«ألقت مباحث الجيزة القبض على طالب بمحيط جامعة القاهرة، بحوزته كتاب بعنوان «1984» للكاتب جورج أورويل، يتحدث عن الأنظمة الفاسدة التي تحكم البلاد بديكتاتورية…» خبر تم تناقله بصور مختلفة في مصر، قبل أن يتم نفي أن تكون الرواية هي سبب القبض على الطالب، بل التأكيد على أن الداخلية لا تعرف الرواية نفسها. خبر حصل على الكثير من الاهتمام لم يقلل منه محاولات التوضيح أو النفي التي قام بها العديد من الأشخاص، سواء بشكل رسمي عبر الداخلية، أو عبر وسائل الإعلام والبرامج التي حاولت نفي الربط بين الرواية والقبض على الطالب، واستخدام الحدث للتأكيد على عدم عداء النظام للحريات وعدم وقوفه ضد الرواية أو غيرها، مع التأكيد على أن القبض على الطالب ارتبط باعتبارات أمنية.
ولكن بعيدا عن النفي ومحاولة استخدامه لتأكيد ديمقراطية النظام، فإن الاهتمام الذي حصلت عليه الرواية وعدد مرات تحميلها والبحث عنها على الانترنت، ووضعها كاملة أو كمقتطفات على صفحات التواصل الاجتماعي، لم تكن إلا جزءا بسيطا من الحضور الذي لا يمكن نفيه عن اللحظة التي جعلت تلك الرواية تحديدا ترتبط بالخبر، فتعيد لها حياة مفتقدة في مصر وتعيد التفكير في الواقع كله على ضوء أحداثها. فهل كانت مجرد صدفه عبثيه ان تكون الرواية التي تحولت إلى مضبوطات مع الطالب هي «1984» تحديدا، أم أنه القدر وهو يقدم نفسه كمنظار مكبر للواقع فيسمح له بتعرية نفسه وإبراز تناقضاته؟ فحتى خبر ضبط الرواية، كما صيغ في الاخبار الأولى، قريــــب من الرواية، حيث يمكن أن تحاكم بدون قانون، فالكثير من الأفعال كما يؤكد بطلها ونيستون يمكن أن تقــــودك إلى وزارة الحب، حيث العقاب والمحاسبة، بدون أن يـــوجد ما يجرم الفعل في البداية، كل ما تفعله أو يعبر عن فكر ما بما فيه رواية أو دبوس أو مسطرة أو مجرد بلالين تقف بها في الشارع معترضا في الصباح يمكن أن يستلزم العقاب.
حقيقة القبض على الطالب بسبب الرواية من عدمها تظل في عمق الرواية، حيث الحقيقة نسبية ومتغيرة على طريقة تغيير الماضي بشكل دائم، والتخلص من الحقائق في قبور الذاكرة، فلا يوجد إلا ما يخدم رؤية السلطة والوعود والتنبؤات التي تقدمها.. ولأن السلطة لا تخطئ فإن الماضي يجب أن يتغير فتتوافق اللحظة مع ما قيل. تصبح وعود وزارة الوفرة المعبرة عن الاقتصاد أفضل بصفة دائمــــة مما تعهــــدت به، وبدلا من الحديث عن نقص الإنتاج تتغير الأرقام القديمة ويصبح الواقع وفرة في الإنتاج يفرح به المواطن حتى وهو لا يلمسه على الأرض. في الواقع وزارة الوفرة لا تحتاج إلى تغيير الإرقام،، ولكن إلى تغيــــير درجة التركيز والاهتمام، فما يقدم اليوم بوصفه معاناة كـــبرى يقدم في اليوم التالي بوصفه الإنجاز الأكبر في ظل الحرب على الإرهاب. أما نقص الكهرباء فستتم مواجهته بعد سنوات حين يتغير الناس والأحداث وتضيع فرص المحاسبة.
يقول البعض إن القبض على شخص ما بسبب رواية او شريط غنائي ثوري أو ديني الطابع، أو كلمة ليس أمرا جديدا، وان نظام مبارك فعله كثيراً، ولكن الفارق الذي يتم التجاوز عنه أن ما بين مبارك واللحظة، ثورة ودماء وتضحيات وأحلام وإحباطات. ما بين الماضي والحاضر هناك 25 يناير، التي يجب ألا تسقط في مقابر الذاكرة، وإلا سيطر الأخ الأكبر والحزب بما يمثله من أفكار على مفاصل الحياة وقادنا لواقع غير واضح المعالم، يتجاوز ما قبل يناير. واقع كالرواية يُنسى فيه التاريخ ويصبح عرضة للتغير باعتبار أن من يملك الحاضر يملك الماضي، كما يقول الحزب، وبما يعني أنه يتحكم في المستقبل. أن تملك السلطة الحاضر وتتحكم في الذاكرة، كما عبرت الرواية، يعني أن تسقط يناير كثورة وتظل في الذاكرة مجرد حدث تخريبي، وأن تعاد كتابة تاريخ ما قبل يناير، فيتحول إلى جنة مفتقدة تماما كتاريخ الحزب صاحب الانتصارات وقاهر الإعداء، بدون أن تتحدث عن البشر ومعاناتهم والوطن واستغلاله والفساد وانتشاره. أن تسقط الذاكرة يعني أن تسقط كلمة ثوار ليحل محلها أعداء الوطن، وأن يغيب الوطن ويحل محله ساعات ممتدة من الكراهية واحتفالاتها التي توجد في الكثير من الصور حولنا بالفعل.
في الرواية تبدو الكراهية بوصفها الأساس التعبوي داخل الحزب، ولكن ظهور العامة في المشهد يظل هامشيا، على طريقة الحشد الجماهيري عندما تهتف عند إعدام الخونة الذين لا يعرفهم أحد بالضرورة، وأن تذهب إلى الميادين لمشاهدة عروض السجناء من الأعداء الذين يتغيرون دوما، وأن تفرح لمشهد تفجير القارب المحمل بالأطفال، في مشهد سينمائي شديد القوة.. عندما تفرح الجماهير وهي تتعامل مع الأطفال وأطرافهم المتناثرة بوصفهم مجرد أعداء ليس لهم قيمة إنسانية. في الرواية يرفع البعض الصوت عاليا في دقيقتي الكراهية لأنها الوسيلة المضمونة لتأكيد الولاء والصعود الحزبي أو الحفاظ على المكانة المتحققة. وفي الواقع يبدو حشد الجماهير واضحا في فكرة التفويض المفتوح، والخطاب التعبوي – الاقصائي الذي يميز بين مواطن شريف وعدو، وطالب وطني وخائن ثوري. إلى جانب المطالبة بأن يراقب كل شخص غيره على طريقة وزارة الحقيقة، أو جهة الإعلام المسؤولة عن تسجيل حركات أعضاء الحزب وتأسيس لجان الجواسيس وتربيتهم، حيث الابنة تبلّغ عن أبيها بسبب حلمه الذي هتف فيه بسقوط الأخ الأكبر.. وفي الواقع تبلّغ الأم عن ابنها، وتبلّغ المواطنة الجالسة في المقهى عن الصحافي الفرنسي الآن جريش مدير تحرير جريدة «اللموند دبلوماتيك» لأن شكله أجنبي ويتحدث عن الأوضاع بطريقة تخالف تصورها أو تصور السلطة لمصلحة الوطن.. في مصر 2014 يبدو أن الكراهية ليس لها أسبوع محدد، كما أنها تتجاوز طقوس دقيقتي الكراهية اليومية، بالإضافة إلى أنها تستهدف حياة الناس العادية، تلك التي راهن ونستون عليها في الرواية لتقود الثورة أو تبقي الأمل حيا في التغيير.
تنمو الكراهية في ظل قبور الذاكرة وازدواجية التفكير، بما تعنيه من القبول بكل المتناقضات. وعندما يتحول هذا النمط إلى التفكير السائد لحسن السلوك فقد يقود الخروج عنه إلى وزارة الحب، حيث كل الاسماء عكس حقيقتها لكي يسهل القبول بالفكرة ونقيضها، فالثورة مقبولة ومرفوضة حسب تعريف السلطة ومن حولها، والمصطلح يختلف عند الحديث عن 25 يناير عنه عن 30 يونيو، ومن شارك قد يعد ثائرا أو خائنا وهكذا. ولعل علينا أن نسأل أليس العداء للثورة والثوار والمصالحة مع نظام مبارك جزءا من قبور الذاكرة وإعادة كتابة التاريخ، أن تكره الثورة لأنها أصل الشرور، وأن تحب الأخ الأكبر لأنه الأمان والإنقاذ، وأن تزيد الكراهية لأنها الولاء، وأن تصبح الكراهية في الواقع هي اللغة الجديدة في الرواية، حيث يجب ألا يتحدث أحد بغيرها وإلا سقط في دائرة الأعداء، أن تحل صورة جماعة معيــــنة في كل حدث شرير على طريقة المنشق عن الحزب غولدشتاين في الرواية، في حين أن كل الخير يتحول إلى شعار كبير على طريقة عمارة النصر وسجائر النصر في الرواية أو تحيا مصر! كلها صور للكراهية وتربية أجيال ترى أن الحزب ثابت لا يمكن ولا يجب تغييره لأن ما قبله شرور، وما بعده حياة حتى إن كان الموت هو المحيط بالمشهد المعاش، ما دام الإعلام يرى غير ذلك وقبور الذاكرة تحوي ما يخالف الخطاب الرسمي.
يؤكد اورويل في «مزرعة الحيوان» التي نشرت في 1945 وفي «1984» التي نشرت في 1949 على أهمية الذاكرة لوعي الجماهير ومستقبل الثورة. فإن تطمس وعود الثورة، كما في «مزرعة الحيوان» من خلال التعديل المستمر، أو ان تغير التاريخ القديم والقريب بشكل دائم وتعيد كتابته بما يتوافق مع السلطة وأفعالها والواقع وتغيراته في «1984» هي جزء أساسي من جهود أي سلطة لقمع الثورة والقضاء على الأمل. وأن تحذف الوعود السابقة، لا يختلف عن ان تعيد كتابة أحداث ما قبل الثورة وما بعدها وتعيد تعريف ضرورة الثورة وفرصها في المستقبل. جاءت لحظة القبض على الطالب وما أطلق عليه بشكل ساخر، على الطريقة المصرية، «معتقل الرواية» لتضع الواقع المصري في دائرتها، ولتضع الرواية على السطح حتى تسقط في مقبرة الذاكرة أو حتى يعيد الواقع كتابة أحداث أخرى تغطى عليها، على طريقة آفة الحارة هي النسيان، أو أن ينجح الناس في الإبقاء عليها كجزء من المقاومة فتكرر ولا تنسى ولا تنتهي الأحداث بلحظة محبة الأخ الأكبر وتلقي رصاصة الموت.