نحن والثورة في مواجهة النبيذ الفاسد ونهر النسيان

اثنين, 2016-03-07 00:32
عبير ياسين

يؤكد الكاتب الألماني غوته أن «لا أحد يخدعنا، إنما نحن نخدع أنفسنا». مقولة صادقة للغاية وتجد ما يكملها ويعبر عنها في أدبنا العربي وأمثالنا الشعبية، ولكن مثل ما يحدث مع أشياء كثيرة في الواقع نتوقف عند إدراك التشابه وتأكيد المعنى وتنتهي القصة، وتحل محلها في الحياة مقولة الكاتب المصري نجيب محفوظ «آفة حارتنا النسيان». 
ويصبح من الطبيعي أن ينتشر الشرب من نهر النسيان، الذي يمثل أحد الأنهار الخمسة في العالم السفلي، وفقا للأساطير اليونانية القديمة. ورغم أن النهر مخصص في الأساطير لأرواح الموتى حتى تتخلص من الذكريات الدنيوية، فقد تحول في الواقع لأسلوب الأحياء في خداع الذات والتعايش مع الخداع الذي يمارس عليهم. وأصبح تجسيد النهر الأسطوري من أجل الأحياء هو إنجازنا الخاص الذي يجعل النسيان آفة نعترف بها، ونعمة يتمتع بها من يمارس الخداع، وفرصة لتكرار سيناريوهات الخداع بصورة دائرية. تتحول الحياة لمشهد مكرر من الأعمال الدرامية تجسد الشر بقوة في شخصية البطل، الذي يتفق الجميع على نسيان ما فعله في الحلقة الأخيرة، وكأن الطبيعي أن نقبل بالخداع والظلم ونتجاوز ولا نطالب بالمحاسبة. نشاهد كيف تكسب الشخصيات الشريرة أكثر من الشخصيات الطيبة، التي تتحول لوقود الحياة، فما دام البطل بخير يمكن أن تموت الطيبة ومن يمثلها بسهولة. وضع يمتد من الدراما للحياة ونحن نشاهد كيف تغتال ثورة يناير بسهولة لأنها غير قادرة على محاسبة سنوات الظلم والفساد. في حين ترفع شعارات النسيان من وجوه تستفيد أكثر من غيرها به لأنها حاضرة في تجميل كل نظام وتمرير السياسات الظالمة والمعاناة عبر دس السم في العسل.
تداعيات كثيرة لهذا الخليط الخاص الذي يحيط بنا ويحكم مسار الحياة للأفراد والدولة، التي تصر على الاستمرار في تكرار الأخطاء وقبول الخديعة وكأنها قدر، مثل الزعماء والقادة وكل الألقاب التي يمكن أن ندخل بها موسوعة غينتس للأرقام القياسية بعد ثورة 25 يناير بسهولة، لقدرتنا غير الطبيعية على إنتاجها ما دامت تتعلق بالتعظيم والتبجيل وخلق هراركية طبقية ووظيفية جديدة في المشهد. أحداث مختلفة تمتد على مسار طويل وتظهر حاضرة بعد يناير، ولا تتوقف عن السير بقوة وفي الطريق يفقد الوطن والبشر تفاصيل وأحلاما وتصورات كبرى عن إمكانية التغيير. فمجرد النظر للأخبار وكيفية تغطية الأحداث التي تمر بنا يظهر مساحة النبيذ القديم الذي فسد وأفسد، ولكن يعاد إخراجه اعتمادا على نهر النسيان العظيم. زيارات رئاسية يتم التعامل معها بطريقة التعامل مع خطابات وزيارات الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، وفي الخلفية فكرة الزعيم الذي يتحرك العالم وفقا لتوجيهاته. وكما تحدث رئيس وزراء أسبق أثناء انعقاد المؤتمر الاقتصادي في شرم الشيخ عن تحقق أهدافه، وتصور أن دموع الفرح كافية لتأكيد العسل القادم، كررت شخصيات أخرى الصيغة نفسها في التعامل مع زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي لليابان، واعتبرت الزيارة في حد ذاتها إنجازا. أما عقدة «الأول» التي شغلت وسائل التواصل الاجتماعي عبر السخرية من أول تغطية مصرية لحفل الأوسكار فلا تختلف عن التعامل الهامشي مع فكرة خطاب الرئيس في البرلمان الياباني -الدايت- وتصور أن تقييم الخطاب أو الزيارة يكفيه تكرار أنه أول خطاب لرئيس مصري. وكما اعتبرت تعليقات موضوعية أن ما حدث في تغطية احتفال الأوسكار يتسق مع الواقع العام، ويمثل إفرازا لسياق ممتد من التدهور في الكثير من المجالات، بما فيها حرية التعبير عن الرأي وقبلها التفكير الحر وعدم الخوف، فإن التعامل مع الكثير من التفاصيل يحتاج أن يتم في إطار الوضع العام، لأن غياب التقييم الحقيقي والمحاسبة والإصرار على قيمة نهر النسيان جزء من المشاكل الكبرى التي تعاني منها مصر كما نعاني منها شخصيا.
كلمات ترد في خطاب الرئيس أمام البرلمان الياباني تكشف عن أن عقلية التعامل في الداخل تحكم الخطاب في الخارج، رغم اختلاف السياق. التركيز على عراقة الحضارة والتاريخ السلمي والإنجازات في هذا السياق تعبير عن خلط بين خطابنا الذاتي وواقع اليابان في اللحظة، بدون إدراك ما يمكن أن يمثله من تحديات في ظل ميراث الحرب العالمية، والمعاناة التي شهدتها بعض الدول الآسيوية، التي ترفض أن تشرب من نهر النسيان وتصر على إبقاء التاريخ حاضرا وبقوة. استحضار مفردات الخطاب المصري للدايت، لا يختلف عن سياقات أخرى كثيرة لن يكون أهمها تغطية الأوسكار، ولن يكون آخرها تقليص أهداف وأحلام الثورة، لأن نهر النسيان لازال حاضرا معنا وهناك من يخرج في كل كارثة أو مشكلة أو خطأ يستحق التقييم الموضوعي والمحاسبة، ليؤكد أن إنجاز الوجود أهم من إنجاز التحقق، وإنجاز انعقاد المؤتمر أو السفر أهم من محاسبة ما ترتب عليه وما أنفق فيه، أو أن عرض الرئيس بيع نفسه على هامش حديثه عن خطة التنمية، ورغم كل ما يحمله من سلبيات، هو قمة الوطنية والخوف على البلد، بدون التفكير في مكانة المنصب ومسؤولية الدور. يتعارض نهر النسيان مع المحاسبة ويساهم في خلق الزعامات وكأنه جزء من عالم مقابر الذاكرة، الذي تحدث عنه جورج أورويل في راوية «1984». فكل تلك التفاصيل التي تدفعنا للنسيان والتعايش مع الظلم بدرجاته تشارك في ترسيخ الظلم وغياب المحاسبة واستمرار المعاناة والفساد، ونمو الزعامات وتضخم الألقاب. دائماً ما أكرر أن هناك صعوبه في فصل ما هو شخصي عما هو عام والعكس، وأن الفاصل مجرد خط هش. فحديث المملوك جابر في رائعة سعد الله ونوس «مغامرة رأس المملوك جابر» عن أن ما يحدث لا يعنيه كلام غير حقيقي، والاستمرار في التركيز على العالم الضيق يمكن أن ينتهي بصاحبه مثل جابر، حاملا الموت في الرسالة التي تصور أنها تحمل له الحياة. وبهذا تأتى تجربة مباشرة لتثير القضية بشكل أكثر عمقا وتعيد سؤال العام والخاص إلى الواجهة، خاصة أنه يؤكد أن قبول الظلم العام يعني ضمنا قبول ممارسة الظلم ضدك يوما، وأن ترفض فكرة الخداع يعني أن ترفض النسيان، وأن تبحث عن اتساق الاسماء التي تحيط بك، وأن تؤكد على أهمية اتساق الموقف المعلن بالفعل، وإلا ما أسهل أن نتحول جميعا إلى أبطال وأن تتحول الأرض إلى جنة.
حدث مباشر يفرز تساؤلاته ليس فقط على من قام بالفعل، ولكن على ردود فعل البعض، وكيف تتقاطع مع المشهد الأكبر الخاص بالوطن وخطورة نهر النسيان واستمرار النبيذ الفاسد. أما الحدث فيبدو للؤهلة الأولى مكررا، وربما سهل الحل، حتى إن كان غير مقبول أو مفهوم. أن تغيب عن عالم الفيسبوك لفترة مع ترك المجموعات التي أسستها فاعلة حتى تستمر في دورها، وعندما تعود تكتشف أن هناك من استغل اللحظة وقام بالسيطرة على مجموعة وإحلال نفسه مكانك. وعندما تتواصل مع الشخص يتعامل بمبدأ التجاهل فقد ملك. يبدو الحدث مكررا في العالم الفضائي، لدرجة أن من طلب منه التحدث مباشرة مع الشخص اعتبر أن الجميع يفعل هذا، فمن يجد فرصة يستغلها وربما يكون من الأفضل أن أقوم بتأسيس مجموعة جديدة. قد يبدو الحدث بما ورد من تفاصيل مكررا، ولكن الغريب أن من قام بالفعل شخصية غير مجهولة، بمعنى أنها شخصية حقيقية وليست مجهولة والأكثر أهمية أنها توجد في الحياة العامة وتقدم نفسها بوصفها مدافعة عن ثورة يناير. شخصية تعلن أنها مدافعة عن الحقوق والحريات، التي يحملها معنى الحديث باسم يناير، ولكنها على أرض الواقع تسقط في فخ استغلال الفرصة والرغبة في السيطرة، بدون حق والاعتماد على قبول الظلم بوصفه جزءا من القدر وعلى نهر النسيان. في العمق، لا يختلف استغلال مجموعة عن استغلال دولة، ولا الحديث باسم القيم الكبرى والثورة مع فعل النقيض عن ممارسات الكثير من الشخصيات التي تنتج خطاب النبيذ الفاسد وتطالب الجماهير بالقبول المفتوح وعدم المحاسبة.في حين تبدو الرسالة الضمنية التي يتشارك فيها الفاعل وغيره في التأكيد على أن صاحب الحق لا يسترده بالضرورة، ومن يستولي على حق غيره لا يجد من يجرمه بالضرورة ويستمر التعامل معه على أنه رمز ويضم حقوق غيره بدون إحراج لقائمة ألقابه وإنجازاته، في سبيل خلق بطولات عبثية في مجتمع مُنع من برنامج ساخر وأنتج برامج وحياة ساخرة بمرارة.
التفاصيل الواردة في ما سبق بين العام والخاص في صلب قضية الوطن فكلنا ندفع الثمن، وكلنا نشارك في الجريمة بالقبول بها وتعظيم فاعلها. أما يناير فتظل في مكانتها البراقة مهما تحدث باسمها من لا ينتمى لها قلبا وقالبا، لأنها ببساطة وبمشرط حاد أزالت وتزيل الكثير من الأقنعة وكل ما علينا أن نفعله هو أن نتجاوز خطاب التجميل المصنع وننظر للفعل والاتساق. لا يختلف في هذا نظام يطالب بالتقشف ولا يطبقه، أو ناشطة تتحدث باسم الحريات والحقوق وتقبل بالحصول على ما ليس لها. ومن المهم أن نردم الجزء الأكبر من نهر النسيان، فإن كان من الضروري أن ننسى بعض الأشياء كأفراد، إلا أن علينا أن نتذكر كل الأشياء بوصفنا مجتمعا ودولة ويفترض أن ندرك أن قضية الثورة ليست فاشلة وليس علينا أن نغيرها، ولكن على طريقة غسان كنفاني، علينا أن نغير المدافعين عنها وفي حالتنا علينا أن ندرك حقيقة المتحدثين باسمها ايضا.