فرافير وعصافير

سبت, 2016-02-13 23:44
عبد الحليم قنديل

حسنا، أن اعترف الرئيس السيسي علنا بفشل إدارته في التواصل مع الشباب، فالاعتراف بوجود مشكلة هو نصف الطريق للحل، لكن الحل لا يتحقق بدون الفهم الصائب للمشكلة ودواعيها.
وليس الشباب مجرد فئة، يقدرها البعض إحصائيا بنحو ربع السكان المصريين، ولا سنا محصورة بين 18 و28 سنة من العمر، ولا بين 18 سنة و35 سنة فهذا قول آخر، فالمجتمع المصري شاب في تكوينه السكاني الغالب، وعدد المصريين تحت سن الأربعين، يكاد يجاوز نسبة السبعين في المئة من إجمالي السكان، والمجتمع المصري غاضب بقدر ما هو شاب، وبقدر ما تبدو الطرق مسدودة إلى مستقبل أفضل، يهتدى بقيم الحرية والعدالة والكرامة والعلم والإنتاج وتكافؤ الفرص.
إذن، فالأزمة أكبر من أن تكون أزمة فئة، إنها أزمة مجتمع بكامله، والغضب الذي يسمونه غضب الشباب هو غضب مجتمع، تماما كما كانت الثورة هي ثورة الشعب المصري، وليست مجرد «ثورة شباب»، كما روج البعض بالعمد أو بالغفلة، فكل الثورات في التاريخ الإنساني غلب عليها وجود الشباب، وكل الثورات في التاريخ المصري كذلك، إذ تتقدم الفئات الأقدر على الحركة، وعلى اكتساب وعي مغاير للمألوف الراكد، خاصة مع التطور الهائل في وسائل الاتصال، والمقدرة المتزايدة على تكوين رأي عام ناقد وغاضب، ومستعد لاقتحام حواجز الخوف، وتحطيم قوانين «أهل الكهف»، وبهذا الفهم وحده، قد يصح معنى «شبابية» الثورة المصرية، بفصولها المتوالية المأزومة إلى الآن، وبما يكشف عوار وقصور تسمية الثورة بثورة الشباب، وكأنها أنفاس غضب كأنفاس الشيشة، محصورة في فئة بعينها، تقدم عروضا عنيفة تنفيسا عن طاقة حبيسة في الصدور، أو تترقى إلى مظاهرات سلمية، وعروض غضب حضارية، تنزع عن الثورة معنى الانحياز فيها لأغلبية الشعب من الفقراء والطبقات الوسطى، وتحولها إلى «ثورة بارتي»، يكون فيها الغضب للغضب، كما الفن للفن، وفي عمل استعراضي، تكون الميادين مسارحه، أو في «فيلم أكشن»، تتوالى فيه مشاهد الخناقات والاشتباكات مع الشرطة، وعلى النحو الذي روجت وتروج له منابر وإعلام الثورة المضادة، بما يعزل حوادث الثورة عن مصالح أهلها، ويسهل عزلها والإجهاز عليها، وهو ما يلقى هوى ـ للأسف ـ لدى بعض شباب الوعي العابر على «الفيسبوك»، بانطباعاته الخفيفة المستخفة في أكثر الأحوال، وبشتائمه ومدائحه و«هاشتاغاته»، التي قد تخطف الوعي ولا تبني عليه، وتزور فهم الناس للحقيقة، تماما كما تزور معنى الثورة، وتسهل مهمة الرجعية على اختلاف ألوانها وراياتها، وتعين قوى الثورة المضادة على تسخيف قضية الثورة، وتعميق الشروخ في علاقتها بالمجتمع المنهك.
الثورة ـ إذن ـ ثورة مجتمع شاب بطبعه التكويني، والغضب غضب مجتمع شاب، وليس غضبا محصورا بفئة دون غيرها، وإن وجدت فئات أقدر في التعبير عن الغضب، أحيانا بصور عفوية خاطئة وملتبسة، وأحيانا أخرى بصور صحيحة تماما، ودواعي الغضب منظورة، فثمة إحساس عام بانسداد أو افتقاد الطرق، والثورة بسنواتها الخمس لا تزال يتيمة، والثوريون ـ شبابا وغير شباب ـ في دروب التيه، يفعلون أي شيء أو كل شيء، إلا واجب الوقت، ويضيعون في إحباط، لا يلتفتون غالبا إلى سببه، وهو عجز الثورة عن التقدم، لافتقارها إلى أداة التقدم، فلم يقم للثورة إلى الآن حزبها السياسي الوطني الاجتماعي الديمقراطي الجامع، لم يقم حزب المجتمع الشاب الذي ينصف ثورته، وينهي حالة اليتم التي لاتزال الثورة عليها، ويخرجها من أحوال التيه بإحباطاته ووساوسه، ويصل بالثورة إلى مقعدها في السلطة، وهو ما لم يحدث إلى الآن، فقد قامت الثورة لتحكم سلطة الثورة المضادة بعدها، خلعت الثورة رؤوسا ورؤساء، لكنها لم تخلع النظام بعد خلع الرأس، فلا ينتهي نظام بدون وجود نظام آخر جاهز للحلول محله، ولا ينتهي نظام بالخلع بدون زرع البديل، ولا ينتهي النظام بمجرد إبداء أمنيات، ولا تنتصر ثورة بالمراسلة ولا بالوكالة، وتلك أزمة واقعة في تونس، كما في مصر مع خلافات التفاصيل، فليس لغضب الشباب عنوان بريد سياسي، أي أنه ليس لغضب المجتمع الشاب عنوان وصول ولا حزب سياسى ثوري.
أي أن القصة أكبر كثيرا من علاقة الرئيس السيسي بالشباب، ومن العجز المعترف به عن التواصل مع الشباب، فثمة أطراف كثيرة متداخلة، يتحمل الثوريون ـ شبابا وغير شباب ـ قسطا وافرا فيها، فالثورة لا تنجح ولا تنتصر بغير مسؤولية الأصلاء فيها، لا الوكلاء ولا الدخلاء، وهذه قصة قد تطول لسنوات، حتى لو عرف الناس وعملوا على طريق الحق فيها، وبدون إخلاء لطرف، ولا تفريط في واجبات الوقت، فبناء حزب للثورة اليتيمة هو واجب الوقت الأول، وضغط الرأي العام هو واجب الوقت المستعجل، فثمة سلطة رأي عام في مصر الآن، رأى عام «مشوش» نعم، لكنه ضاغط ومؤثر بشدة، لايجعل الأكاذيب تعيش طويلا، ولا يجدي معه ـ أي مع هذا الرأي العام ـ قمع ولا منع، خاصة أن ملايين إثر ملايين من المصريين تغير طبعها، ونفد صبرها الموروث، وصارت ميالة للنقد والسخط التلقائي، مع وجود سلطة منشقة ومنقسمة على نفسها، فيها رئيس جديد يحكم بالنظام القديم ذاته، وفيها «رأسمالية جيش» نامية تتناقض في مصالحها وطريقتها مع «رأسمالية المحاسيب» الموروثة، وفيها من أحوال الفوضى أكثر من أحوال الرسوخ، وهو ما يجعل سلطة الرأي العام أكثر تأثيرا، رغم تفرقها وتشوشها، بما يدفع الرئيس للاعتراف بدواعي الخلل بدون إصلاحه، وعلى طريقة اعترافه الأخير بفشل التواصل مع الشباب، وبعد أسابيع قليلة على إعلانه 2016 عاما للشباب.
واعتراف الرئيس فرصة للتذكير بأصل الخلل، فليست القصة في أزمة فئة من عمر معين، وكأن الفئات الأخرى في بحبوحة وراحة بال، والمعنى الذي نقصده هنا، ظاهر بلا التباس، فغضب الشباب علامة على غضب مجتمع، وطبيعي أن يكون الشباب ـ بالمعنى العمري ـ أعلى صوتا وصخبا وصراخا، فأزمات الفقر والبطالة والمرض والقمع وانسداد الأفق محنة مجتمع، لكنها تحط فوق رؤوس الشباب أكثر وأكثر، فقد توجد قطاعات ناجية في الفئات الأكبرعمرا، لكن الشباب ـ ذكورا وإناثا ـ هم المطحونون بدواعي ومضاعفات المحنة الداهسة، وقد لا يجدي ولا يصح الالتفات إلى الظواهر وترك الجواهر، فإعلان 2016 عاما للشباب، قد لا يكون أكثر من مجرد عنوان فارغ من مضمونه، ومنح قروض بفوائد مخففة للشباب، أو تخصيص نسبة من الإسكان الاجتماعي، أو بدء برامج تأهيل، كل ذلك قد لا يعني شيئا كثيرا ولا قليلا في بلد التسعين مليون نسمة، فالبيروقراطية الفاسدة الحاكمة كفيلة بالتعويق، وبرامج تأهيل الشباب المطروحة أقرب إلى معنى «البيزنس» منها إلى معنى السياسة، وقد تعنى اصطفاء قلة مختارة وشرائح محظوظة، واعتبارها معبرة عن الشباب بغير مقتضى مقبول ولا معقول، فالانفتاح على الشباب مهمة مختلفة، وأكبر من مجرد إحاطة الرئيس بالشباب «المزوق» المنمق، وأكبر من مظاهر التقاط صور «السيلفي»، وقد لا يتعب المرء كثيرا في البحث عن أصول وهوية الشباب المقرب من الرئيس، على منصات الاحتفالات العامة، أو في كواليس برامج التأهيل والعناية إياها، فهم خليط ظاهر من الفرافير والعصافير، مع استثناءات أخرى أقل حضورا، فرافير من شباب الجامعة الأمريكية غالبا، وعصافير من موارد الأجهزة الأمنية غالبا، وليس للشباب المصري الغاضب من علاقة نسب تجمعه مع العصافير والفرافير، وهم فئات لا تصلح ـ بطبائع الأحوال المرئية ـ كمفتاح للتعامل مع الشباب، بل هم أقرب للأقفال لا المفاتيح، وهم أقرب لقطع الديكور، أو للعب دور «شباب الزينة»، فهم كعصافير الزينة، لا تؤكل ولا تطير، وتوضع في «الفاترينات»، أو من وراء زجاج الأقفاص، أو في ردهات العلاقات العامة، وقد تعب المعاونون للرئيس في جمع أكبر عدد من شباب الزينة، وبدون أن ينفتح طريق الرئيس إلى قلوب وعقول الشباب بعامة، والسبب ببساطة في عطب خيال الأجهزة الأمنية الموردة للشباب «البلاستيك»، وفي بؤس مستشاري الرئيس المفضلين من خريجي الجامعة الأمريكية، الذين تحولوا إلى «لوبي» مؤثر جدا في يوميات قصر الرئاسة.
وبالطبع، لا نقترح على الرئيس استبدال «شباب الزينة»، فهذه لعبة كراسي موسيقية بائسة بطبعها، بل نقترح عليه انفتاحا على المجتمع إن أراد الانفتاح على شبابه، نقترح عليه البدء بحملة تطهير شاملة، تجتث الفساد المسيطر، وتستعيد مئات المليارات المنهوبة، ونقترح عليه حملة تصنيع كبرى بالاكتتاب العام لامتصاص فوائض البطالة المتفاقمة، ونقترح عليه الإقرار بالعدالة وتكافؤ الفرص في تولي الوظائف العامة بدلا من توريثها، ونقترح عليه ـ من قبل ومن بعد ـ تفكيك الاحتقان السياسي الخطر، واستعمال صلاحياته في إخلاء سبيل عشرات الآلاف من الشباب المحتجزين في غير تهم العنف والإرهاب المباشر، فالناس ـ والشباب ـ يريدون العدالة أولا، وقرار واحد عادل أفضل من ألف خطاب ومناشدة للشباب اليائس.