منذ عدة أسابيع ، يتظاهر بعض الشباب في وسط العاصمة انوكشوط ، وفي بعض الولايات الداخلية ، احتجاجا علي عدم خفض أسعار كزوال رغم هبوطه عالميا إلي أدني مستوي له ، معتبرين أن في ذلك إهانة للشعب الموريتاني ، وجحافا به وتشديدا عليه في حياته اليومية بغلاء أسعار المواد الضرورية الذي يسببه غلاء كزوال بسبب ارتفاع تكاليف نقل البضائع.
وبعد أن أصبحت تلك الحملة العفوية سياسية بامتياز بسبب استغلال المعارضة لها ، في كل المواقف وبكل الوسائل ، أصبح من الضروري أن نبين قراءة للحدث لم نشأ أنصدم بها المتظاهرين أول الأمر لأنهم كانوا يمارسون حقا عاديا بعفوية .
الواقع أن ما ذهب إليه هؤلاء المتظاهرون لا يجانب الصواب كلا ، ولكنه ليس صوابا كله، فالحدث مهما كان اقتصاديا أو اجتماعيا ، أو سياسيا.... لا مشاحة في أن ينظر من زوايا متعددة ، ولابأس في ان تتضمن كل نظرة إليه جانبا من الصدق ،ونصيبا من الكذب ، فلكل موقف ما يبرره ، وسواء كان مقبولا أم لم يكن مقبولا عند الطرف الآخر فهو موقف مبرر علي كل حال.
وبخصوص عدم انخفاض أسعار البنزين حتي الآن رغم انخفاضه في العالم ، فهي مسألة يمكن أن ننظر إليها من زاويتين : من زاوية فردية (تصور الفرد) ومن زاوية جماعية (تصور الدولة) ، فلاشك أنكم تعلمون جيدا أن الأحداث السياسية المتعلقة بتسيير الشعوب والأمم ، وغيرها من الظواهر ذات الطابع الجمعي، هي في الأصل محل وموضع تجاذب للنظرتين السابقتي الذكر .
وتوضيحا لذلك نقدم المثال التالي : شاب يتعرض للسب ،والشتم ، والإهانة من شيخ مكلف بحماية مكان معين ، وكان الشاب قد خالف فيه القانون أو العرف المتبع ، فقام الشاب إلي الشيخ وصفعه علي الوجه بيده .
هذا الحدث (الصفعة) إذا نظرنا إليها بمنطق الفرد ومعني الفردية ، سيكون موقفنا إلي جانب الشاب الذي تعرض للإهانة ، فهو إذا بفعله ذلك قد غلب الجانب الفردي في نظرته إلي حادثة الشتم والسب ، أما إذا نظرنا إلي المسألة من زاوية جماعية (كلية) فإننا سنقف إلي جانب الشيخ ونشجب حادثة الصفع تلك ، لأن الشيخ بالنسبة لمن هو أصغر منه بمنزلة الأب ، ذلك هو ما تعودنا عليه في مجتمعنا المسلم المحافظ علي القيم السمحة ، ثم إن الشيخ يدافع عن القانون الذي هو في مصلحتنا جميعا ، ومهما أساء في وسيلة الدفاع عنه ، فالأصل في المسألة يظل هو الدفاع عن القانون الذي يجب أن يبقي محترما .
الآن إذا أردنا أن نفهم حقيقة المسألة المثارة حول سعر البنزين ، نقول إنه إذا نظرنا إليها من زاوية الفرد ، فالحق عند أصحاب حملة "مان شار كزوال" ، لأن كل فرد مهما كان فقيرا أو غنيا ، يرغب ويتمني أن تنخفض أسعار البنزين ، فذلك زيادة في الخير والخير يحبه الجميع ، بمن فيهم رئيس الجمهورية نفسه، فرئيس الجمهورية إذا نظرَ إلي المسألة نظرة فرد (شخص عادي ) فإنه يوافق أصحاب حملة "مان شاركزوال" ،ولا يختلف معهم لأن الأحسن لكل فرد يملك سيارة أو لا يملكها أن تنخفض أسعار البنزين .
أما إذا نظرنا إلي المسألة نظرة جماعية ـ وهي الأصوب هنا ـ فقد يكون الأحسن أن يبقي سعر البنزين علي حاله رغم انخفاضه عالميا . أقول (قد يكون) لأني لست متأكدا مما عند الدولة في تلك المسألة ، ولست مقتنعا بالمبررات التي يقدمها المسؤولون الكبار في الدولة للمسألة ،لكنني أفهم شأن الدولة(أي دولة) ،وخصوصيتها في التعامل مع الأحداث والوقائع ،وأنه تكون لها مبررات مقنعة بالمفهوم الجماعي وليست مقنعة بالمفهوم الفردي ،ولذلك ألتمس العذر للدولة الموريتانية ولحكومتها بخصوص عدم خفض أسعار البنزين ، وأري أن له ما يبرره عندهم، والجميع يعلم أن الدولة ـ في العادة ـ ليست مجبرة علي أن توضح كل شيء للشعب .
هناك أمور لن يدرك المواطن بفهمه الذي تطغي عليه النزعة الفردية معناها ، ولن يقبل تبريرها ،والدولة ملزمة بالتجاوب مع المواطن العادي والتحاور معه عندما يحتج ، لكنها ليست ملزمة بتبرير ما تري فيه خدمة حقيقية للوطن ،ولن يفهمه الشعب إلا كفرد ،لا كمجتمع ،ووطن ،ودولة، ولذلك يتقدم المدافعون عن الدولة ببعض المبررات التي لا معني لها ـ كما حدث مع وزير المالية ووزير الإتصال في هذه المسألة ـ مع العلم أنهم يعرفون أنها تبريرات لن تلق تجاوبا إيجابيا من العامة ،وليس أمام الدولة إلا أن تظل تقدم التبريرات الواهية للشعب وتستجديه وتتقرب إليه ، لأنها لا تستطيع قول الحقيقة لهم ، تلك الحقيقة التي تحمل معاني الخير والنفع لهم (الأفراد) كشعب يعيش ، ومجتمع يطمح ، ودولة تنمو.
عندما يستغل المثقفون غضب الشعب العفوي علي قيادته،وهوأمرعادي يحدث أحيانا ،ويستخدمونه وقودا لترجيح كفتهم المعارضة للحكم داخل الشعب،فإنه يصبح من الضروري أن يسعي المدافعون عن النظام والدولة ، حتي البعيدين كل البعد عما يجري في اروقة الحكم ، أن يتلمسوا المبرر الحقيقي في نظرهم للمسألة (موضوع النقاش) ،لينكشف بعض الحق الذي قد يكون له أثر في سد ذريعة انتشار حمي النظرة الفردية إلي المواقف الوطنية في صفوف غير المعارضين من المثقفين.
إن البعض الآن يروج أمورا من قبيل إفلاس الخزينة ، وعجز في الميزانية الميزانية ...وأن الدولة في أسوأ أحوالها ، وأن سياسة التقشف تطرق باب كل مجال ،وتدخل قطاع ، ويتأول ذلك بأن فساد مستشريا في الدولة قد حصل ، ويغض الطرف عن بعض الأمور الواضحُ تأثيرها بالفعل علي الحالة الاقتصادية في البلد ، كانخفاض سعر الحديد في الأسواق العالمية ...
ننبه هنا إلي مجموعة من التناقضات يقع فيها المناهضون للنظام الحالي
إذا كانت الدولة تعاني من ضائقة مالية، بغض النظر عن سببها ، فيجب ألا يعيب المواطن عليها سياسة التقشف ،وعليه ألا يعيب عليها محاولة تفادي العجز عن تسديد رواتب الموظفين،ولو بفرض مزيد من الضرائب، لأن المعول عليه في الأصل عند الأزمات التي تتعرض لها الدولة(أي دولة في التاريخ ) ،هو المواطن : بمساعدته المالية ،أو بحسن تحمله، فالدولة لابد لها أن تبقي كبيرة في عيون المواطنين والموظفين ،عليها أن تتفادي ظهور أي دليل واضح علي حصول العجز مهما كان سببه حتي ولو كان فسادا .
ليس من مصلحة المعارض لفرط كرهه للنظام أن يسعي إلي ظهور تخبط الدولة في عجز مالي ، لأن ذلك يسقط هيبتها عند المواطنين ، ولن تقوم لها بعد ذلك قائمة ، فكلما حصلت ضائقة للبلد ـ مستقبلا ـ سواء في ظل قيادة أحد الذين كانوا معارضين سابقا ، سينتفض الشعب ضد الحكومة ، لأنه تعود علي ذلك من قبل.
من يتظاهرون الآن في حملة "مان شار كزوال" من سياسيين كبار ،ومن يدعمونهم بتصريحاتهم ، هم أدري مني بهذا المعني ، وأعرف مني بوقوعهم في تناقض صارخ ، إن كانوا حقا يعتبرون أنهم مواطنون مخلصون لبلدهم ، أما إذا كانوا غير ذلك فهم لا يتحملون أي مسؤولية ، ولا داعي لإظهار تناقضهم ، لأن ما قاموا به من دعم تلك الحملة لا يناقض هدفهم!! .
كيف يتصورون أن الدولة في حالة عجز ، ومع ذلك يسدون عنها كل الأبواب ، ويمنعون عنها أسباب التغلب علي ذلك العجز ؟!!.
البعض يري أن عدم خفض أسعار البنزين هو ضريبة علي الاستهلاك ، وأنها غير قانونية ، ومعني ذلك أنه لا يريد للدولة أن تسد عجزهاـ إن كانت عاجزة ـ بالاعتماد علي النفس (أي من داخلها) ، والبعض الآخر يشهر بها ، قائلا بأنها دولة تعتمد علي سياسة التسول (سؤال الدولة ودولة السؤال ) تَحْضُر المحافلَ الدوليةَ للتسول ويدعم منشوره بصورة إناء المتسول في الشوارع (أكدح طلاب الصدقة) مما يعني أنه ينظر إلي الأمر نظرة الفرد الأمي الجاهل بالشأن العام و إكراهاته ، وهو من يحمل لقب الدبلوماسي ، لكنه الدبلوماسي الذي لا معني له، ولا وجود دون دولة السؤال تلك!!.
إن هذه الدولة الفالسة !!ـ حسب ما تقولون ـ محاصرة ، لا تريدون لها إلا أن تنتهي ، لا تريدونها أن تنهض من جديد وتواجه أزمتها ، وتتغلب علي عجزها ،وأنتم أبناءها الذين تقدمون أنفسكم علي الدوام لحمل أمانتها !!!.
إنه أمر غريب جدا ،أن تحاصر دولة بكاملها من قبل بعض النخبويين والسياسيين من أبنائها ،فيعاب عليها اتخاذ أي إجراء سيمنع تخبطها في عجز مالي خطير، أو يخفف منه سواء كان داخليا أو خارجيا، ويُشهَرُ بها في وسائل الإعلام ، بالتشويش علي سمعتها ،وكرامتها ،وهيبتها ، بافتراءات لا معني لها ، وبتقصي ونشر ،وتمجيد ، خبر كل أجنبي ينشر عنها ما يسيء إلي سمعتها في وسائل الإعلام الخارجية !!.
الواقع أن موريتانيا الآن لا تعيش أزمة مالية ـ كما تروج المعارضة ـ حيث لا يوجد دليل علي ذلك ، لكن مصادر الدخل القومي للبلد ليست اليوم بأحسن حال ـ كما كانت في الماضي القريب ـ ولابد أن تتأثر من ذلك الوضعية المالية للبلد ، ومعني ذلك أن ما تقوم به الدولة الآن مما يٌري أن سببه العجز المالي ،سواء كانت سياسة التقشف أو عدم تخفيض سعر البنزين ، فإنما يعود إلي محاولة الدولة الاستمرار في ما عودت المواطنين عليه من القيام بإنجازات كبيرة في مختلف الميادين تكون بادية للعيان ، وواضحةُ جدوائيتها للعامة من الناس ، وهو الأمر الذي لم تعد الآن عائدات البلد ...قادرة علي التمكين منه علي الوجه الأكمل .
وبما أن الدولة في صراع حاد مع المعارضة التي تحاول بكل جهودها أن تستقطب الشعب ، فإنها لن تألو جهدا لتبقي كما كانت موضع ثقة الشعب ، خادمة لا تمل خدمته ، قوية لا تخشي شيئا ، ولا يعجزها أمر يخدم الوطن والمواطن علي حد سواء .
إن الذين يشنعون امتناع الدولة عن تخفيض أسعار البنزين ، من المثقفين والسياسيين الكبار، هم في أحسن الأحوال،يفهمون الدولة والوطن فهما سلبيا تجزيئيا (فرد +فرد + فرد = مجتمع) يتحدثون عن المواطن ، وينسون الوطن ، وكأنهم مواطنون دون وطن .
أن تُعطي الدولة لكل مواطن 200 أوقية ـ مثلا ـ تنزعها من سعر البنزين ، خير له منها أن تصرف ذلك المبلغ في (النهوض بالبنية التحتية ) تجهيز مستشفي، أو بناء آخر ، أو ترميم طريق، أو شق أخري ، أو بناء مدرسة ، أو ترميم أخري ، أو توفير مياه الشرب من باطن الأرض ، أو إنارة بلدات لم تري النور بعد ، أو ....أو .... أو من مسائل مازالت الدولة بحاجة ماسة إلي أن تصل فيهم المستوي الذي يمكن السكوت عليه، رغم انشغالها به في الآونة الأخيرة، بفضل السياسة الرشيدة للرئيس محمد ولد عبد العزيز.