كيف قوض السيسي مصداقية الدولة في 24 دقيقة؟

جمعة, 2016-02-05 19:50
خالد الشامي

كان مفترضا أن نستكمل اليوم هوامش وقراءات عدت بها من مصر الأسبوع الماضي، أزعم أنها تدل على تطورات مهمة في معطيات الواقع الاجتماعي بشكل خاص، وهو الأكثر تأثيرا في المعادلة السياسية، وكفيلة بإزاحة كثير من الأوهام التي تهيمن على خطاب الكثير من المؤيدين والمعارضين للنظام. 
إلا أننا سنؤجل هذا إلى الاسبوع المقبل، لنتوقف أمام المداخلة المفاجئة والمستغربة التي قام بها الرئيس عبد الفتاح السيسي في برنامج على فضائية سعودية مشفرة، للتعليق على عدد من القضايا منها، قيام نحو عشرين ألفا من مشجعي الألتراس باقتحام النادي الأهلي وسط القاهرة للمشاركة في إحياء ذكرى مذبحة بورسعيد، واعتقال رسام الكاريكاتير إسلام جاويش، وأوضاع حقوق الإنسان وغير ذلك.
مبدئيا تمثل هذه المداخلة دليلا جديدا على الأضرار الهائلة والأخطاء غير الضرورية التي تنتج عن أسلوب (الارتجال السياسي والإعلامي) في التعامل مع قضايا معقدة، بل يمكن القول إنها تعتبر الأكثر خطورة من حيث كشفها ارتباكا وقلقا حقيقيين لدى النظام، كانا كافيين لإثارة مزيج من الغضب والصدمة لدى كثيرين في مصر. ولنتوقف هنا عند نقاط محددة أمام هذه المداخلة وبعض ما قاله الرئيس السيسي فيها:
اولا- من ناحية الشكل، أن مجرد توجيه رئيس الجمهورية حديثا إلى «كل المصريين» عبر الاتصال بقناة غير مصرية ومشفرة، لا تشاهدها الاغلبية الساحقة من ابناء الشعب، يقدم دليلا صارخا على غياب أي مستشار إعلامي، أو سياسي في مكتب الرئيس، خاصة أن البرنامج الذي اتصل به طالما وصف في وسائل الإعلام بكلمات قاسية، تتعلق باسلوبه السوقي البذيء الذي لم تسلم الرئاسة نفسها منه. ولاشك في أن هذا يشكل إهانة لمقام الرئاسة وللشعب المصري، الذي يمثل رئيس الجمهورية رمزا لكرامته. ومن الواضح أن الاتصال جاء نتيجة قرار متعجل، بدون تحضير واجب، خاصة أنه على الهواء مباشرة، حتى أنه بدا دليلا على نجاح الألتراس في أن تهز اركان الدولة، وان تدفع الرئيس شخصيا لخطب ودها والسعي للتصالح معها بدون تأخير، وعبر مداخلة استمرت 24 دقيقة وكانت كافية لتقويض مصداقية الدولة.
ثانيا- أما موضوعيا، فكانت المبادرة الرئاسية غير المسبوقة لإشراك الألتراس في «التحقيقات» حول المجزرة صادمة بأي مقياس، خاصة أن الالتراس مصنف كتنظيم ارهابي بحكم قضائي، وأن حكما قضائيا باتا ونهائيا صدر بالفعل في قضية مجزرة بورسعيد، تضمن قرارات بالاعدام والسجن المؤبد والمشدد، وكان بين المحكوم عليهم مسؤول كبير في وزار الداخلية. فما الذي يجعل الألتراس مؤهلين لهذه المبادرة التي تتجاوز أحكاما قضائية؟ هل أن قتلى بورسعيد أكثر اهمية عند الدولة من قتلى مواجهات اخرى بدءا من التحرير إلى رابعة مرورا بماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء وغيرها؟ أم تراها قدرة الألتراس على الحشد والتنظيم، ما جعلهم يشلون حركة السير وسط القاهرة لساعات، ثم يقتحمون النادي الاهلي، فيما اكتفت اجهزة الأمن بالفرجة عليهم، في غياب قرار سياسي واضح؟ وهل يستطيع أقارب الضحايا في مواجهات أخرى بمن في ذلك ضحايا الجيش والشرطة المشاركة في التحقيقات حول مقتلهم، عملا بمبدأ التساوي بين المواطنين في الحقوق التي ينص عليه الدستور؟ وهل يمكن أن تطلب الدولة عشرة ممثلين عن الاخوان و6 ابريل والاشتراكيين الثوريين للحوار معها؟ ماذا ستفعل الدولة إذا قرر الالتراس اقتحام التحرير المرة المقبلة والاعتصام فيه؟
ثالثا- كان مثيرا للسخرية أن مداخلة السيسي التي عمدت إلى تبييض صفحة الالتراس، أدت إلى انقلاب اعلامي سريع، إذ أن الأبواق التي كانت بدأت في فتح النار عليهم ونعتهم بألفاظ قاسية، سارعت إلى تعديل خطابها والتصالح معهم، فأصبح أعضاء الالتراس فجأة «ابناء مصر الذين يجب احتواؤهم» بعد أن كانوا قبل دقائق من المداخلة»مجموعة من الإرهابيين والفاسدين الذين لا يمثلون شباب مصر»(..). إلا أنه من الانصاف ملاحظة أن غياب رؤية سياسية متماسكة لدى النظام في التعامل مع قضية الالتراس ساهم في تخبط إعلامي في التعامل معهم.
رابعا- إن نبرة الرئيس السيسي أوحت بقلق غير مسبوق تجاه الاوضاع في مصر بشكل عام، خاصة قوله إنه لا يريد مصارحة المصريين بحقيقة الاوضاع «حتى لا يزيد همومهم» وهو أمر يحتاج إلى مراجعة سريعة، حيث أنه كان وعد المصريين بشفافية كاملة، وهذه ضرورية على أي حال لتحقيق أي إصلاح ذي معنى. وكان السيسي وعد المصريين ايضا لدى توليه الحكم بأنهم «سيرون تحسنا كبيرا بعد عامين»، فهل ما جاء في المداخلة تمهيد لتبرير عدم تحقق هذا الوعد الذي يستحق بعد خمسة شهور؟
خامسا- اكتفى الرئيس السيسي في التعليق على قمع حرية الرأي عبر اعتقال الصحافيين وغيرهم بالقول إنه «لا يزعل» من الانتقادات. وللأسف فإن المحاور فشل في ضبط هذا الموقف، إذ أن الرئيس له الحق تماما في أن يغضب كما يشاء من بعض التعليقات، بل إنه قد يكون محقا فعلا في ذلك، خاصة أن بعضها لا تفتقد للمعلومات فقط كما قال، بل للحد الأدنى من المهنية والصدقية، لكن بشرط ألا تؤدي مشاعره تلك إلى اعتقال اصحاب الرأي المخالف، وأن يكون واضحا للجميع أن انتقاد سياسات الرئيس وقراراته موضوعيا هو حق أساسي لكافة افراد الشعب، ولا يعني أبدا الاساءة إلى الرئيس أو مقام الرئاسة. وبكلمات اخرى فان حرية الرأي هي حق قانوني ودستوري للمصريين كافة وليست منحة من احد ترتبط بمشاعره.
وأخيرا فإن الرد الرافض من الالتراس لمبادرة السيسي، بل وتطاول بعضهم على مقام الرئاسة يعمق من الإساءة التي تعرض لها الشعب المصري ورئيسه والضرر الذي لحق بمصداقية الدولة نتيجة هذه المداخلة.