عكس الاستبداد في قضايا الجنسانية معاني الطغيان الأعمق في النفس البشرية، عبر ظواهر لا تتطرّق إليها أبواب التحليل السياسي عادة، وتكتفي، في حالات، بالرطانة التقليدية حول اضطهاد المرأة وانتقاص حقوقها، متجاهلة العلاقة المعقدة المتبادلة بين الحالة البيولوجية للإنسان، ذكراً كان أم أنثى، مع القضايا الفيزيولوجية والثقافية والسياسية المرتبطة بهذه الحالة.
وتكشف محاولات الاقتراب من الكهف المظلم للاستبداد في سوريا أنه يتعاطى مع الصراعات السياسية والعسكرية بارتكاسات سايكولوجية وتاريخية فظيعة، يطلق التعبير عنها أشكالاً من الأمراض النفسية، من عصاب وهستيريا واستيهامات، ولعلّها تتبدّى ايضاً في أعراض النيكروفيليا (الهوس الجنسيّ بالجثث) أو الهوس الجنسيّ بالموت، كما لو كانت الإبادة فعل اغتصاب معمّم يستأدي انتعاظ الطاغية بقتل شعبه.
لا يقوم استخدام النظام السوري لقضايا الجندر على حرف الصراع السياسي إلى مهاوي الغريزة الوحشية القديمة، حين كان الإنسان ينتصر بقتل أخيه الإنسان ونهب أرضه وسبي نسائه وأطفاله وانتهاك حرماته، بل يتعدّى ذلك بدرجات، حين يستخدم مخيال الانتهاك الجنسيّ العنيف، رفقة آليات الكذب الممنهجة لتدمير كل ما هو مقدّس وبريء ولطيف، في تدنيس طقسيّ متصاعد لكلّ ما يعتقد الخصم به.
تتراكب اذن في عالم الاستبداد والجندر عوالم تجمع بين التاريخيّ وما قبل التاريخي، وتقترن التابوهات السياسية بالمخيال الغرائزي في اشتطاطه الوحشيّ.
تشتغل آليات الاستبداد السوري على استخدام للعلاقات بين الطغمة والرعية باعتبارها شكلاً من أشكال الطبقية المغلقة التي يعتبر كسرها تجديفاً، من جهة، وانتهاكاً جنسياً، من جهة أخرى، بحيث تصير الدعوة للحرية، خرقاً طقسياً لتابوهات دينية وطبقية وجنسية، يجب الردّ عليها بأفعال من جنس ما استبطنه الطاغية من معاني هذه الأفعال، بحيث يقوم بانتهاك المحرّمات الدينية والجنسية والإنسانية لخصومه للحطّ من دينهم وجنسهم ومرتبتهم الإنسانية.
هكذا نستطيع أن نفهم مغزى التعذيب الجنسي لحمزة الخطيب، حيث ألبسه المستبدّ، وهو الطفل، سرديّة الراغب في اغتصاب نساء الضباط «العلويات»، في معادلة استيهام جنسي طائفي فظيعة بلاعقلانيتها التي تساوي بين براءة الطفولة وهمجية الاغتصاب، مؤطرة إياها في إطار طائفي طبقي، بحيث تبدو آتية من عناصر لاشعور بدائيّ، حين كانت الآلهة والملوك من سلالة الآلهة تعاقب البشر المتطاولين على ألوهيتها باستئصال عضو الذكورة، لا باعتباره رمزاً للحياة فحسب بل أيضاً كرمز لكسر قدرة الفئة البشرية المتجرئة على التمرّد، منظوراً إليها من منظور الجنس والطبقة الطائفة السفلى.
قتل وخصي الطفل هو قتل استباقيّ للثورة، فالطفل وعضوه الجنسي رمزان للخصوبة والحياة، أما اتهامه برغبة اغتصاب نساء الضباط، فاستيهام فاضح في مغزاه. السلطة بهذا المعنى هي حريم الضابط (وهو المصغّر النموذجي للطاغية) وأي محاولة للاستيلاء عليها هي انتهاك جنسي عقوبته الإبادة وقطع النسل والإخصاء.
في غضبه الوحشي على المتمردين على حريمه المقدّس (السلطة) لا ينفك المستبد السوريّ ينتهك كل مقدّس خصم فيخطف طفلة أحد أفراد المعارضة ويتهمه باغتصاب ابنته وبإشراك «المجاهدين» في اغتصابها، مدنّسا، بدون رحمة، معاني الأبوة والبنوّة، ومدمراً المعنى الإيجابيّ المعتاد في مفهوم دينيّ مقدّس (الجهاد)، بتحويله إلى فعل جنسي شائن وعموميّ، مستفيداً من مواهب الإعلام المموّل إيرانيا الذي اخترع مصطلح (جهاد النكاح)، والذي احتفل به الاعلام الاستشراقي الغربي والعربيّ أيّما احتفال، وحوّله إلى آلة للتلاعب والتضليل يسهل العزف عليها على أوتار الطائفية والأيديولوجيا والاستشراق دفعة واحدة.
من ذلك أن أحد الوزراء، الذين دفعت بهم أمواج الثورة ليستلموا منصباً أمنياً في بلد عربيّ لم يجد أفضل من هذا الفضيحة، لإنقاذه من ورطة سياسية تتعلّق بدور وزارته في اخفاء معلومات عن اغتيال معارض يساري، وذلك بخلقه «جرسة» وطنية عامّة، باتهام مئة فتاة تونسية بالعودة إلى بلادهن حوامل بعد جولة من «جهاد النكاح» المزعوم في سوريا، وكان أن ذهب عشرات الصحافيين إلى تونس للقاء اولئك الفتيات، ولم يجدوا أي أثر لهن.
وفي تحليل قضايا الاستبداد والجنسانية والجندر لا يمكن إغفال أن حيّز الاستبداد أوسع من حيّز النظام السوري، وهو يستوعب مجالاً فكريّاً عربياً كبيراً تنتمي إليه تنظيمات وأيديولوجيات انخرطت في القتال ضد النظام، فالبنى الفكرية العميقة للاستبداد أكثر عمقاً واتساعاً من أن تفصّل على قدّ النظام وحده، وبالأحرى فهي تمتدّ على مروحة فكريّة يتشارك فيها استبداديون قوميون ويساريون وإسلاميون بطبعات طائفية وسلفية متعددة.
غير أن التحليل الجذريّ للعلاقة بين الاستبداد والجنسانية سيستأدي بالضرورة الخروج من السياسي إلى الثقافي، بحيث يتوجّه النقد والتحليل إلى أسس الثقافة الاستبدادية للمجتمع بكليته، حيث يعتبر الجنس فعلاً اعتدائياً لا علاقة إنسانية، وفي هذا يستوي الطرفان، المستبد وضحاياه، فمقابل السلوكيات الجنسية الفاحشة والمعممة للكثير من الطغاة العرب، فإننا نستذكر كيف كان الانتقام الشعبي من القذافي فعلاً جنسياً عدوانياً، ونستذكر العصاب الجنسيّ العموميّ الذي تخلقه تنظيمات مثل «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، وكل هذا يحيل إلى ثقافة شعبية عامة تساوي بين الجنس والعنف وترتبط أشد الارتباط بالاستبداد.