عبد الحليم قنديل خطايا أمنية

اثنين, 2016-02-29 00:12
عبد الحليم قنديل

هل صحيح أن الحملة على أخطاء وخطايا جهاز الأمن تضعفه؟ أم أن أجهزة الأمن هي التي تضعف نفسها بنفسها، وتدوس على قداسة دم شهدائها، حين تدوس كرامات الناس، وتثير عواصف الغضب الشعبي، ليس على وزارة الداخلية وحدها، كما جرى في انتفاضة الأطباء وأهالي الدرب الأحمر، بل على النظام السياسي برمته، وهو ما جعل الرئيس السيسي نفسه يطلب وضع تشريعات عاجلة لضبط جهاز الأمن، ووقف التجاوزات والجرائم بحق المواطنين.
وقد يقال لك إن ما جرى مجرد تصرفات فردية، وإنها سلوكيات منفلتة محصورة في بعض أمناء الشرطة، وهذا اجتزاء مخل، وتبسيط وتهوين لا يليق، فقد يكون أمين شرطة وراء جريمة سحل الأطباء في مستشفى عام، وقد يكون أمين ـ أو رقيب ـ شرطة هو الفاعل في جريمة قتل سائق الدرب الأحمر، لكن ضباط شرطة سبقوا إلى ارتكاب ما هو أبشع، وعلى طريقة جرائم التعذيب حتى الموت في أقسام الشرطة من المطرية إلى الإسماعيلية إلى الأقصر، وعدد الضباط المحالين في قضايا حق عام، أكبر حتى الآن من عدد الأمناء، رغم أن عدد الأمناء في أجهزة الداخلية أكبر بما لا يقاس، ومقابل كل ضابط شرطة يوجد عشرة أمناء، والأخيرون قوة كاسحة، تكاد تصل إلى 400 ألف فرد، ولا تسري عليهم قواعد حركة التنقلات الدورية كما يجري للضباط، ويقومون في أقسام الشرطة بدور وكلاء الوزارات في الحكومة، فقد يتغير الضابط كما يتغير الوزير، لكن أمين الشرطة هو الذي يملك المفاتيح وعدة الشغل، وإقامته المزمنة تجعله سيد الموقف، وعلى علاقة جوار وحوار خطرة مع كافة ظواهر الإجرام في محيطه، فهو يعرف قوائم «المسجلين خطر» والبلطجية والمطلوبين لتنفيذ الأحكام، ويقيم معهم شبكة تعايش تبدو مستقرة، وقد تحول بعض الأمناء إلى مليونيرات وأباطرة، في يدهم الحل والعقد وهمزات الوصل مع الضباط، وتضخم دور أمناء الشرطة في إدارات المرافق والمواصلات والكهرباء والسياحة والمرور بالذات، وأصبح الكثير منهم في وضع «الباشا»، يفرض المعلوم والإتاوات، ويروض حتى ضباط الشرطة، وهو ما يؤدي لخلخلة الانضباط، وتدهور الأداء العام للجهاز الأمني، وضعف فاعليته، وتراكم صور الفساد، ونزع الثقة في صحيح القانون. وقد لا يصح لأحد أن ينكر وجود صور بطولة حقيقية في أداء ضباط أو حتى أمناء شرطة، ولا وجود ضمائر يقظة، واستعداد هائل للتضحية في سبيل حفظ الأمن، خاصة في ملاحم المواجهة المتصلة مع جماعات الإرهاب، وتقديم شهداء نعتز بهم ونجل ونحترم ذكراهم، وإن كانت البطولة والشهادة لا تحجب وجوه ضعف ظاهرة، تزيد من الخطر الواقع على حياة رجل الأمن بغير مقتضى صحيح ومعقول، بينها ضعف التدريب، وعدم التصرف بسرعة مناسبة وقت الهجوم الإرهابي، وما من مسوغ لقبول تبريرات من نوع «المفاجآت» الإرهابية، فالعمل الإرهابي مفاجئ بطبعه، ولا يتعين على الإرهابيين إخطار الشرطة مسبقا بنوايا الهجوم، وقد وقع عدد كبير من الضباط والأفراد ضحايا لهجمات مفاجئة على الأكمنة، وبدون أن نلحظ ردا نيرانيا فوريا على الإرهابيين المهاجمين، ولا إصابات مباشرة وقاتلة بينهم، اللهم إلا في حالات محدودة، أظهرها تصرف الشرطة السريع الكفء في حادث الهجوم على فندق بالغردقة، وهو ما يثير أسئلة واجبة عن مستوى اليقظة وكفاءة التدريب والتصويب، فالحرب ضد الإرهاب ليست حروب حشود ولا مهرجانات أسلحة، ولا إقامة حواجز وسواتر إسمنت في كل مكان، بل هي حرب ذكاء وقوة تخيل في الأساس، وتوقع مبكر لأي سيناريوهات مفترضة قد يلجأ إليها الإرهابيون، وهي حرب معلومات وافية مدققة، وليست خبط عشواء، يأخذ العامل بالباطل، ويقبض على كل سكان الشارع لمجرد اشتباه في وجود إرهابي محتمل، خاصة أن العشوائية تجلب العشوائية، والجهل بالمعلومات يزيد القسوة، ويورط الشرطة في تصرفات تدينها، ولا تشجع على التعاون معها من عموم المواطنين، وتخل بسلامة وكفاءة التحريات، وتجعل الفاعلين الحقيقيين في منأى عن الاكتشاف، وهو ما يفسر تحول العديد من الجرائم الكبرى ـ كاغتيال النائب العام مثلا ـ إلى ألغاز وفوازير بلا حلول، ويبقي القضايا معلقة ومثيرة للشبهات، وعلى طريقة التحريات في فضيحة اتهام طفل الفيوم (4 سنوات) في قضية أمن دولة ومحاكمة عسكرية، أو على طريقة التحريات التي لم تصل لشيء معقول ولا مقبول حتى الآن في قضية تعذيب وقتل الشاب الإيطالي جوليو ريجيني، التي تكاد تدمر علاقات السياسة والاقتصاد النامية مع إيطاليا. والاعتراف بالنقص والخلل هو أول الطريق لطلب الكمال، فالأمن حاجة إنسانية طبيعة فطرية، ولا يوجد مجتمع حديث بدون شرطة وقانون، وهو ما يعني ببساطة، أن الشرطة عليها أولا أن تلتزم بصحيح القانون، فلا يصح لباب النجار أن يكون «مخلعا»، والهيبة لا تكتسب بالبلطجة والانفلات الإجرامي، بل بالكفاءة وحسن التدريب وسلامة الضمائر ونظافة اليد، وهو ما يعني أننا بحاجة إلى مراجعة شاملة لأداء الجهاز الأمني، وإلى تطهير شامل لصفوفه، وإلى استغناءات واسعة وإحالات للتقاعد، فنصف القوة الأمنية الحالية يكفي جدا لضمان أمن مصر، بشرط توافر الحرفية والمعلوماتية ودقة التحريات وتطوير التكنولوجيا الأمنية، وليس بالتساهل والميل للتخفي بالأخطاء ونواحي القصور، ولا بتسديد الخانات تغطية لضعف التحريات، ولا باستخدام كاميرات مريبة عجيبة، يثبت في كل مرة أنها عمياء لا تبصر ولا تصور، ولا بتحويل العمل الشرطي إلى مهنة انتقام وتجبر على المواطنين، ولا بتفريغ العجز الحرفي في شحنات تعذيب وحشي وقتل خارج القانون، فلم يعد بوسع أحد أن يخفي جريمة تعذيب أو قتل نظامي، وتكنولوجيا المواطن صارت أقوى من تكنولوجيا جهاز الأمن، وصار بالوسع نقل كل ما يجري في المخافر والأقسام والأقبية والشوارع، وبالصوت والصورة الكاشفة فورا لكل تواطؤ مهما بلغ سلطانه، فالسلطان اليوم لوعي المصريين الذي تطور، ولنصوص الدستور التي جعلت التعذيب جريمة لا تسقط بتقادم الزمن.
نعم، لا بد من وقفة ورد اعتبار للناس، لضحايا تجاوزات الشرطة، تماما كما لشهداء الشرطة نفسها، فالحق لا يصـــــادر ولا يصادم بعضه بعضا، وهذه قضية سياسية بامتيــــاز قبل أن تكون أمنية، فالعدالة وحدها هـــي التي تكفل الأمن، ولا عدالة بدون اجتـــــثاث الفساد من جذوره في الشرطة وغيرها، وبدون الاقتصاص للحقوق، وبدون الانحياز لمصالح وأشـــواق الفقراء والطبقات الوسطى، وبدون جعل مهمة جهاز الأمن حفظ أمن الناس، وليس حراسة أمن المظالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. مأزق الهدنة:
قبل شهور طويلة، وقبل أن تبدأ روسيا غاراتها الجوية في سوريا، كتبت في هذا المكان عن « سوريا الروسية»، وقلت ببساطة، إن أولوية روسيا هي تغيير خرائط السيطرة بالسلاح على الأرض، ودفع قوات النظام السوري مع الحلفاء الإيرانيين وحزب الله إلى انتصار بعد انحسار، واستعادة أرياف المدن الكبرى في الساحل والجنوب والشمال والقلب السورى، وجعل بشار الأسد هو القوة الرمزية الأولى، وهو ما تحقق ببطء في البداية، ثم تحول إلى تقدم مكتسح على الجبهات، جعل لبشار سيطرة على غالبية السوريين الذين لم يفروا بعد من سوريا، إضافة للسيطرة على ما يجاوز الثلث من إجمالي مساحة سوريا، مع حصار خانق لمناطق سيطرة المعارضة المسلحة المتبقية في حلب الغربية، واكتساب قوة دفع لاستعادة «إدلب»، وهي المحافظة الخارجة بصورة شبه كلية عن سيطرة النظام، إضافة لمحافظة «الرقة» التي اتخذ منها «داعش» عاصمة لدولته.
وهذه الخرائط تجعل من «هدنة الأسبوعين» بلا قيمة عملية، فهي لا توقف الحرب إلا في مناطق انتهى أمرها، وتستمر بالحرب حيث يحب النظام وروسيا أن يواصلا، فقد نصت الهدنة على استثناء الحرب ضد «داعش» و»النصرة» وجماعات الإرهاب، وجبهة «النصرة» هي القطب الأساسي في الشمال الحلبي والإدلبي، و»داعش» هي قوة السيطرة الأولى لا تزال في الشرق الصحراوي، وهو ما يعني منح الفرصة لتركيز أكبر في قوة النيران الروسية، وإتاحة فرص مضافة لبشار مع حلفائه والأكراد على الأرض.
إذن، فالهدنة المتفق عليها تبدو بلا معنى، وسوف تتواصل الشكاوى من خروقاتها، وربما لا يكون تجديدها سلسا، فما تبقى من المعارضة المسلحة على علاقة تواصل ميداني مع «جبهة النصرة»، وسوف تعتبر ضرب «النصرة» ضربا لها، خاصة حركة «أحرار الشام» المتصلة بوجودها وعقائدها مع «النصرة»، وهو ما يعني أننا بصدد «هدنة مثقوبة»، يعلنونها في يوم، وتتحول إلى الحرب في اليوم التالي.