برلمان تصدير الفضائح

اثنين, 2016-01-25 00:04
عبد الحليم قنديل

لا شبهة في مغزى قرار منع البث التلفزيوني المباشر لجلسات برلمان علي عبدالعال، فقد أريد به وقف بث الفضائح، والتخفيف من صدمة الخيبة «بجلاجل»، وهو هدف لن يتحقق غالبا، فهو يصادر الحق الدستوري للناس في مراقبة برلمان يتحدث باسمهم، وتلك في حد ذاتها فضيحة الفضائح.
وتصور البرلمان كشخص خرف يحق عليه الحجر، وبلوى ومصيبة يخفيها الذين أمروا بالمنع، إضافة إلى أن القرار لن يحد من تسريب الفضائح، فلم يعد بوسع أحد أن يتخفى بشيء، أو أن يغطيه بحجاب ونقاب يستر القبح عن الناظرين، فالثورة الهائلة في تكنولوجيا «الموبايلات» الحديثة، والمباريات اللحظية لمواقع التواصل الاجتماعي، تجعل قرار الحجب حبرا على ورق، وتذيع الممنوع بالصوت والصورة، خصوصا مع إغراءات متابعة التصرفات البهلوانية، وتوالي «نمر السيرك» الذي توقعنا مبكرا أن ينتهي إليه حال البرلمان المصري الجديد.
وقد يقال لك إنها فوائض حيوية سياسية، وإن الهرج والمرج قد يحدث في أعرق البرلمانات، وإن اشتباكات النواب تواترت في برلمان كوريا وأوكرانيا، وحتى في مجلس العموم البريطاني، ولا بأس أن تحدث عندنا أيضا، وهذه نظرية بائسة في التبرير، لا تدرك الفرق، ولا تعرف أن الاشتباكات العنيفة بالألفاظ أو حتى بالأيدي، وحوادث الصفع والركل التي شهدتها بعض برلمانات الدنيا الديمقراطية، قد تعد تجاوزا في طرق التعبير وانفعالاته، ولكن حول قضايا عامة، أو استجوابات ساخنة، أو بين مؤيدي الحكومات ومعارضيها، وهو ما لا يشبه شيئا يحدث عـــــندنا، فالبرلمان المصري الحالي منزوع السياسة، وخال من شبهة المعارضة إلا في ما ندر، وفضائحه الصاخبة من نوع آخر تماما، وعلى نحو ما عرفه الناس في الجلسات المذاعة تلفزيونيا، من عينة الركاكة اللغوية المفزعة، من أول الرجل الذي اختاروه رئيسا للبرلمان، إلى النائب الذي يحلف بالطلاق بمناسبة وبدون مناسبة، إلى الجهالة المفرطة بأبسط مبادئ ودواعي الدستور واللائحة، وإلى قرارات الإدارة التي لا تقر على قرار، وتستعيد سيرة «المعلم حنفي» في فيلم «ابن حميدو» الكوميدي الشهير، فتؤخذ القرارات في تعجل وثقة، ثم «تنزل الأرض» بالتعجل نفسه والثقة ذاتها، وكأننا أمام «برلمان تجريبي» و»منصة تجريبية»، يصيبه ويصيبها «زهايمر» ينسى تراثا برلمانيا ممتدا في مصر لقرن ونصف القرن، ناهيك عن ألعاب الأطفال التي ازدحم بها المسرح البرلماني، والولع بصور «السيلفى»، وعروض بهلوانات «البلاستر» اللاصق، والسخرية البلهاء من أي حديث عن قانون أو لائحة، فهم يعرفون الحكاية وما فيها، ويصرفون وقتهم في استعراض عشوائي، إلى أن تحين لحظة رفع الأيدى بالموافقة التلقائية عند الحاجة، وهو ما دفع النائب المخضرم كمال أحمد إلى وصف المشاهد إياها بأنها تشبه ما يجري في «شوادر البطيخ».
ونعرف أن منع البث قد يحرم الناس متعة مشاهدة لقطات كوميدية نادرة، ومتابعة مجانية لمسرحية برلمانية، تذكرهم بمساخر مسرحية «مدرسة المشاغبين»، وقد يزيد ذلك من رواج الصحف المسموح لها وحدها بالحضور، ونقل ما يحدث كتابة، بدون تصوير، مقصورعلى الثواني الأولى للجلسات، لكن هذه الاحتياطات كلها في ستر الفضائح الكوميدية، قد لا تمنع الوقوع في المحظور، ولا تداري الفضيحة الأصلية الكامنة في تكوين البرلمان نفسه قبل وبعد ممارسات نوابه، فنحن بصدد برلمان بلا عمل برلماني، برلمان بلا دور مؤثر في الرقابة والتشريع، ويعوض نقص الدور بعروض «البهلوانات»، ويتلهى بصنع «القفشات» عن مناقشة الاستجــــوابات، ويوصف عدد من أعضائه الموقرين تحت القبة بأنهم «مخبرون»، فلا يرمش لهم جفن، ولا ينبض فيهم عرق نخـــوة شخصـــية، ولو على طريقة «إذا ابتليتم فاستتروا»، لكن أحدا لا يريد أن يستـــتر، ولا أن يضع في عينه «حصوة ملح»، فالطبخة كلها «مسلوقة»، ولا يرى العضو من واجبه سوى أن يواصل التمثيل، أن يمثل علينا لا أن يمثلنا، فنحن بصدد برلمان لا يمثل الشعب بأغلبيـــته الساحقة، فقد قاطع ثلاثة أرباع الناس انتخاباته بكافة جولاتها، وجعلوه «ميني برلمان» لا يمثل سوى «الميني شعب» الذي ذهب إلى صناديق التصويت، فقد صوت عشرون بالمئة من الناخبين في جولتي انتخابات الإعادة بحسب الأرقام الرسمية، وفاز الذين فازوا بنصف النسبة زائد صـــوت واحد، أي أنهم ـ بالأرقام ـ لا يمثلون سوى عشـــرة بالمئة من الشــعب المصـــري، ناهيك عما يعرفه القاصي والداني من آثار الرشاوى وشراء الأصوات بالجملة، وتحويل القصة كلها إلى مقاولة منزوعة السياسة، وإلى مزايدات مالية لشراء المرشحين قبل شراء الناخبين، وتحويل البرلمان إلى «شركة مساهمة» محدودة بين حفنة مليارديرات وضباط من جهات أمنية.
ولا أريد أن أظلم أحدا بتعميم مخل، فقد تسرب إلى «البرلمان المصنوع» عدد محدود من النواب المستحقين للصفة البرلمانية، قد ننتظر إسهاماتهم ومعاركهم، وإن كنا لا نثق في جدارة هذا «الميني برلمان»، ولا نعتقد بجدواه في بناء نظام سياسي مقنع، ولا في دستورية وسلامة تكوينه، وقد توالت مئات الطعون على صحة العضوية إلى محكمة النقض، وانهالت عشرات الطعون على محاكم مجلس الدولة، تضمنت طعونا على دستورية قوانين انتخاب البرلمان الحالي، قد تذهب كلها أو بعضها إلى المحكمة الدستورية العليا، التي قد تقضى وقتا طويلا أو قصيرا في نظر الطعون، وسوف تحكم ـ في ما نظن ـ إن آجلا أو عاجلا بعدم دستورية القوانين إياها، فكلها من صنع ترزية «الكذب المفعكش»، وهو ما يوجب حل «الميني برلمان»، بقرار يملكه الرئيس، وقد يستخدم صلاحياته في الوقت المناسب بحسب الأحوال، ويجعل البرلمان تحت سيف التهديد بالحل، فهو برلمان يعيش في الحرام الدستوري، وقد يكون الحل هو الحل، إذا زادت معدلات الفضائح عن الحد المقبول من صناع اللعبة، أو إذا خرج عفاريت العلبة عن حدود السيناريو المرسوم لفيلم «الكارتون».
وإلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، فسوف نظل في أسر صناع الفضائح، وفى المفارقة العجيبة التي نعيشها، فقد تراجعت مقدرة مصر على تصدير السلع، وانهارت الصادرات مقابل تضخم الواردات في السنة الأخيرة، وتفاقم العجز المخيف في الميزان التجاري، ولا حل بغير اقتصاد ينتج سلعا قابلة للتصدير، انخفضت معدلاتها جدا، فيما زاد انتاج الفضائح القابلة للتصدير، وتلويث سمعة مصر في العالمين، وعلى نحو ما يفعل مسؤولون لا يفرقون بين الألف وكوز الذرة، ويحدثك أحدهم بثقة مهلكة عن الرياح الشمالية والغربية التي تعوق صواريخ إسرائيل عن ضرب مصر، بما ينافس «جهل» و»عبط» و»هبل» المذيعين الأكثر شهرة في الإعلام المصري، وقد تضاف إليهم «جهالات» تصدر عن البرلمان إياه، بما يجعلنا بلدا عظيما في إنتاج المساخر وتصدير الفضائح.

الفوز الإيراني:

لا جدال في فوز إيران بهذه اللحظة في تاريخ المنطقة، فقد جرى الاعتراف الدولي بأولوية دورها الإقليمي مع تنفيذ الاتفاق النووي ورفع العقوبات، وصارت إيران رقما مسلما به في «لعبة الكبار» على مصائر المشرق العربي بالذات. 
حازت إيران هذه المكانة بجهدها الذاتي أولا، فقد بنت نظاما قد لا يكون ديمقراطيا، لكنه حفظ الاستقلال الوطني، وصاغ قراراته من رأس طهران لا من العواصم الكبرى البعيدة، وضاعف مقدرة البلد على التطور الطفري في المشروع النووي، والمجالات العلمية والعسكرية، وحقق تقدما هائلا في المجال الصاروخي والفضائي، وهو ما يفسر تصميم إيران على مواصلة خططها لإنتاج وتطوير صواريخها الباليستية طويلة المدى، وسخريتها من العقوبات الأمريكية الجديدة بعد زوال العقوبات القديمة، واستعادة طهران تدريجيا لقرابة مئة مليار دولار.
لكن الأهم من جهد إيران الذاتي، أنها استفادت من ضعف دول عربية غنية ماليا، ومن ارتهان قرارها لإرادة واشنطن، ومن إنفاق مئات المليارات من الدولارات على جماعات التكفير الديني، وتكفير الشيعة العرب بالذات، وهو ما خلعهم من انتمائهم القومي العربي، وشجعهم على الالتحاق بالمشروع القومي الإيراني، والتحول إلى أدوات جاهزة لدعم نفوذ طهران، فالحملة ضد الشيعة أفادت الاستعمار على طريقة «فرق تسد»، وأفادت إيران أكثر، فهي دولة متعددة القوميات، لا تشكل القومية الفارسية فيها سوى ثلث السكان، بينما «التشيع» في قوميات إيران المتعددة يشكل الغالبية الساحقة، وهكذا غدا «التشيع» صيغة إيران القومية المفضلة، الذي حقق لها أوسع تماسك اجتماعي داخلي، أضافت إليه حملة تكفير الشيعة زادا معنويا كبيرا، جعل لكل شيعي في العالم جنسية مضافة هي «التابعية الإيرانية». 
وقد يكون مفيدا أن نتعلم من دروس إيران، فاستقلال القرار هو الذي يصنع التطور الذاتي، والعقوبات قد تصنع المجد أكثر مما تصنع المعونات، والمذهبية الدينية قد تفيد غيرنا بقدر ما تضر بالعرب أصل الإسلام، وإشاعة أجواء الفـــــتن الطائفـــية هدمت دولا عربية بكاملها، وجعلتنا في رماد «الخيبة بالويبة»، وارتدت علينا خناجرها، وغياب المشروع القومي العربي هو سر تخلفنا وتدهور أحوالنا، بينما صنعت إيران مشروعها على حسابنا، وحصلت على الفوز بملياراتنا التائهة.