تعدانا الزمن وتعدى حواراتنا، لقد حان الوقت «لرجل» الدين المسلم، و«لإمرأة» الدين المسلمة التي يجب عليها أن تدخل «الحلبة» اليوم، أن يطورا من الخطاب الديني وأن يعزلاه عن ذاك السياسي عزلاً تاماً. لقد أنعم علينا تاريخنا الطويل المظلم بلحظات مضيئة، بمصابيح فكرية هنا وهناك، فما كان منا الا أن قذفناها بالصخر مستعيدين الظلمة التي لا نستطيع أن نرى سوى في عتمتها المريحة، ولقد حان الوقت لأن نضع الصخر جانباً ونعلن الهدنة العقلانية.
ان الحوار الدائر في المملكة العربية السعودية حول قيادة المرأة هو حوار تعداه الزمن وتجاوزته طبيعة الأشياء، وهو اليوم مصدر لانتقاد وسخرية العالم الذي يشاهدنا ونحن نتجادل في ما هو ليس حق في الواقع، ولكن ضرورة معيشية يومية، عادة انسانية طبيعية لا يمكن لأحد أن ينقطع عنها.
حوارنا اليوم يجب أن يتخذ منحى آخر، حان لنا أن نتحدث عن مسألة المساواة التامة للمرأة بالرجل في كل مناحي الحياة (ليتبعها بعد ذلك حوار عن مدى صحة وضع الرجل كنموذج أساسي تقاس عليه الحقوق، وهذا حوار متطور لاحق).
حان للمفكرين الاسلاميين أن يطوروا من قراءاتهم الفكرية للقرآن والحديث بما يصل بهم لمساواة المرأة بالرجل في كافة الحقوق، دون أي استثناءات، فتلك خطوة مهمة باتجاه تعديل الفكر الشعبوي العام ليتقبل القوانين المدنية الحديثة التي يجب لها أن تكون المسيطرة في الدولة. ولقد حاول مفكرون ومفكرات متنورون ومتنورات أن يصدروا أبحاثاً بهذا الاتجاه أمثال د نصر حامد أبو زيد، د محمد أركون، فاطمة المرنيسي وغيرهم، الا أن نصيب هؤلاء لم يكن بأفضل من نصيب ابن رشد وابن سينا، فليس هناك مثلنا في اضطهاد العلماء الحقيقيين في النور ثم نعيهم في الظلام.
الدكتور نصر حامد أبو زيد مثلاً قدم في كتابه «دوائر الخوف» قراءة جديدة تماماً لموضوع الارث، الحجاب، تعدد الزوجات، حق الطلاق، وغيرها، مؤكداً على أن الترقرق الطبيعي للشريعة (الكلمات هنا لي)، ومعناها في اللغة الماء الجاري، هو أن تتجه باتجاه المزيد من الحريات والمساواة.
كذلك فعلت فاطمة المرنيسي في كتابها «الحريم السياسي» الذي قدمت فيه ليس فقط قراءة في هذه المسائل المستعصية ولكن أخرى تاريخية ونفسية لشخصية النبي محمد، وللدين الاسلامي في أول عصره، وكيف أن النبي كان انساناً ثائراً على كل الأوضاع الظالمة العنصرية مستبعداً كما تقول المرنيسي «فكرة الرقابة، الرقابة البوليسية، وذلك هو ما يفسر غياب رجال الدين CLERGE، وتشجيع كل مسلم بأن يتدبر لوحده فهم النص» (237).
ولربما آتي في المقالات المقبلة على تحليل أكبر لهذين الكتابين المهمين للمرنيسي وأبو زيد، على اعتبارهما ثوريين في قراءتهما التحريرية للمرأة كما في قراءتهما للدين والتاريخ وشخصية النبي، وفي ندائهما بالمساواة الكاملة غير المنقوصة.
وبكل تأكيد، عندما أقول مساواة كاملة، فأنا أعني حرفية الكلمة، وهي المساواة التي يمكن، اذا ما أراد المفكر، استقراؤها من التاريخ الاسلامي وفي فقهه. لا بد من المساواة التامة في حقوق الزواج والطلاق، بحيث يصبح للمرأة ذات الحق في التطليق وفي ذلك يقتبس أبو زيد من الامام محمد عبدو قوله «لا يمكن – مهما ضيقنا حدود الطلاق – أن تنال المرأة ما تستحق من الاعتبار والكرامة الا اذا منحت حق الطلاق» (222). لا بد من انهاء ممارسة تعدد الزوجات ومن التخلص من الفرق الارثي بين الذكور والاناث، وفي ذلك يقدم د أبو زيد قراءة جميلة يبين من خلالها أن حظ الرجــــال يقاس في الواقع بحظ الاناث في النص القرآني الذي يقـــول «للذكـــر مثل حظ الانثيين» وليس للأنثى نصف حظ الذكر، وعليه يصبح نصيب المرأة هو المقياس مما يفتح الباب أمام تطوير التشريع إلى مساواة نصيبها بذاك الذي للرجل. لابد كذلك من انهاء الدفع القسري بالحجاب على المرأة، الذي في حين يكون ارتداؤه حرية شخصية، فإنه لا يجب أن يكون هو القاعدة المفروضة على المرأة المسلمة التي يحق لها حريتها في جسدها ما يحق للرجل دون قصور أو استثناء.
هذا هو الخطاب الذي يجب أن نتداوله في القرن الواحد والعشرين، ليس خطابا حول ما اذا كان يحق للمرأة أن تقود سيارة أو تبحث في الانترنت أو تجلس على كرسي (نعم هناك فتاوى بتحريم ذلك)، ليس خطابا حول ارضاع الكبير وبول البعير ومعاشرة الزوجة بعد موتها وتحويلها إلى جارية حتى تستطيع أن تخلع حجابها (نعم هناك فتاوى من هذا النوع كذلك، وقادمة من أكثر الدول العربية عصرية وتقدماً)، الخطاب يجب أن يكون شيئا مختلفا تماماً، ملايين السنوات الضوئية في بعده عن خطابنا الآن. فمتى نترك «تلك العتمة الباهرة» خلفنا ونلحق بمسيرة الضوء؟
٭ رواية للرائع الطاهر بن جلون، وهي من أدب السجون.