سنوات الضياع العربي ـ مسلسل قديم ومتجدد أبدا

خميس, 2016-02-18 10:07
د. عبد الحميد صيام

الحقيقة الوحيدة التي قد لا يختلف عليها الكثيرون هو أن المستفيد الأكبر وربما الأوحد من الوضع العربي المأساوي الحالي هو إسرائيل. وما عدا ذلك فلا اتفاق على تفسير ما يجري. فلم تعد الأمور مقسومة إلى أسود وأبيض، ولا إلى يسار ويمين ولا إلى معسكر الرأسمالية برئاسة الولايات المتحدة يقابلة معسكر الدول الرافضة للهيمنة الأمريكية بقيادة روسيا، ولا إلى محور الممانعة ومحور الاستسلام، وأصبح الواحد منا يتخبط في عديد من المواقف، فقد يؤيد موقفا معينا ثم يعود ويتراجع عنه، أو يعدله بسبب التطورات على الأرض، وتضخم أعداد الضحايا من الأبرياء وما يتعرض له الوطن العربي الضائع والممزق والمدمر والمبلقن من مآسٍ متلاحقة.
تعالوا نسير قليلا في دهاليز الوضع العربي لنشاهد فصلا من هذا المسلسل الطويل لنتعرف إلى أين تنزلق المنطقة بسرعة ضوئية نحو الهاوية.

الموقف من النزاع في سوريا

الشيء الوحيد الواضح في الأزمة السورية، أن كل السوريين مستهدفون ليس من الجهة نفسها، بل إن خريطة القتلة تكفي لقتل كل سوري وسورية، بحجة أنه عدو أو إرهابي أو مؤيد لهذا الطرف أو معاد لذاك. إذا كنت سنيا أو شيعيا أو علويا أو كرديا أو مسيحيا أو ملحدا أو متدينا، فهناك طرف ما على استعداد أن يجهز عليك. روسيا تقتل بطائراتها بعض السوريين والنظام يلقي براميله المتفجرة وأسلحته الكيميائية على سوريين بحجة أنهم إرهابيون، وتنظيم «الدولة» يقتل نوعا آخر من السوريين لأنهم كفرة ملحدون أو لأنهم يتحدون سلطته، أو يتعاونون مع النظام أو متعاطفون مع «القاعدة» أو غيرها، وكذلك جبهة النصرة وجيش الإسلام وجند الشام، وغيرها.
ولنفرض أنك تؤيد النظام السوري وتنتصر له فهذا يعني أنك تؤيد حكم الطغيان والتوريث من الأب للابن على طريقة كوريا الشمالية. ومعنى ذلك أنك مضطر أن تبلع مسألة البراميل وغاز السيرين والكلور. ومعنى ذلك أنك تقبل بالاصطفاف الطائفي والتطهير العرقي ومحاصرة القرى والمدن والتعذيب حتى الموت وتسكت على جرائم الشبيحة، ومعنى هذا فأنت تقف إلى جانب إيران وحكم الملالي وكان اليسار يعتبر ذلك جريمة. ويجب أن تهضم الحكم الثيولوجي وتقبل وصول ميليشيات طائفية، سواء من الحرس الثوري أو عصائب أهل الحق العراقية، أو كتائب أبو الفضل العباس، لمساندة نظام يدعي أنه علماني، علما أن العلماني يعدم في إيران تحت بند ازدراء الأديان. ومعنى هذا أنك تبلع تركيبة النظام العراقي الذي عمق الطائفية ووصل الحكم على دبابة أمريكية وكنت ضده قبل الانتفاضات. ذلك النظام الذي وضع أولى مسؤولياته بعد الاحتلال الأمريكي «اجتثاث البعث» يؤيد نظاما بعثيا في دمشق، ولا أعرف كيف تركب هذه المعادلة على دماغك. إذا كان النظام السوري غير طائفي فلماذا يدعمه الطائفيون؟ أما إذا كان طائفيا فستجد نفسك إذن تدافع عن الطائفية التي كنت قبل ثورات «الربيع العربي» ضدها وتحاربها في كل مكان وتدعو للمواطنة المتساوية القائمة على الانتماء للوطن لا القبيلة ولا الطائفة ولا المذهب. ولا تنس أن تتذكر قوات الحشد الشعبي التي ما أن تدخل بلدة بعد استرجاعها من «داعش» حتى تجمع شباب البلد من السنة وتعدمهم بالطريقة الداعشية نفسها، ومع هذا فمنظرو النظام وأنصاره لا يفتحون أفواههم بكلمة عن قوات الحشد الشعبي الطائفية.
موقفك من أمريكا أيضا يتعرض لشرخ كبير، فهي تحاول إسقاط نظام الممانعة وبالتالي فهي مجرمة وإمبريالية، ولكنها تدعم النظام العراقي حليف النظام السوري وتدعم الأكراد الذين غيروا مواقفهم من النظام السوري، الذي أذاقهم الأمرين ولم يمنحهم الجنسية إلا بعد قيام الثورة. أمريكا مقبولة مع الأكراد والعراق وغير مقبولة مع سوريا النظام.
أما إذا كنت معارضا للنظام السوري وتتمنى سقوطه اليوم قبل غد فأنت، شئت أم بيت، تقف إلى جانب السعودية وتركيا وغيرهما من الأنظمة التي مولت وسلحت الحركات الإرهابية وسهلت دخول عشرات الألوف عبر البوابة التركية من أكثر من 80 بلدا. كيف لعاقل كان طيلة عمره ضد النظام الأكثر تخلفا في العالم يجد نفسه يتحدث تقريبا اللغة نفسها عن بشار الأسد؟ ثم متى كانت السعودية تسأل في الديمقراطية أو العروبة أو الإسلام الصحيح؟ ألم تكن وراء تدمير العراق والنظام الذي كان يقف سدا أمام تغول ملالي إيران؟ أليس هذا ما جنت على نفسها براقش؟ ثم ألا يجدون أنفسهم في وضع محرج عندما يطالبون الشعب السوري باختيار حكومتهم بالطرق الديمقراطية، وهم لا يسمحون لصاحب رأي أن يظهر بدون أن يسلطوا سيفا من الجاهلية على عنقه. من المبالغة أن نسمي السعودية دولة وهي تقوم على حكم العائلة. الآن اكتشفوا أنهم يمثلون العروبة والإسلام؟ ألم يعملوا على اجتثات كل حركة إسلامية معتدلة ليستبدلوها بهذه الحركات التي نشأت وترعرت على الفكر الأكثر تطرفا وتخلفا في العالم، الذي أنتج «القاعدة» و«داعش» و«النصرة» و«الشباب» و«بوكو حرام». وكيف ستشعر براحة وأنت تجد نفسك في الصف نفسه مع أكثر من 167 جماعة إرهابية تقاتل في سوريا وتتقاتل فيما بينها، معظمها تحمل الفكر المتطرف. وكيف يمكن أن تقبل جرائمهم ضد المسيحيين والأيزيدين والأكراد والعلويين، حيث يذبح الإنسان عندهم ليس لما اقترفته يداه من أعمال، بل لأنه صدف وولد لأبوين من هذه الطائفة أو ذلك العرق. ألا يعتبر هذا الموقف المشين قمة في النفاق لمثقف محسوب على اليسار، ويقف ضد طغيان الأنظمة، ثم يجد نفسه بدون إرادة منه في مستنقع طغيان الجماعات المتطرفة؟ ثم إذا كنت ضد الاصطفاف الطائفي الشيعي مع النظام فكيف إذن تبرر الاصطفاف السني السعودي التركي الأردني الحمساوي مع المعارضة الإسلامية، التي لم تترك موقع قدم للمعارضة الوطنية غير المتطرفة؟ وهل يعني أن الاصطفاف الشيعي خطأ والاصطفاف السني على صواب؟ هل هناك طائفية حميدة وطائفية ذميمة؟ إسأل أهل لبنان إن عييت عن إيجاد الجواب.

الموقف من النزاع في اليمن

الموقف من الصراع في اليمن يصيبك بإحباط أكبر ـ هل أنت ضد التدخل السعودي أم أنك ضد الحوثيين وعلي عبد الله صالح؟
وتسأل من الذي أعاد تأهيل صالح بعد إصابته إصابات بليغة في يونيو 2011 وإعادته إلى صنعاء لمتابعة دوره التخريبي بعد ثلاثة أشهر من العلاج على أيدي أمهر الأطباء من الولايات المتحدة وغيرها؟ ألم تنتصر السعودية لعلي عبد الله صالح عام 2009 عندما طلب منهم أن يساعدوه في قصف الحوثيين في صعدة وفعلوا. الآن أصبح عدوهم اللدود؟ قل لي متى تركت السعودية شؤون اليمن لأهله ولم تتدخل؟ لقد قدمت المبادرة الخليجية لحل الأزمة اليمنية لسببين: الأول لأنها لا تريد ثورة شعبية تطيح بطاغية، ومن هنا وقفت ضد كل الثورات بلا استثناء فقمعت ثورة البحرين وتآمرت على الثورة المصرية واشترتها ورتبت للانقلاب الدموي، ثم وجهت صوب الثورة السورية السلمية فأغرقتها بالسلاح كي لا يتمكن أي شعب بالطرق السلمية من إسقاط طاغية كما فعل التوانسة. والسبب الثاني حتى لا يحاسب رئيس فاسد على ما اقترفت يداه من جرائم ضد شعبه، حيث تضمنت المبادرة الخليجية بندا يدعو إلى التحصين من المساءلة لصالح.
ولنفرض أن موقفك لهذه الأسباب وغيرها الكثير ضد التدخل السعودي الذي ألحق أكبر الأذى بالمدنيين ودمر المستشفيات والمدارس والبنى التحتية إن وجدت، فهل هذا يعني أنك تقف إلى جانب الحوثيين وعلي عبد الله صالح؟ كيف لعاقل أن يصطف إلى جانب طاغية قام اليمن كله في ثورة شعبية نظيفة ضده، بمن فيهم الحوثيون. لقد اجتمع الشعب اليمني على كره صالح الذي اغتصب الحكم منذ عام 1978 ورفض أن يتنازل، وعندما حدد فترة الرئاسة بدورتين عاد وتراجع بحجة أن عودته مطلب شعبي. ألم تسمع عن الثروات الطائلة التي تقدر بعشرات المليارات التي كدسها على حساب قوت الشعب اليمني ومعاناته. والأدهى من ذلك أنه بدأ يعد ابنه أحمد لوراثته على طريقة بشار وجمال مبارك وسيف الإسلام. كيف يمكن لعاقل أن يقف مع من دمر البلاد وأشعل فيها الحروب واستباح الجنوب وأدخل «القاعدة» ليبتز الولايات المتحدة وحول البلاد في عهده إلى دولة فاشلة. ثم انظر إلى حلفائه الطائفيين. مرة أخرى نعود للاصطفاف الطائفي المقيت. إن من يدعي اليسار والتقدم والعروبة لا يمكن أن يدعم أي تكتل طائفي حتى لو قاد هذا التكتل أحد أبطال المقاومة.
إن تحالف الحوثيين مع صالح ليس تحالف مبادئ، بل مصالح سيرتد الحليفان في لحظة ما ليشبعا بعضهما قتلا وتخوينا واتهامات. فلا يستعجلن أحد بحتمية الصدام بينهما.

الموقف من النظام المصري

التناقض هنا في من يؤيد النظام المصري أكثر غرابة… فالنظام يعمل على اجتثاث الإخوان المسلمين وتؤيده السعودية على ذلك، بل وتكافئه بالمليارات… والسعودية حليف لتركيا التي تعتبر الإسلام المعتدل الذي يمثله الإخوان المسلمون هو الأفضل، بل كان أردوغان أول المهنئين عندما فاز الإخوان في الحكم. والنظام المصري المدعوم من السعودية حليف لروسيا عدوة السعودية حاليا، لأنها تدك المدن السورية بطائراتها وتتحالف مع إيران، رأس الأفعى بالنسبة للسعودية، لدرجة أن عداوة المملكة لإيران أجلسهم في أحضان إسرائيل وأصبحت مصافحاتهم علنا على رؤوس الأشهاد، بل الأغرب من ذلك أن نظام مصر لا يعادي بشار الأسد ويحاول أن يمسك العصا من المنتصف بمطالبته بحل سياسي. وقد رفض أخيرا مساندة السعودية في إرسال قوات برية للمحاربة في سوريا. ولكنه يدعم السعودية بخجل شديد في حربها في اليمن. كما أنه يعادي دولة قطر التي تتفق مع السعودية في الموقف من النظام السوري، وتختلف معها في الموقف من النظام المصري، وينعكس هذا الخلاف بوضوح في قناتي «الجزيرة» و«العربية». والنظام المصري يعادي حركة حماس ويود لو ينشق بحر غزة ويبلعها، كما كان يتمنى إسحق رابين من قبل. السعودية لا تحب حماس لكنها تحاول إبعادها عن إيران، وحماس حليفة لتركيا وقطر وكلتاهما حليفة للسعودية في المسألة السورية، وأمريكا كذلك تدعم نظام السيسي لأنه قريب من إسرائيل لكنها لا تحب مواقفه من سوريا ومن التقارب المصري الروسي. 
وإلى هنا نتوقف في وسط الدهليز المعتم لنعلن عن نهاية حلقة اليوم من المسلسل الطويل والمتجدد دائما: سنوات الضياع العربي. 
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز