السابقة. 
من يدعم النظام وممارساته يرى الخطاب بوصفه درجة عالية من الوضوح والشفافية والمكاشفة، وإشراك الجماهير في فهم اللحظة وطبيعة التحديات، وفهم الرئيس للواقع وما يدور في المجتمع والتحديات الداخلية والخارجية التي تواجه مصر. ومن يختلف مع النظام وممارساته، باختلاف الأسباب والأسانيد والرؤى، يرى أن الخطاب ولغة الجسد يمثل تعبيرا عن الخوف والقلق من ذكرى ثورة 25 يناير، والشعور بحجم الغضب الشعبي واختلاف الواقع عن صور الاحتفالات التي صاحبت حديث التفويض والشعبية. وإن كان هناك من اتفاق بين تلك الأطراف فهو افتراض أن حديث الرئيس جاء مختلفا بشكل كبير أو جذري عن أحاديثه السابقة، بدرجة الوضوح والصراحة أو القضايا المطروحة.
جدل يطرح التساؤل حول حقيقة التغير في الخطاب أو الأسلوب، ومع اختلاف القراءة وأساليب أو أسباب التقييم، فإن الكثير من ملامح الحديث تمثل اتصالا واضحا مع السيسي نفسه منذ ظهوره متحدثا وخطيبا قبل توليه منصب الرئاسة وبعده، أما صيغة الخطاب في بعض القضايا التي تفرضها اللحظة فهي خليط بين درجة عالية من تقييم الذات وحديث الرئيس المنقذ والمفوض، وكل ما ارتبط به من حقوق للرئيس والتزامات على المواطن تصب بدورها في استبعاد الرفض الشعبي على طريقة ما حدث مع كل من مبارك ومرسي.  استبعاد لا يقوم على افتراض الخوف بالضرورة، ولكن يتماشى مع ما كرره السيسي مرارا من أن قبوله المشاركة في الانتخابات الرئاسية بناء على مطالب الجماهير، وفي ظل غياب برنامج، هو أمر نابع من حرصه على مصالح الشعب، وأن مطالبة الجماهير ببرنامج - وليس فقط استقالة- أو انتقاد تعد خروجا عن تعاقد ارتضته عندما فوضته وطالبته. يتسق خطاب السيسي بدرجة كبيرة مع ذاته، ولكنه يحافظ أيضا على درجة عالية من عدم الاتساق العام والخلط بين المفاهيم التي تبدو واضحة أحيانا وغير مباشرة أحيانا أخرى. ولعل أبرز تلك النقاط هو الخلط المستمر بين الايمان - الدين أو الفكرة- والسلوك - التعبير والممارسة. وفي حين اتضح هذا الخلط مبكرا في تمييزه بين حرية الرأي التي أكد على احترامها وبين حرية التعبير عن الرأي التي اعتبرها مقيدة ويتم تقييدها منذ تلك اللحظة عبر القوانين والإجراءات التي تقيد نطاق الحراك الشعبي، ولا تتسامح مع الآراء المخالفة بغض النظر عن أسلوب التعبير عنها، بالإضافة إلى عدم الاتساق بين حديثه عن ضرورة الثورة على مرسي ونظامه، بسبب استخدام الدين في السياسة، وبين الطريقة التي يصيغ بها خطاباته دوما - خاصة الأجزاء المرتجلة منها- التي لا تتوقف عن استخدام الدين، لدرجة أن المحاسبة على القرارات والإدارة والحكم لا يحيلها إلى الشعب وخطاب الانتخابات أو استطلاعات الرأي العام، ولكنها بالنسبة له لحظة الحساب عندما يقف في مواجهة الخالق جل وعلا ويحاسبه على ما فعله.
وفي خطابه في ذكرى المولد النبوي ظهر الخلط مثيرا للجدل بين ما سماه حرية الإيمان الديني وحديثه عن حدود الحرية الممثلة في احترام حرية الآخرين وعدم الخروج عما سماه «المنظومة المحكمة التي خلق الله الكون في إطارها»، فهي تعبير عن الخلط بين الاعتقاد والتعبير عنه، أو الفكرة والسلوك بما يمكن أن يثير الكثير من الجدل في الشق الديني، كما حدث في تناول ما جاء في حديثه عن تجديد الخطاب الديني، الذي عمل البعض على التركيز عليه مقابل العديد من القضايا الأخرى المهمة. تركيز وتهميش يساهمان في صناعة الصورة المطلوبة من قبل البعض للمرحلة، ويسقط الكثيرون في فخ تقييد الجدل حول فكرة الخطاب الديني وذكرى ثورة يناير، في حين أن نقاط الجدل أكثر تنوعا، وبعضها يرد على تلك القضايا من داخل الخطاب نفسه.
ففي الخطاب يتساءل السيسي عن سبب دعوة البعض للقيام بثورة بعد أن تحدث عما يمكن أن يحدث إن انهارت الدولة، مؤكدا «احنا هنقف قدام ربنا على الأقل على الـ90 مليون مصري الموجودين.. يعيشوا في أمان وسلام وما حدش يروع مش يشرد يروع. عارفين يعني أيه يروع؟ يعني ما يبقاش خايف ما يبقاش قلقان»، تلك المقولة ذاتها ترد على تساؤله عن أسباب الثورة، هل الشعب فعلا أو جزء منه لا يشعر أنه مروع والأكثر أنه مظلوم ومنتهك، وأن كرامته - التي اعتبرها في الخطاب «أحد أهم أركان استقرار الدولة»- محترمة حقا؟ هل يشعر بالأمان والسلام؟ والأكثر أهمية هل يتحقق في حياته معنى العيش ولا تتهدد حياته ذاتها وتنتهك كرامته؟ التساؤلات كثيرة ولكن الرئيس استبعد أن تكون هناك أي أسباب موضوعية للدعوة إلى ثورة أو للغضب.
ولعل حديث الكرامة والاحترام ذاته يمثل بدوره طرفا آخر من الجدل، فالحديث دائما هو حديث الذات العالمة والعارفة بكل نواحي الموضوع. هو الأستاذ والخطيب ورجل الدين ورجل الدولة والرئيس الزعيم، هو الذي يوجه رجال الدين في ما يجب أن يقال على منابر المساجد وما يفترض أن يفعله أعضاء البرلمان. هو الذي يتحدث عن أهمية الأخلاق ويرى أنها أصبحت عملة نادرة تتوفر لدى أقلية فقط، وربما يتحدث في المستقبل ليس فقط عن المهام الصعبة التي يتحملها بسبب التفويض، ولكن عن صعوبات أن تحكم دولة لا يتميز أهلها بالأخلاق ولا تعلم مدارسها الأخلاق التي تحولت إلى عملة قديمة، بما يبرر الحديث عن لجنة الأخلاق ودعوة البعض إلى تجييش الأخلاق عبر تكليف القوات المسلحة بالمهمة وتأسيس الشؤون المعنوية للأخلاق. خط استكلمه البعض بالجدل حول ساعات نوم الرئيس ليصبح من حق الرئيس أن يطالب الشعب بأن يحاسب نفسه عما قدمه لمصر من عمل وصبر.
وفي الوقت الذي يتحدث فيه عن التسامح الإسلامي وضرورة توجيه التهنئة للمسيحيين في ظل الأعياد، يوجه خطابا تعميما للشعب المصري، وكأنه بأكلمه يتبنى خطاب رفض الآخر غير المسلم، وكأن مصر دولة حديثة العهد بالتنوع. من يستمع لخطاب السيسي يجد أنه يقدم نفسه بوصفه صوت العقل والتسامح لدرجة أنه تجاوز حدود التعميم المصري للتعميم الإسلامي معبرا عن سعى المسلمين للتخلص من غيرهم والعيش بمفردهم في العالم. صورة ترسم صورة الزعيم المصري - الإسلامي المؤمن بالآخر والمدافع عنه ضد أفكار الرفض والعنف التي تقدم بوصفها أكثر انتشارا من «داعش» لدرجة مطالبة البعض للسيسي بالدعوة لمؤتمر عربي لمناقشة تحديات المستقبل وتقديمه خريطة طريق لهذا، مع إبراز مطالبة الفتاة الإيزيدية نادية مراد، الهاربة من «داعش»، بعد لقائها بالرئيس، له بالعمل على توحيد العالم الإسلامي من أجل حرب «داعش».
يتقاطع تنظيم «داعش» دوما مع الخطاب السائد، خاصة في الحديث عن إنجاز الغياب، فما دامت مصر لم تصل إلى واقع الدول الأخرى التي تحولت إلى دول طاردة وغير آمنة، فهي في حال أفضل، خطاب يتجاوز أن الشعب في تلك الدول، ومع اختلافات واضحة في الأسباب والعوامل التي قادت إلى «داعش»، لم يجد نفسه تحت عذاب «داعش» وحده، ولكنه وجد نفسه في حالات واضحة بين مطرقة النظام وسندان «داعش». واقع بدوره يغذي «داعش»، و»داعش» بدوره يغذي خطاب السلطوية وتبرير غياب الديمقراطية ونشر الكراهية في كل ما يحيط به، كما تغذي خطاب البطل أو الزعيم المطالب بوضع خريطة أمل للشعب، خاصة الشباب اليائس ووضع خريطة خروج من الأزمات للعرب وقيادة العالم الإسلامي، والزعيم الساعي لحماية غير المسلمين من المسلمين بوصفه المدافع عن الأخلاق والتسامح.
يطل «داعش» بشكل مباشر وغير مباشر على خطاب السيسي وعلى أجواء الحديث عن الثورة، واقع يرى فيه البعض أن فكرة التغيير أو الدعوة لها بوابة للفوضى ولـ»داعش» واللجوء، مقابل من يرى فيه بوابة خلفية لـ»داعش» عبر توفير الظروف المساعدة على وجوده أو نموه. وفي الوقت نفسه يوجد «داعش» بصور كثيرة، وهو يدعم خطاب الكراهية وينمو عليه في علاقة ظهرت واضحة في حرب البعض ضد اللاعب محمد أبو تريكة، وتجاوزه إلى دولة الكويت بعد أن شارك في مباراة نجوم العالم، ورفضه الحصول على أي مقابل مادي مقابل المشاركة والتقدير الكويتي المصاحب لموقفه، الذي تجاوز الموقف الرسمي إلى هتافات الجماهير في الملعب، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي. هذا الحب والتقدير الذي خالف الخطاب المصري الرسمي لم يسعد البعض، فصاحبه توليد لخطاب كراهية لم يواجهه مبارك نفسه أو رموز حكمه، في حين سارع البعض لتهدئه حملة الكراهية بعد أن امتدت إلى الكويت مهددة بالاساءة للعلاقات بين الدولتين.
أعاد حدث أبو تريكة العديد من التعليقات الإيجابية عن الكرامة المصرية وعن حضوره في الكثير من لقطات الفرح والتكريم والفخر الوطني، في الوقت الذي أثبت فيه أن الماء يطفئ النار والحب يواجه الكراهية وخطاب «داعش» أو التخويف به له حدود عندما يتعلق الأمر بالحب والتقدير من أجل المبادئ والقيم. قد يرفع النظام خطاب كراهية شخص أو تنظيم أو جماعة أو دولة، ولكن قدرة المواطنين على الفرز مرتبطة بسياق ممتد، وعندما لا يكون المقابل هو كراسي أو منافع، تكون ردود الفعل تلقائية وقوية. وكما جاءت أصوات الجماهير مطالبة بحب بعودة أبو تريكة للملعب تسقط قطرات المطر على الصخر فتساهم في تفتتيه ليس بالقوة، ولكن بالمثابرة والاستمرار. وإن كان «داعش» لازال مستمرا في نهاية عام آخر، والديمقراطية لازالت غائبة والكراهية لازالت حاضرة، فإن صوت العقل لا يغيب، وإن كان الأمل يأتي ويرحل، فعلينا مع محمود درويش أن نتمسك به ولا نودعه مع نهاية العام، بل علينا أن نولد من نهاية عام فرصة لميلاد أمل جديد يتحمل تحديات جديدة في أسابيع ممتدة من الكراهية.