عامل الزمن في العلاقات بين البشر

ثلاثاء, 2016-03-01 01:37
عبير ياسين

سؤال يطرح نفسه من وقت لآخر في الحوارات، ربما بشكل خاص بين الأصدقاء، وبالطبع وقت الأزمات، أي عندما تتعرض الصداقة أو العلاقة الإنسانية للتساؤل حول العمق والقرب، أو للتساؤل الأعمق حول الاستمرار من عدمه. 
فهل الزمن عامل مهم في التأثير على العلاقات البشرية؟ وإذا كان كذلك هل هو بالفعل عامل ايجابي كما يرى البعـــــض؟ أم انه على العكس من ذلك يمكن أن يكون عاملا سلبيا؟ وهــــل يمكن للزمن وحده أن يحافظ على بناء وبقاء علاقة إنسانية، والأكثر أهمية ضمان قوة ومتانة تلك العلاقة أم لا؟
وعندما نقول عامل الزمن وتأثيره، فالمقصود العلاقة بين طول المدة ومتانة العلاقة.. فهل طول مدة المعرفة يفترض معها بالضرورة عمق العلاقة، وهل يمكن التعويل على عامل الزمن لتجاوز الصعوبات أو المشكلات التي تواجهها العلاقة الإنسانية، أو لتبرير تجاهل طرف من أطراف العلاقة لها، وتوقفه عن رعايتها بافتراض أنها أصبحت معطى بحكم الزمن؟ أم أن الزمن يمكن أن يكون مؤثرا سلبيا عندما يطرح نوعا من التوقعات ويفترض نوعا من الأداء للحفاظ على علاقة عمر فيأتي السلوك أقل من التوقع؟ أم أنه عامل مستقل ليس له أثر؟
تساؤلات كثيرة تطرح نفسها حول الزمن، ربما لأننا في بعض الأحيان نجد علاقتنا ببعض الأطراف في تقاطع طرق.. نجد علاقتنا محلا للتساؤل حول قوتها، وحول جدوى استمرارها، فهل يغفر الزمن بالفعل؟ أم أنه سلاح ذو حدين، ويمكن أن يكون هو الدافع لقطع علاقة ما أو حتى لتجميد تلك العلاقة وحفظها في متحف الذاكرة سلبا أو إيجابا؟
عندما طرح التساؤل الأكبر داخلي في البداية حول الزمن بوصفه عاملا في العلاقات بين البشر، طرح بدوره كثيرا من النقاط الأخرى والتساؤلات المشتقة، وأجد لزاما عليّ أولا أن أقول إنني لا أقصد هنا بالطبع العلاقات الثابتة، أو التي يمكن أن نقول إنها ليست محلا للنقاش، أو المفروضة علينا بحكم الواقع، فالحديث هنا عن العلاقات الاختيارية، أو تلك التي يمكن أن ندخل فيها أو نخرج منها كما نشاء. لا أقصد هنا علاقات الأسرة الواحدة بين الآباء والأبناء، أو بين الإخوة بعضهم مع بعض. كما لا أقصد علاقات الزمالة المفروضة التي تستلزم أن يلتقي زملاء العمل أو المكتب يوميا، ولو على طريقة إلقاء تحية الصباح والمساء، أو تناول كوب من الشاي أو الإفطار الجماعي من وقت لآخر. فهذه العلاقات تتصف بأن الزمن مكون أساسي فيها، بمعنى أنه معطى لا يملك أي طرف أن يتساءل حوله أو عنه بالصورة نفسها.
علاقات الأبوه والأمومة والإخوة جزء ثابت ترسم حدوده وطبيعته ومتانته عوامل أخرى ليس لها علاقة بالزمن. وعلاقات الزمالة لا يمثل الزمن جزءا منها إلا إذا تحولت لعلاقات صداقة أو حب، المهم أن تتجاوز العلاقة المفروضة من البقاء في المكان نفسه، التي تشبه بدورها علاقة الجيران، فما لم تتعمق العلاقة لتواصل إنساني يتجاوز التعامل الآلي المفروض، تصبح جيرة السنوات التي لا تعرف فيها ربما شكل جيرانك أو أسماءهم مستقلة مرة أخرى عن الزمن. المهم أن الزمن في تلك العلاقات ليس عاملا للتساؤل وهذه نقطة أولى.
أما النقطة الثانية فهي في العلاقات التي يمكن أن نتساءل فيها حول الزمن، وطبيعة تصورنا لتأثيره. فالزمن محل للتساؤل في العلاقات الاختيارية، تلك
العلاقات التي يلتقي فيها الأشخاص في علاقات أكثر دفئا تقوم على تواصل إنساني غير مفروض، مثل علاقات الصداقة أو الحب أو العشرة بين الجيران، هنا تتعمق العلاقات وتستمر في النمو نتيجة سلوك اختياري يقوم به أفرادها.
تتعمق العلاقات وتطول المدة ويصبح الزمن جزءا أساسيا، ونبدأ في سماع عبارات مثل صديق عمر، أو عشرة وجيرة زمن، أو حب سنين، نعم هنا الزمن عامل مؤثر ومهم ولكن في أي اتجاه؟
يمكن القول إن الزمن يعمل في اتجاهين: في البداية تكون العلاقات أقرب للطفل الوليد. طفل ينمو مع الزمن، ولكن صحة الطفل ونموه أمور تخضع لاعتبارات أخرى، فالطفل لن ينمو بمفرده صحيحا سليما معافيا قادرا عقليا وجسمانيا على مواجهة صعوبات الحياة، الطفل يحتاج للرعاية ويحتاج للتغذية المستمرة. وهكذا العلاقات بين البشر تحتاج إلى التعامل معها بالرعاية والحرص المتبادل، فهي تنمو بقدر حرص أطرافها على استمرارها ونموها. وهذا النوع من العلاقات بين البشر أقرب في بدايته ونموه للطفل في مرحلة النمو، في احتياجها الدائم إلى الرعاية حتى إن اختلفت نسب الرعاية.
نعم ربما مع الوقت يبدأ التعامل مع الزمن بوصفه معيارا للقوة وعاملا للاستمرار. يبدأ الإحساس بأن العلاقة قوية بحكم طول المدة، ولكن احتياج العلاقات الإنسانية الدائم للرعاية، احتياجها الدائم للتغذية، وللحرص المتبادل، يجعل الزمن بمفرده ليس كافيا، فالعلاقات بين البشر لا يمكن أن تنمو على كتفي طرف واحد، ولا يمكن أن تبقى وتستمر على اهتمام أو حب أو رعاية طرف واحد، مقابل تجاهل الطرف الآخر. بالرعاية المتبادلة، مع احتمال وقبول فكرة اختلاف نسب الرعاية، يمكن أن تستمر العلاقات كما يستمر النمو الصحي للطفل. ولكن مع استمرارية العلاقة يصبح الزمن معيار حكم ومحاسبة، هل طول المدة أنتج عمقا وثقة ومتانة حقيقية كما يفترض أم لا؟ وهل هناك حرص للتواصل ورعاية العلاقة بالقيمة أو الدرجة نفسها من أطرافها مع الوقت أم لا؟ يصبح الزمن بالفعل سلاحا ذا حدين لأنه يتحول لمعيار حكم داخل أطراف المعرفة وبينهم.
يخضع الزمن لتفسيرات مختلفة من أطراف العلاقة. فالبعض قد ينظر للعلاقة بعد فترة على أنها معطى ثابت ليست محلا للنقاش، ويصبح الفتور من قبل البعض في جزء منه نابعا من الثقة في الزمن. فمع طول العلاقة ربما لا ينظر أطرافها إليها أو لأهميتها أو حتى لاحتياجها إلى التغذية والرعاية بالنسبة نفسها، فتبدأ تلك الأطراف في إعطاء رسائل مختلفة قد تحمل انعكاسات سلبية على المستقبل. بالمقابل، قد يرى البعض أن الزمن مبرر للمزيد من الرعاية والحرص والاهتمام للحفاظ على علاقة السنين وحمايتها والحفاظ عليها لسنوات أخرى مقبلة، ولتعميقها وترسيخها وعدم تركها للذبول بحكم تغيرات الحياة. الأول يرى أن تجاوز مرحلة الطفولة مبرر كاف لترك الفرد للاستمرار في الحياة بمفرده، والثاني يرى أن تجاوز مرحلة الطفولة بسلام يبرر المزيد من الاهتمام للتأكد من سلامة طريق النمو وتعمقه. الأول يعتمد على الزمن الماضي كضمان للمستقبل، والثاني يرى أن الماضي وحده ليس كافيا وأنه من الضروري بذل الجهد للحفاظ على ما هو موجود والوصول لعمق أكبر من القائم. وعندما تتم ترجمة الزمن إلى عمق وحرص معطى ومضمون من قبل أطراف العلاقة، أو أحد أطرافها فإنه يتحول إلى عامل ثبوت وجمود ثم عامل خفوت. وعندما تبدأ العلاقة في الظهور على أنها علاقة قائمة على حرص طرف واحد من الأطراف مقابل تجاهل أو فتور الآخر، أو فتور أطرافها، اعتمادا على طول المدة، تصبح العلاقة كالطفل الذي لا يحظى بالرعاية فيصاب بالذبول ويبدأ نشاطه في الخفوت ويبدأ في إعطاء مؤشرات ما قبل الموت، مشيرا لوجود احتمال أخير للحفاظ عليه ببعض الرعاية أو الحرص.
فرصة أخيرة يلعب فيها الزمن مرة أخرى دوره، فهل يحافظ أطراف العلاقة على أهميتها بإعطاء قوة دفع جديدة لها؟ أم ينظرون للزمن بوصفه عاملا كافيا للبقاء. بالتأكيد تقف العلاقة ذاتها كالطفل الحائر، تحمل عيناه بعض الأمل فى بعض الإنعاش، ولكن خفقات قلبه تؤكد على مشاعر الخوف من المقبل وأن ذبوله حقيقي وخطير.. وتظل التطورات رهنا بأطراف العلاقة ذاتها مهما كان نوعها في الحفاظ عليها ودعمها وتجديدها ليمتد الزمن الماضي والحاضر إلى زمن مقبل يمثل فيه الزمن أحجارا للبناء وطوابق من الثقة والاهتمام، أو يتحول إلى أطلال وقصص قديمة في الذاكرة.