في وداع أمبرتو إيكو: إعلاء قيمة الفرح

سبت, 2016-03-12 00:43
 فاطمة الشيدي

العالم ودع ‏الفيلسوف والروائي والباحث في القرون الوسطى الإيطالي أمبرتو إيكو، الذي عرف بكتبه النقدية الجادة، ومقالاته الرائعة، ولكنه اشتهر بروايته العظيمة «اسم الوردة»، والتي كانت تقوم على فكرة محاربة الضحك من قبل السلطة الدينية المتمثلة في الكنيسة، وتحديدا في شخصية يورغ، الكاهن المتزمت والمستعد لعمل أي شيء ـ بما في ذلك قتل الجميع ـ دفاعا عن عدم ظهور كتاب «الكوميديا» لأرسطو. لأنه من وجهة نظره المتشددة «الضحك هو الضعف، هو الانحلال، ومسخ طبيعتنا الإنسانية، هو اللهو»، ويدلل على ذلك بأن السيد المسيح لم يتخفف في حياته أبدا، ولم يضحك ولم يحك هزليات، بل كانت حياته جادة وصارمة، وبالتالي فهو يحرم كل الأشكال المرتبطة بالضحك من فرح ومرح وهزل ولعب. فالضحك يدفع إلى الابتعاد عن قيم الدين الرفيعة، كما يدفع للريبة والشك في اليقينيات الدينية، ويشجع على الانحلال والتفسخ، وسقوط القيم العالية. ولكن المحقق وليام يبين له أن الضحك حياة، وحاجة إنسانية، وأن الإنسان يحتاج للضحك ليحيا وينسى، وأن الضحك حالة تحرر من ربقة المادة والخوف.
إن هذه الفكرة التي أراد إيكو تصديرها للقارئ المعاصر، وهي الفهم المغلوط والقاصر من قبل بعض المتدينين المتشددين بأن الدين ضد الحياة، وأن الالتزام به ضد مظاهر الفرح والمرح، أولئك المغالون في تقديم الدين وتطبيقه، وكأنه أوكلت لهم مهمة حمايته وتنقيته من الفاسدين حتى بالموت، هذه الفكرة ليست بعيدة إطلاقا عن عصرنا الذي تذهب به المدنية والعلمية نحو الانفتاح على العالم وتنقيح كل الأفكار وتمحيصها. فهؤلاء يعيشون بيننا، متوهمين أحقيتهم في حماية الدين، وتغيير سلوك الأفراد باسم الرب، والقضاء على كل ما يخرج عن مفاهيمهم المتشدّدة، ورؤيتهم القاصرة للدين. لقد وضعوا أنفسهم في مواضع الفتوى، وتشيخوا على الدين قبل الناس، فقاموا بتحريم الكثير من مظاهر الفرح، وتقديم الكثير منها على أنه بدعة، حتى أصبحت كل مواضع الفرح فتنة محرمة، كالموسيقى والغناء، والتجمعات الإنسانية، وارتداء الألوان، وزيارة الموتى، وبعض الطقوس الاجتماعية المتوارثة (كالختان مثلاً).
لقد كان البشر يعيشون مع بعضهم حياة طبيعية رجالا ونساء، صبيانا وبنات، وكانت البيوت مفتوحة، والأعمال مشتركة، والمناسبات جامعة، والحياة طبيعية، وألوان ملابس النساء ربيعا مزهرا. وكانت الاحتفالات بالمناسبات الدينية والاجتماعية كالأعياد والأعراس تأخذ أبعادا إنسانية ونفسية رائعة، ممتزجة الفرح واسعة البهجة بالألوان والطعام والتجمع والمسابقات والاحتفالات والرقص والموسيقى. ولكن وباسم ما يسمى بالصحوة الدينية ظهرت ظاهرة تحريم كل هذا، والتحريض على الفصل بين الناس وحرمة الاختلاط، وأصبحت ملابس النساء قاتمة سوداء، تحث على الكآبة وتحرض على الكبت، وأصبحت كل مظاهر الفرح بدعة مرفوضة، ومحرمة.
وما تزال هذه التحريضات بالحرمة والإثم، تمتد في كل المناسبات الطبيعية والبسيطة، فعيد الحب، وعيد الأم، ويوم المرأة، وعيد العمال، كلها بدعة، وبالتالي فهي حرام، ولذا ينشط الدعاة في هذه المواسم، مستخدمين كل الآليات والوسائط الجديدة (التي من المفترض أن تكون بدعة أيضا) لمواجهة طقوس الفرح، ومحاصرة القلوب التي تبحث عن بهجة قليلة، ونافذة صغيرة للفرح.
فإذا تعلقت تلك المناسبات بالمرأة كان النشاط فيها أكبر، والتحريض أكثر، والمواجهة أشد وأعتى، فهي (أي المرأة الدرة المصونة) ليس لها من الحياة سوى البيت، والزواج وتربية الأطفال، فلا تستحق وردة في عيد الحب، ولا هدية في عيد الأم، ولا نزهة في يوم المرأة. وليس عليها أن تتجمل قليلا في أي من تلك المناسبات لتبعد تكلس الزمن عن جسدها، وترفع معنوياتها بالقليل من الفرح، وتحاصر الهم والألم والكبت والقمع والقهر الذي يتلى على روحها ليلا ونهارا، والتعب الذي يعتريها زوجة وأما ومعلمة في البيت وعاملة خارجه، لأن ذلك سيحولها شيطانا مغريا للرجل الذي يقع فريسة للإغراء بسهولة ويسر.
أما إذا كانت مناسبة كبيرة كرأس السنة، فترتفع الألسن بالقدح والنذير، وتفتح كتب التراث لاستخراج ما يدلل على حرمتها، وما ينذر بعقوبة مقترفها، وما يفترى به على النبي من أحكام لم يقلها، ومن تأويلات لم يقصدها، متجاهلين أننا نحتفل بعام تشكّل تواريخه مولدنا في شهادة الميلاد، وموتنا في شهادة الوفاة، وروزنامة أيامنا، وجداول أعمالنا وإجازاتنا، وشهادات دراستنا، وشهادات أطفالنا، وكل ما يمت لحياتنا بصلة.
ثم يتساءلون لماذا ينجرف الجميع للاحتفال بأعياد العالم ومناسباته إذا ما أتيح لهم سبيل، كأعياد الهنود، والحضارات الأخرى التي تعيش بيننا، أو الأعياد الأوروبية التي يعيشها البعض خارج أوطاننا المكبوتة، بما تمثله من ألوان وبهجة وموسيقى وغناء؟
لأن الإنسان ـ أيها المتشددون ـ يحتاج الفرح ليستمر، والضحك ليحيا، ولذا نحتاج اليوم أكثر من أي زمن مضى، أن نربي ثقافة الفرح، ثقافة التفاؤل، ثقافة الجمال، ثقافة حب الحياة والسفر والاستمتاع، وزيارة الموتى الذين نحتاجهم أكثر مما يحتاجون إلينا.
ونحن ندرك بعقولنا ـ التي وهبها الله لنا لنفكر بها ـ أن الفرح ليس بدعة، بل هو الحياة، والرسول الكريم كان مبتسما، هشا بشا، يستمتع بكل جوانب الحياة، فارحموا عقولنا من جهلكم، وارفعوا أيديكم عن أرواحنا، وحرروا ديننا من قبضتكم، ودعونا نتحايل على الحياة بالتفاصيل الصغيرة، وبالفرح، وببعض الأمل.
ويا أمبرتو إيكو، يا صديقي الكبير الذي تعلمت منه الكثير، وغيرتني كتاباته جدا، أقول لك، نعم «كانت الوردة اسما ونحن لا نمسك إلا الأسماء»، وما أجمل اسم الوردة الذي اخترته، و»الكوميديا» كتاب الفرح والضحك لتخبرنا أن علينا أن نتشبث به في الحياة.
إن وردتك الضائعة يا صديقي (الفرح والضحك والمدنيّة الرفيعة)، ضائعة بيننا أيضا اليوم، وعلينا أن نبحث عنها كما علمتنا، وننتشلها من أيدي القساة، والمتشددين، والغلاة في الدين والحياة كما أردت لنا.
لقد استفدنا من وردتك؛ أن الفرح والحب والجمال هي الإنسانية الحقيقية القائمة على الصدق، والروح العالية النبيلة هي التي لا تتصنع الجدية لتبني لها حصونا واهية من الزيف أو التشدد، وتخفي البهتان الباهت، والنقص البيّن، والخراب الداخلي. وأن الصدق والحب والفرح هي الروح الأعمق للإنسان الأجمل، والحقيقة الكبرى للدين الأكمل، وهي حقيقة الله في أرواحنا، كرب للإنسان والوجود.
وداعا يا صديقي، لقد أديت رسالتك النبيلة، ووضّحت فكرتك عن الدين والإنسان، وعلمتنا أن الضحك قوة المعرفة، وأداة الحقيقة، وها أنا حزينة جدا لغيابك، ولكنني أعدك أنني سأقترب منك الآن أكثر، وسأتشرب كتاباتك أكثر وأكثر، وسأفنّد أفكارك الكبيرة. فالغياب والحضور يتبادلان الأدوار مع البعض وأنت منهم، وداعا يا اسم وردة الفرح، يا روح السرد العظيمة، ويا صاحب الأثر المفتوح على الزمن والخلود.