ليس بوسع أزمة طارئة أن تغير حقائق الجغرافيا والتاريخ والثقافة، فمن حق السعودية ـ ودول أخرى ـ أن ترد على الحرق الهمجي لسفارتها وقنصليتها في إيران، ومن حقــــها أن تقطع أو تبقي على العلاقات مع طهران، ولكن بـــدون اندفاع إلى ما يشبه إعلان الحرب الدائمة، فإيران ليست «إسرائيل»، وإيران كانت وستظل بلدا كبيرا في العالم الإسلامي، أيا ما كانت طبيعة نظامها الحاكم.
ولا أحد يستطيع أن ينكر دور إيران في إثارة قلاقل بدول الخليج، ووضع الشيعة العرب في حوزتها، واستخدامهم في توسيع رقعة النفوذ الإيراني، خاصة بعد التضخم الهائل لدور إيران في المنطقة، وتزايد قوتها العسكرية والعلمية والميدانية، ومد نفوذها المسيطر إلى شاطئ البحر المتوسط، عبر العراق وسوريا ولبنان، وإلى البحر الأحمر عبر دعم «الحوثيين» في اليمن، إلى حد بات فيه المشرق العربي والخليج العربي تحت رحمة الخطر الإيراني المباشر، الذي لم تفلح في دفعه ترتيبات الاستعانة بالحماية الأمريكية، التي استنزفت هي الأخرى عوائد البترول الخليجي، ومدت قواعدها البرية والبحرية على خرائط الهلع، وفي صورة استعمار مدفوع الأجر.
والمفارقة الكبرى في المسألة الإيرانية، أن دولا عربية غنية ساهمت بالنصيب الأكبر في صناعة المجد الإيراني، بإنفاق عشرات المليارات من الدولارات على حملات ملتاثة لتكفير الشيعة، ودعم مذاهب وجماعات دينية، تحقق سياسة الاستعمار «فرق تسد»، وتنشر الفرقة بين المسلمين، وتنهك مجتمعاتهم، وتشعل حروب السنة والشيعة، خاصة بعد الغزو الأمريكي لاحتلال العراق، وإسقاط صدام حسين، الذي كان نظامه يشكل حائط الصد للتوسع الإيراني، ولم يكن ليسقط بدون الدعم اللوجستي والمالي العربي لحملة الغزو الأمريكية البرية، التي انتهت إلى تفكيك دولة العراق، وحل الجيش العراقي واجتثاث حزب البعث. فقد مول العرب حملة احتلال وتفكيك العراق، وكانت إيران هي المستفيد الأعظم، فقد زالت قوة العراق المانعة للانتشار الإيراني، وخلق فراغ «جيو سياسي» و»جيو عسكري» في المشرق العربي، تقدمت إيران لملئه، وخلقت اتصالا جغرافيا وميدانيا مباشرا مع دوائر نفوذها الأسبق حضورا في سوريا الأسد ولبنان «حزب الله».
العرب ـ إذن ـ هم الذين صنعوا مجد إيران، وبصورة أكبر تأثيرا مما صنعته إيران بجهدها الذاتي، فقد تمدد المشروع الإيراني في خلاء المشروع العربي، وتطور المشروع القومي الإيراني في زمن انهيار المشروع القومي العربي، فقد خرجت مصر بثقلها الحاسم من قيادة المنطقة عام 1979، بعقد ما يسمى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، ودخلت إيران على الخط بثورة الخميني عام 1979 نفسه، كان الدخول الإيراني متواقتا مع خروج مصر، خرجت مصر من ساحة المواجهة مع «إسرائيل»، ودخلت إيران بدعم بناء «حزب الله» اللبناني، وبدعم حركات المقاومة الفلسطينية بعدها، ثم كانت القفزة الكبرى بعدها بعشر سنوات، مع توقف الحرب العراقية ـ الإيرانية التي أنهكت إيران داخليا، وكان جيش صدام حسين مؤلفا بغالبية جنوده من الشيعة، وقد حاربوا الخميني نفسه، دفاعا عن العراق وعروبة العراق، ثم كان الخطأ التراجيدي لصدام بغزو الكويت، وعجز النظام العربي المتآكل عن صياغة حل عربي، واللجوء للقوة الأمريكية بهدف إخراج صدام من الكويت، ثم فرض الحصار الشامل على العراق، الذي لم يكن ليسقط، لولا الغزو الأمريكي المدعوم عربيا، وهكذا أزيح آخر حجر عثرة من طريق إيران، التي لم تدفع فلسا لكسب العراق، واستفادت بإتاحة مليارات العرب وأراضيهم، التي جرى تجنيدها لذبح صدام ودولة العراق، ثم ذهب الضلال ببعض العرب إلى المدى الأبعد، وتصوروا أن الحل في «مشروع سني» يحل محل المشروع القومي العربي، ويجعل غاية همه إعلان الحرب على الشيعة كيدا لإيران، بما جعل الشيعة العرب رصيدا مضافا لحساب إيران، التي لم تفوت الفرصة العظيمة المهداة إليها على طبق الذهب، ووضعت شيعة العراق في جيبها، ثم طورت علاقاتها مع الشيعة في بلدان الخليج العربي، وجعلت من نفسها حامية حمى الشيعة في كل مكان، فالتشيع في إيران ليس مجرد قضية دينية، بل قضية قومية بامتــــياز، ذلك أن إيران بلد متعدد القوميات، ولا تشكل القـــومية الفارسية فيه أكثر من ثلث الإيرانيين، في حين يشكل الشيعة الغالبية الساحقة في قوميات إيران المتعددة، حتى في صفوف عرب «الأحواز» التي تحتلها إيران منذ حوالي قرن كامل، وهكذا بدا «التشيع» حلا قوميا في إيران متعددة القوميات والأعراق، وكان «التشيع» هو الصيغة المثلى لتكريس النزعة الفارسية، والمزج بين ميراث فارس القديمة ونفوذ إيران الحديثة، وقد كانت تلك هي الصيغة المعتمدة إيرانيا منذ عهد اسماعيل الصفوي، ووصلت إلى ذروة تمامها مع حكم آيات الله في طهران، الذين حولوها من صيغة تماسك داخلي، إلى أداة لكسب النفوذ الإقليمي والدولي، فلم يكن لإيران هذا النفوذ الطاغي على الشيعة العرب في أي وقت سابق، وكان الشيعة العرب من أشد أنصار المشروع القومي العربي، وكان غالب أعضاء حزب البعث العراقي ـ مثلا ـ من الشيعة، وكان شيعة العراق يحاربون بحماس «إيران الخمينية» دفاعا عن انتمائهم القومي العربي، وهو ما لم يعد ممكنا تصوره الآن، فقد تحول غالب الشيعة العرب ـ في العراق والخليج ـ إلى «التابعية الإيرانية» عمليا، ووجدوا في طهران ملاذا مفضلا، دفعتهم إليه دفعا تيارات التكفير المتعصب، التي تنسب نفسها لأهل السنة والجماعة، والتي تشكل غالب ملامح وتلاوين ما يسمى التيار الإسلامي، ولعبت أخطر الأدوار في تمزيق لحمة المجتمعات العربية «السنية»، ونشرت تفسيرات متخلفة للإسلام، تعادي القومية العربية وتكفر الشيعة، ومع غياب المشروع القومي العربي، وتداعي فكرة المواطنة القائمة على الأساس القومي لا المذهبي والطائفي، وجد الشيعة العرب ملاذهم في خدمة المشروع القومي الإيراني، الذي يزدهر الآن أكثر من أي وقت مضى، خاصة مع التطور الإيراني في العلوم وصناعات السلاح والمشاريع النووية والصاروخية، وتحول إيران إلى «الرقم الصعب» في المنطقة، يتغذى نفوذه على موارد التخلف والتكفير، وعلى مليارات البترودولار، التي أنفقت وتنفق على تحطيم الدول وتفكيك النسيـج القـــومي العربي، بغــير فائدة محققــــة إلا لطرفين، هما الاستعمار الأمريكي ـ الإسرائيلي المشجع لسياسة «فرق تسد»، مع النفوذ الإيراني الذي كسب ويكسب أرضا جديدة كل يوم، وعلى حساب «الخلاء الصحـــراوي» والدمار الشامل الذي صنعته تيارات تكفـــير وتفجير، تنسب نفسها زورا لمذاهب السنة، وتحظـــى بمليارات الذين يدعون محاربة إيران «الشيعية»، وهم في الحقيقة يدعمون نفوذها، ويقدمون لها أعظم الخدمات.
وقد لا يصح لأحد أن يتوقع تغييرا جوهريا في الصورة العامة، ما دام البعض لا يزال مصرا على معالجة الخطأ بالخطيئة، وتحويل ردود الفعل الوقتية العابرة إلى سياسة دائمة، فقطع العلاقات مع إيران لن يحل المشكلة، ولن يقلل من التأثير المباشر لإيران على شيعة الخليج، ولن يحد من النفوذ الإيراني عموما في المنطقة، بل ربما يضاعفه ويفاقمه، فقد يتوهم البعض أنهم يحاصرون إيران، بينما الحصار الأمريكي نفسه عجز عن ردع إيران، ولم يزدها إلا قوة في المجالات العلمية والعسكرية بالذات، ولا يكون الدواء أبدا بالتي كانت هي الداء، ولا بإدارة ماكينات حروب السنة ضد الشيعة من جديد، وتأملوا ـ من فضلكم ـ سلوك الدول الاسلامية الكبرى غير العربية، فلم تقطع تركيا وباكستان «السنيتان» علاقاتهما مع إيران تضامنا مع السعودية، رغم أن تركيا وباكستان هما الأقرب سياسيا للسعودية، حسب المعلن، فباكستان هي الدولة التي حظيت بأكبر دعم سعودي على مدار عقود، وتركيا عقدت مؤخرا حلف «تعاون استراتيجي» مع الرياض، لكن حساب المصالح القومية شيء آخر، ولتركيا وباكستان مصالح قوية مع إيران، وليس بوسعهما إعلان عداء متصل لطهران، وهكذا الحال مع دول كبرى أخرى في الشرق الآسيوي الإسلامي، تضاف إليها دول كبرى في العالم العربي نفسه، مستعدة للتضامن مع السعودية، ولكن بدون حرق الجسور تماما مع إيران، والمحصلة ظاهرة، فشؤون الأمم الناضجة لا تدار بافتعال حروب المذاهب، ولا بتأجيج النزعات الطائفية المتخلفة، التي ثبت أنها تفيد إيران في المقام الأول، وهو ما قد يشير ـ بمعنى الهندسة العكسية ـ إلى حلول لتحجيم وردع التغول الإيراني، أولها: وقف حروب السنة والشيعة التي تمزق النسيج العربي بالذات، وثانيها: رد الاعتبار لأولوية المشروع القومي العربي، وتأكيد أولوية معنى الأمة العربية الجامعة على معاني أمم الطوائف والزواريب، وثالثها: المسارعة إلى اتمام مشروع الحلف العسكري العربي والقوة العربية المشتركة، فلن يحك جلدك مثل ظفرك، وتوفير قوة الردع يغني عن خوض الحروب، والاستمرار في طلب حماية الأمريكيين والأجانب لن يوردنا إلا المزيد من التهلكة، ورابعها: إدراك أن إيران ليست إسرائيل، وأن تداعي مظاهر العداء العربي الجامع لإسرائيل، هو الذي يفاقم نفوذ إيران الحريصة على مظهر العداء للصهاينة، وخامسها: ضرورة عودة مصر بالذات إلى موقع قيادة وتوجيه تستحقه، وبدون التضحية بأولوية علاقات القاهرة مع السعودية ودول الخليج، ففي غياب مصر عن دورها، توالت كل المصائب، بما فيها مصيبة توحش النفوذ الإيراني.