الدرب الأحمر واستراحة فوضى

اثنين, 2016-02-22 12:57
عبير ياسين

لم يعد من السهل الاقتراب من الشأن المصري بعيدا عن السخرية المريرة، ولم يعد من السهل أن تجد تفسيرات منطقية عند كل أزمة أو كارثة مهما بلغت قيمتها، ومهما أثارت من إشكاليات وفرضت من تحديات على اللحظة والمستقبل. 
وعلى العكس تتحول بعض التصريحات لمشكلة أكبر، لأنها تكشف الكثير عن العقلية الحاكمة والاسماء التي تحكم المشهد، بشكل مباشر وغير مباشر. ورغم تصريحات وزير الخارجية المصري التي طالب فيها الشعب في 20 فبراير بالتوقف عن القلق، بعد خطاب رئيس الوزراء الإثيوبى في منتدى الاستثمار الأفريقي حول قضية سد النهضة، التي أكد فيها أن «الحكومة المصرية هي التي تحدد القلق وهي ليست قلقة»، إلا أنها تصريحات غير كافية لتأميم الحق في القلق من جانب النظام، لأن المواطن لديه أسباب للقلق والخوف وعدم الثقة، ليس فقط في ما يتعلق بسد النهضة ولكن بعموم المشهد وتفاصيله.
كما أن النظام، أيا كان وحتى في الدول الديمقراطية، لا يملك الحق في تأميم القلق، ولا يستطيع ضمان اطمئنان المواطنين، من خلال تصريحات عامة لا تجد ما يؤكدها على أرض الواقع، خاصة أن الكثير من التحليلات تؤكد واقعية المخاطر المترتبة على سد النهضة، وعلى التسارع في البناء. وإن تم توسيع سياق الحديث سيكون من حق المواطن أن يرفع مؤشرات القلق في ظل العلاج المعجزة المشهور باسم العلاج بالكفتة والرخاء المقبل بعد توسيع قناة السويس والحداثة المقبلة عبر إنشاء عاصمة جديدة وسط مسلسل لا ينتهى من المشاريع المعلن عنها والمخطط لها، بدون توقف ومحاسبة وتقييم، وبدون إشراك المجتمع والمواطنين في النقاش حول القضايا المهمة، التي تفرض عليه بدون نقاش ولا يطلب منه إلا القبول بصمت وصبر وتأييد مفتوح.
وفى حديث مع صديق عزيز على هامش ما يحدث منذ فترة، وصف ما يحدث في اللحظة بأنها حالة من هدوء ما بعد الفوضى، ولكن التعبير طرح بدوره توسيع المعنى، لأن ما نشهده هو مسلسل متعدد الأجزاء من الفوضى والهدوء النسبي. ولكنه مثل حالة بعض المسلسلات الدرامية يفقد الخط ويتحول لتطويل غير مقبول ومضر، وإن كان هذا الوضع في عمل درامي يحد من شعبيته وربما الإعلانات المصاحبة له، فإنه في إدارة الدول يمثل طريقا للكوارث ويعمق من خسائر الوطن.
وخلال الأيام القليلة الماضية أثير العديد من القضايا المهمة مع رغبة البعض في تهميشها بالمخالفة لما يحدث في التعامل مع القضايا الهامشية التي تتحول لعناوين تشغل ساعات ممتدة من التغطية والجدل والاهتمام. وضعية يسهل فيها المقارنة بين التناول الإعلامي نفسه والتعليق عليه. يظهر بوضوح كيف ترتفع الأصوات مطالبة الإعلام بالتركيز على رؤية السلطة للمشكلات وطرحها بصور متنوعة حتى يقتنع المواطن ويقبل بأنه ليس في الإمكان أفضل مما هو كائن، وهي رؤية دافع عنها الرئيس عبد الفتاح السيسي في أحاديثه، التي تؤكد على ضرورة تبني الإعلام لرؤية السلطة للمشكلات والحلول، ومطالبته المسؤولين بالحديث عن تلك المشـــكلات بالأرقام حتى يدرك المواطن ما تتحمله الدولة.
في حين يختلف الوضع عندما يكون المواطن هو أصل القضية وحقه مثار النقاش فترتفع الأصوات التي تنتقد الإعلام الذي يهتم بتلك القضايا وتتهمه بتعميم الحالات الفردية وإثارة الرأي العام وخلق الأزمات وغيرها من الاتهامات الجاهزة في سجل يميز بين 30 يونيو وغيرها، بوصفه تمييزا بين المواطن والعدو.
والمثير للاهتمام في العديد من القضايا المثارة في اللحظة أنها لا تتعلق بثنائيات مرحلة ما بعد الرئيس الأسبق محمد مرسي، التي ترى مصر وفقا لثنائية 25 يناير و30 يونيو، والسيسى والإخوان، وغيرها من التقسيمات التي لا ترى جوهر ما يحدث إلا بوصفه ساحة للصراع بين السلطة والمعارضة، متجاوزة الحقوق والحريات والعدالة الاجتماعية، التي تظل جوهر الدولة وجوهر الحراك الشعبي والمطالب التي ظهرت واضحة في ثورة 25 يناير.
الغضب من تصرفات أمناء الشرطة، كما ظهر في قضية الاطباء، والتجاوزات التي حدثت في المستشفيات، وصولا لارتفاع الغضب والحراك المرتبط به مع مقتل محمد إسماعيل سائق سيارة أجرة من منطقة الدرب الأحمر على يد أمين شرطة، أثر الخلاف على الأجرة أو الحمولة، حسب الروايات المختلفة، والكثير من التفاصيل حول تجاوزات مختلفة من أمناء شرطة في العديد من المحافظات، تمثل تفاصيل في مشهد أكبر لا يتعلق بثنائيات صفرية ولا يتويقف عند أمناء الشرطة، كما يحاول البعض تقييد المشكلة بقدر ما يتعلق بحقوق المواطن في مواجهة السلطة. يطرح السؤال بشكل أكثر عمقا عن الاختلاف في تعامل النظام مع أزمة الأطباء المتصاعدة، مقابل محاولة احتواء أزمة قتيل الدرب الأحمر، وما تعكسه من دلالات في رؤية النظام للشعب والقضايا التي يمكن أن تثير قلقه، وتلك التي يمكن تجاهلها. صورة تظهر واضحة من خطاب رئاسي عن ضرورة تعديل القوانين بعد حادثة الدرب الأحمر، لعزاء واعتذار وزير الداخلية لإهالي القتيل، في الوقت الذي اعتبر فيه متحدث للوزارة أن مطالب نقابة الأطباء باعتذار الوزارة نوع من التعجيز لأن الحالة فردية والوزارة غير مسؤولة.
ورغم أن الاقتراب بشكل علمي يحتاج لمقارنة أعمق بين تلك الأزمات وظروفها وتطوراتها، إلا أن قراءة سريعة للمشهد يمكن أن تحيلنا لحديث السيسي عن أهمية الكتلة الصلبة وخوفه من أن يحدث الانقسام من الداخل. انقسام لم يقصد به وجود الثنائية بين 30 يونيو والمعارضة بشكل عام والإخوان بشكل خاص، ولكن الانقسام داخل الكتلة التي تؤيده، والتي أكد أنها مصدر قوته، تمثل الكتلة الصلبة المفوضة جزءا أساسيا من المشهد، وركيزة من ركائز البقاء، والشعبية التي لا يمكن المخاطرة بها، لأن الإنجازات الحقيقية بعيدة والقبول بأن الوضع الحالي أفضل من افتراض بقاء مرسي في السلطة جزء أساسي من الشرعية القائمة.
يقدم صراع الإطباء بوصفه جزءا من صراع النخبة يتم التعامل معه بالتجاهل وبمحاولات مختلفة لإحداث الفرقة بين الأطباء والشعب حتى لا تكتسب مطالبهم قاعدة جماهيرية، وتظل في إطار نخبوى يحمي النظام ويضعف من مطالب الأطباء. وضع يمكن قراءته من التناول الإعلامي الذي يركز على أن كل المهن لديها أخطاء، وأن حدوث أخطاء من أفراد في الداخلية مثله مثل أخطاء الأطباء، مع تقديم خطوات الأطباء بوصفها تحركات مضرة بالمواطن وصحته.
بالمقابل جاء الخطاب المرتبط بضحية الدرب الأحمر في قلب الكتلة الصلبة. أحاديث من أهالي القتيل وغيرهم توجه الخطاب بشكل مباشر للسيسي وتتساءل عن دوره في المحاسبة، وتطرح السؤال عن العدالة ومن يحققها للقتيل وأهله. تقدم قراءة تصريحات أهالي القتيل والمحيطين به الكثير لفهم الخوف من تجربة الحشد الجماهيري، سواء في 25 يناير أو 30 يونيو، وما يمكن أن يحدث إن خرج هذا الحشد مرة أخرى رافضا ومطالبا بالمحاسبة والعدالة بصوت أكثر تضامنا وارتفاعا. وتؤكد في الوقت نفسه أن حديث الرئيس عن استكمال خريطة الطريق والسعادة الجماهيرية المفترضة للوصول للدولة المدنية الديمقراطية ليس لها أساس متين على أرض الواقع -على الأقل ليس لدى الجميع كما يفترض خطاب النظام- يطرح السؤال واضحا من قريبة للقتيل «لماذا انتخبناك؟» وفي العمق تعبير مرير وحزين عن الفجوة بين أحلام الناس وتوقعاتها التي بنيت على الوعود المرسلة والواقع نفسه.
تأكيدا على أن عدم وجود برنامج والاعتماد على فكرة مسؤولية الشعب المفوض لا تسقط حق الشعب في السؤال عن الوعود والأحلام التي ارتبطت بصورة واضحة بحديث تسلم الأيادي، التي تطالب بأن تعاد تسلم الأيادي في سياق آخر هو المحاسبة وإعمال القانون على الجميع.
تظهر أزمة الدرب الأحمر الكثير عن جوهر مصر وشعب ما بعد 25 يناير حين ترتفع الأصوات بالأسئلة المنطقية المفترضة مطالبة بالمحاسبة وتحقيق العدالة. وتؤكد أن ثنائية الشعب التابع والشعب المعارض غير حقيقية، وأن تلك الثنائية التي تم العمل على خلقها وتعميقها بعد 30 يونيو لم تعد أصل القضية لأن الناس تتعامل مع الواقع، والوعود المرسلة التي كان يمكن قبولها من قبل لا تمر بالسهولة نفسها الآن.
يؤكد خطاب الدرب الأحمر على أن الشعب هو الحاكم وليست الداخلية، صورة لا تعيد فقط العديد من مشاهد ثورة يناير، وما أبرزته من تأزم العلاقة بين الداخلية ومن يمثلها والمواطن، ولكنها تؤكد على أن مبرر الحادث الفردي في ظل التكرار والاستمرار عبر عقود لا يقنع المواطن الذي يظهر في لحظات المرارة قادرا على فرز واقعه بدقة جراح ماهر، مؤكدا اختلافه عن الصورة التي يطرحها البعض عن ضعفه وخوفه من الحرية. كما تبرز أن الإرهاب ليس الخطر الوحيد ولا المرض الذي يفترض أن توجه له كل الجهود لأن الظلم أشد خطرا بقدرته على أفراز العديد من المخاطر في المجتمع ومنها الإرهاب نفسه.
يطرح الدرب الأحمر جوهر مصر وجوهر التحدي كما يحمل جوهر الحل أيضا، وهو الشعب مصدر السلطات والمدافع عنها والمستحق لها مهما ارتفعت أسوار وشيدت سجون وكممت أفواه.