قراءة أولية في مشهد إقالة الزند

اثنين, 2016-03-14 00:51
عبير ياسين

لا يمكن القول إن فصول قضية المستشار أحمد الزند وزير العدل المصري المقال قد انتهت، وإن الستار أسدل على وجوده في المشهد السياسي بشكل نهائي. أما السبب الذي يدفع إلى قول هذا فيرتبط وبدرجة كبيرة بقصة صعوده ومشهد خروجه من المنصب الذي وصل إليه في ظروف كان يفترض – إن كنا في دولة تحترم مواطنيها- ألا يتم اختياره فيها.
خرج الزند من السلطة بقرار إقالة وليس استقالة، بما أثار فرح معارضيه وغضب مؤيديه، وفي معركة تبدو غير كافية لتبرير فكرة الإقالة مقارنة بتاريخ الزند ومواقفه. وعلى الرغم من أن معركة الخروج ارتبطت بقضية ازدراء الأديان والتجاوز في حق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، إلا أن الحدث بظروفه وملابساته كان يمكن تداركه، إن كان لدى النظام الرغبة في الحفاظ على الزند في المشهد القائم.
ورغم أن فرح البعض بخروج الزند مرتبط بتراكم ممتد من التصريحات والمواقف التي تجاوزت الكثير من الحدود، بما فيها التأكيد على الفوقية الطبقية للقضاة وأسرهم، والدفاع عن التوسع في القتل انتقاما لقتلى الشرطة والجيش، ومحاسبة أسر المتهمين بالإرهاب بشكل يتجاوز القانون الذي يفترض أن يمثله، والعدالة التي تولى مسؤولية وزارتها، إلا أن الزند خرج سالما من تلك الأحداث، ولسان حال السلطة أن أسلوب الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك في الحكم من خلال «العند» والإبقاء على الشخصيات التي تثير الغضب وعدم الاستجابة لرغبة الجماهير لازال مستمرا.
كان مبارك يؤكد أنه المنتصر في صراع القوة بينه وبين الجماهير، واستمر النظام القائم في اتباع الآليات نفسها، وبعد أن قبل استقالة وزير عدل لأنه أقر بحالة الطبقية القائمة في القضاء، اختار الزند الذي لا يرى فقط وجود الطبقية، ولكنه يصر على فوقية القضاة كونهم «الأسياد وغيرهم عبيد».
جاء اختيار النظام واضحا، فإن كانت تصريحات وزير قد أثارت غضبا شعبيا ما، فإن التغيير الناتج يجب ألا يأتي كما يريد المواطنون. وإن كانت الثورة في أساسها تعبيرا عن الغضب والرغبه في التغيير، فمن الطبيعي أن يؤكد النظام على مساوئ التغيير، وأنه ليس دوما إصلاحا، وأن ما نعرفه أفضل من مجهول لا نعرفه، في رسالة تستهدف 25 يناير.
جاء الزند للمشهد محملا بحقيبة ثقيلة من المواقف والتصريحات التي تجعله أكثر وضوحا من غيره في التعبير عن مواقفه، وبهذا لم يكن قرار الاختيار إدانة له، ولكن لمن قام باختياره رغم تلك الحقيبة. كما مثل الزند جزءا أساسيا من جوهر التحالف المكون لكتلة 30 يونيو. تلك الكتلة التي مثلت النواة، في حين مثل الشعب المفوض والمؤيد الكتلة الصلبة الحامية، التي لا يمكن الاستمرار بدونها، كما تؤكد تصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي.
أعتمد تحالف 30 يونيو على الكثير من الأسس من أجل البقاء والحفاظ على القدر اللازم من التلاحم، الذي تراجع مع الوقت، وبدأ في فقد بعض الاسماء التي مثلت ثقلا لا يمكن إغفال أهميته في البدايات مثل، محمد البرادعي. ولكن رغم غياب بعض الاسماء التي ارتبطت ببداية التشكل عبر الوقت، استمر التحالف قائما، وبدا أن الاهتمام يتحول أكثر للتركيز على السيسي بوصفه جوهر ونواة كتلة 30 يونيو، والجماهير المفوضة والداعمة بوصفها الكتلة الصلبة.
بدا واضحا أن مركزية السيسي في المشهد ليست مجرد جزء من خلق حالة الزعيم فقط، ولكن حالة التفرد بالزعامة. حالة لا تحتاج للكثير من الاسماء حوله، ولكن تحتاج لاسماء محددة تمارس دورها من أجل تأكيد حالة التفرد، والعلاقة الخاصة التي تجمع بين المركز- الفرد والكتلة الصلبة – الجماهير كونها علاقة مباشرة لا تحتاج لخبراء أو محللين، ويمكن أن يكتفي فيها الجماهير بالاستماع لصوت السيسي وحده والثقة فيه وفي رؤيته وقراره منفردا بوصفها الرؤية الوحيدة الصائبة والوطنية.
تلك المركزية لدور السيسي تظهر واضحة في تعامل بعض الوجوه الإعلامية مع الغضب والأخطاء التي تحدث، والتي يتم الربط بينها وبين شخصيات ثانوية أو تالية للرئيس، في الوقت نفسه الذي يتم فيه التأكيد على تفرد الرئيس كونه الوحيد الذي يعمل ويراعي الوطن والمواطن، وأنه على صواب ومن حوله على خطأ، مع عدم تحميله مسؤولية اختيار الاسماء التي تحيط به أو الحفاظ عليها رغم الاخطاء. ولكن مع الوقت ظهر واضحا أن وعود ما قبل السلطة بعيدة عن الواقع، وان تنفيذ انتصار تنموي حقيقي قضية ليست بسهولة افتتاح مشاريع قومية جديدة أو الإعلان عن ضرورة الصبر وانتظار العسل المقبل.
بدأت الثقة في وعود الرخاء تتآكل بحكم المدة وعدم التحقق، في الوقت نفسه الذي ازداد فيه الغضب وارتفعت أصوات تؤكد على أن الفجوة بين الحاكم والمحكوم لازالت واسعة وتتسع، وأن حديث النظام عن محدودي الدخل لا يرتبط بتحسن حقيقي في ظروف حياة عموم الشعب. أما حديثه عن العدالة الاجتماعية فيرتبط بالمزيد من المميزات لأصحاب الثروات.
لم تكن السجادة الحمراء التي تناقضت مع مشهد افتتاح مساكن لأصحاب الدخل المحدود، والحديث عن تخفيضات أخرى في الدعم سوى لقطة ضمن شريط عرض مستمر من الاخطاء، سواء المرتبطة بالفعل أو القول مثل حديث أبيع نفسي وصبّح على مصر برسالة.
في السياق نفسه بدا واضحا أن البرلمان الذي حرص السيسي على تقديمه بوصفه تدشينا لتحقق الديمقراطية ليس إلا نقطة انفصال أخرى عن الواقع. انفصال يظهر واضحا في مطالب تعديل الدستور قبل احترامه، ومطالبة أحد النواب بعدم أداء أبناء الأغنياء للخدمة العسكرية مقابل دفع أموال للدولة، في مساس واضح بقيمة ومكانة وعقيدة الجيش، وغيرها من القضايا التي تبدو بعيدة عن أولويات الجماهير، وتتعامل مع المجلس بوصفه ساحة لمنافع ولتقنين وضعية طبقية ونظام يحكم على حساب الشعب وليس من أجله بالضرورة.
تصاعد الغضب وعدم القدرة على تقديم مشروع تنموي حقيقي وإنجاز واضح، كان من الطبيعي أن يدفع النظام لتغيير آليات التعامل مع المشهد، عبر التخفف من بعض الأسماء التي تزيد العبء على ما بقي من تحالف 30 يونيو ويساهم في حماية صورة النواة – الفرد. تحرك يظهر أن النظام يستجيب للجماهير ويضحي بشخصيات مهمة في كتلته، من أجل ما يفترض أنها قيم كبرى فيتم إخراج توفيق عكاشة باسم التطبيع، والزند باسم حماية الدين والانتصار للرسول صلى الله عليه وسلم. قضايا تطيح بشخصيات تحولت لأعباء في قاطرة النظام، وتضيف له بعض الشعبية السهلة، بدون إنجازات حقيقية، وفي الوقت نفسه لا تضع سوابق يمكن الاحتكام إليها في محاسبته. ويصبح من الطبيعي ألا تتم محاسبة الزند على مواقفه السلبية من الحقوق والحريات والكرامة والعدالة الاجتماعية، لأن تحقيق العدالة والديمقراطية ليست أهدافا حقيقية للنظام الحاكم الذي يعتبر البرلمان آخر مراحل الديمقراطية، والتفويض قمة الوطنية والاستماع للحاكم منفردا قمة الحرية.
التخفف من تلك الاسماء باسم التطبيع والدين قدم فرصة للنظام لتحقيق مصالح بدون تحمل مخاطر ضخمة، على الأقل في المدى المتوسط، في ظل وجود أنصار لكل طرف ومصالح سيتم الدفاع عنها في المدى القصير، كما يظهر من تصريحات عدد من القضاة والجهات الرسمية المعبرة عنهم.
يقدم مشهد إقالة الزند وقبله إبعاد عكاشة صورة واضحة للثمن الذي يمكن أن يدفعه من يتصور أن مشاركته في 30 يونيو، والأدوار التي تولى القيام بها -مهما كانت- كافية وقادرة على حمايته ضد غضب النظام. فلحظة السقوط تقدم رسالة للجميع أن هناك مقصلة يمكن بسهولة أن تسقط الشخص من مكانه، إن حاول الارتفاع لها أو زاد من حالة الغضب أو تصور أنه جزء أصيل لا يمكن المساس به أو استبداله.
قد يغيب الزند أو يعود عبر منصبه القضائي، ولكن النظام لم يدشن بتلك الإقالة عملية تغيير في الأولويات أو الأهداف. هي معركة داخلية في كتلة 30 يونيو ومن يتحدث باسمها ومن ارتبط بها، ولكن أسلوب الحكم بعد الزند لن يكون أكثر ديمقراطية عن أسلوب الحكم في وجوده. وفي كل هذا من الضروري تذكر أن حقيبة عكاشة وحقيبة الزند كانت واضحة وشفافة، وكان من المعروف ما الذي يحمله كل منهم معه ويدخل به كتلة يونيو أو الحكومة، وبشكل واضح لم يكن قرار الإبعاد مرتبطا بالحقيبة، ولكن قرار الدور والتكليف كان مرتبطا بها. ومن يعترض على الحقيبة ويشكر النظام على إبعادها، عليه أن يحاسب النظام على اختيارها وعلى حمله لمكوناتها نفسها.
ربما يفرح البعض لغياب الزند، كما فرح البعض لغياب عكاشة، وينتظر البعض تغييب غيرهم، لكن في حساب مصر تلك معارك الهوامش داخل الكتلة التي ترى أن لها نصيبا في الحكم مقابل الفرد الذي يرى أن الأساس هو التفرد بالحكم. ولمصر فإن الفرح الحقيقي هو غياب تلك الحقيبة والآليات التي تتعامل بانتقائية وتعلي الطبقة على الشعب، والحاكم على الدولة، والزعيم على الحريات والعدالة الاجتماعية.