عملية «فرم» الزند

أحد, 2016-03-20 01:20
عبد الحليم قنديل

بعد ثلاثة أسابيع لا غيرعلى تولي أحمد الزند حقيبة وزارة العدل، استضافني مقدم برنامج تليفزيوني رمضاني بقناة «سي. بي. سي»، وسألني أن أوجه عبارة للزند الوزير الجديد وقتها، وما كان إلا أن قلت له عبارة من كلمتين لا غير، قلت للزند ببساطة «وزارتك نهايتك»، وقد كان، وجرت عملية «فرم» الزند بعد عشرة شهور من تنصيبه حاكما بأمره.
وبالطبع، لم أكن أضرب الودع ولا أقرأ الرمل، بل كنا نخوض معركة حق وعدل، وننطلق من إيمان عميق بقضية الثورة اليتيمة، و«نخاوي» الحس الشعبي الذي لا يكذب أبدا، وكما توقعنا خلع مبارك قبل ذهابه بسنوات، وتوقعنا عزل مرسي قبل 30 يونيو 2013 بتسعة شـــــهور، فقد توقعنا فرم الزند بسلطة الرأس العام، ومع أول يوم لتنصيبه الصادم وزيرا للعدل، وصفنا القرار الرئاسس وقتها بأنه «حكم إعدام للعدالة» بنص عنوان مقالنا الافتتاحس للحملة، ثم توالت القذائف، من مقالنا المعنون «دولة أحمد الزند» إلى مقال «موسم تكريم الفساد»، وإلى كشف منتظم دؤوب موثق عن فساد اختيار الزند، وتضخم ظاهرته، و»ألبوم» صوره الموحية بوضع شائه، وتجاوزاته ومخالفاته المسكوت عنها، التي فضحها الزميل محمد سعد خطاب في سلسلة تحقيقات مثيرة، وإلى أن وضعناه على رأس «عصابة تشويه السيسي» قبل أسبوعين من قرار عزله و«فرمه» الأخير، فلم يكن الزند مجرد عنوان ظاهر لسيطرة الفلول في الحكم، بل كان عنوانا للفظاظة والغلظة، وللجبروت و«الجهـــــلوت» المسيطر على المشهد اليومي في الإعلام، ولم تكن جريمته الكبرى في ازدراء الأديان، وفي الزراية بمقام النبي محمد (ص) خاتم المرسلين وسيد الأنبياء، بل كانت في ازدراء الإنسان والأوطان قبل الأديان، وكان مجرد تعيــــينه إهانـــة لمصر قبل وبعد إهانة ثورتها، كان الزند وجها «عكاشيا» للقضاء المصري، تماما كما كان توفيق «عكاشة» ـ أصـــل التشبيه ـ هو المادة الخام للجهالة النشيطة، وللتبجــــح والادعاء الفضائحي المدمر لسمعة البلد، كان مثالا لفضـــيحة انتهـــت بخيانة، وبشكة دبوس فثأت الفقاعة، ثم ضاع «العكش» تحت ركام الأحذية، وذهب ضحية الهوى «الإسرائيلي» ولقاء الخيانة مع سفير العدو الأبدي، وهي حالة مشابهة لما انتهى إليه الزند في سيرة ازدراء العدالة وحقوق المصريين، فكما دفعته العجرفة إلى إهانة النبي، فقد دفعه الهوى «الإسرائيلي» الكامن قبلها إلى احتذاء سلوك عدو الأمة، وجعله غاية ومثالا يقتدى، فقد طالب الزند ـ في نوبة عجرفة ـ بإعدام آباء وأمهات وأسر «الإرهابيين»، ولم يكن ذلك في «زلة لسان» عابرة كالتي مست النبي، واستغفر واعتذر عنها فيما بعد، بل في مقام التصريح الرسمي، وفي لقاء مع مسؤول كويتي زائر، قال الزند ما قال قاصدا متعمدا، وبدون أن يرمش له جفن، وهو الذي يدعي ثقافة دينية أزهرية، وسبق أن ارتدى «الجبة والقفطان» في رحلة عمل غامضة بدولة خليجية غنية يهرب إليها الآن، وهو ما قد يوحي بثقة في تدينه أكبر من الثقة في قضائه، ثم تكشف مع «شيخوخة» الزند هوان «مشيخته»، وأن الرجل لا يفقه في أمور الدين ولا في اعتبارات القضاء معا، وتصريحه الرسمي جعله في وضع الذي ضبط «متلبسا» بجرم ديني وقضائي، فأبسط أبجديات الدين أنه «لا تزر وازرة وزر أخرى»، وأبسط بديهيات القضاء أن «العقوبة شخصية»، وليست عشوائية ولا عائلية ولا بالكوم، كما ذهب الزند في التصريح الوحشي العبثي، الذي لا يطبق مقتضاه أحد في هذا العالم سوى قوات الاحتلال الإسرائيلي، وهي تعاقب عائلات «الفدائيين» الفلسطينيين، وتهدم بيوتهم وتشردهم، ولا تكتفي بقتل الفدائي الذي تسميه «إرهابيا»، وهكذا بدت «عكاشية» الزند بهواها الإسرائيلي في العقل الباطن، قبلها كان له تصريح «عكاشي» أفظع، يزدري الدين والقضاء بالجملة، فقد كان يقدم نفسه كفتوة و»قبضايا» في الحرب ضد إرهاب الإخوان، ولا ينقصه سوى أن يضع شارات جنرالات الشرطة على كتفه، تماما كما كان توفيق عكاشة يتصور نفسه، فقد كان كلاهما يصف نفسه، أو يصفه مشايعوه، بأنه «مفجر الثورة»، بينما لم يكن للزند ولا لعكاشة سوى وصف وحيد يليق، وهو أن كلاهما «يفجر نفسه»، ويدفعه الهوى ـ بالعجرفة و»الجهلوت» ـ إلى الصعود السريع نحو الهاوية المستحقة، فقد أخذت الزند العزة بالإثم، ودفعه انتفاخه المرضى لطلب قتل عشرة آلاف «إخواني» مقابل كل شهيد يسقط من الشرطة، وضرب ـ مثلا ـ بقتل أربعين شرطيا في سيناء، وهو ما يعنى كما قيل وقتها، أن الزند طالب بقتل 400 ألف «إخواني»، وكما بدا التصريح متعجرفا مستهينا بالعدل وحياة الناس، وبالمبدأ الديني والقضائي البديهي، «العين بالعين والسن بالسن»، فقد كانت تلك طريقته العنصرية الفجة اللامبالية بالشعب المصري وتقاليده المتحضرة، ومن أول تصريحاته عن «توريث وظائف القضاء»، وإلى تصريحه الأشهر «نحن السادة وغيرنا العبيد»، كانت هذه الكلمات وأمثالها من أرشيفه الفظ، وقيلت ونشرت قبل تولية الزند لوزارة العدل، وكانت كافية جدا لحرمانه من اعتلاء منصة القضاء، لا أن يتم اختياره وزيرا، ولا أن يكلف بإعداد تشريعات معيبة نصا وفصا، موصومة بعدم الدستورية كقانون مكافحة الإرهاب، أو مشوبة بهوى «تقنين الفساد» على طريقة تعديلات قانون الكسب غير المشروع، أو راغبة في تحصين وتكريم الفساد والفاسدين، وحمايتهم من التعقب والمطاردة، كما في تعديلات قواعد تعيين وإقالة رؤساء الأجهزة الرقابية الكبرى، وبنية كان يعلنها الزند بغير مواربة، هي تسهيل العصف بالرئيس المحترم لجهاز المحاسبات.
والمعنى بوضوح، أن جريرة الزند ليست موقوفة على إهانة اسم النبي، وعلى طريقة «لو كان النبي ها حبسه»، التي اعتذر واستغفر عنها، ووصفها بأنها «زلة لسان» جرى استدراجه إليها، وكانت القشة التي «قصمت ظهر البعير» كما يقول المثل العربى القديم، فقد كان الزند في طريقه إلى «المفرمة» بإساءته إلى النبي أو بغير الإساءة، وكان قد تحول إلى عبء لا يطاق على سلطة الرئيس السيسي الذي عينه، وكان لابد من «فرمه» والتخلص منه، فقد تحول إلى مركز قوة وجيب نفوذ متضخم، وإلى نقطة استقطاب لجماعات الفلول، ولمصالح «رأسمالية المحاسيب» الغارقة بالفساد، وللإعلام الملوث، الذي يملك مليارديرات النهب غالب قنواته وصحفه ومواقعه الإلكترونية، وكانت قصص المصالحات في جرائم النهب العام هي كلمة السر في غرف العفن، فقد كان الزند لا يخفى هواه الفلولي، ويتخفى وراء لافتة «العداء للإخوان» كما يفعل الإعلام الفلولي في العادة، ويهون من خطر الفساد قياسا إلى خطر الإرهاب، ويصور نفسه كزعيم سياسى وقطب نظام، استقطب بالامتيازات المفرطة فئات غالبة في السلك القضائي، وانتدب مئات القضاة في وظائف كبرى برواتب ضخمة في وزارة العدل، ودفعه إحساسه بالتضخم إلى العناد في لحظة «الفرم»، ورفض التنفيذ الفــــوري لأمر الاستقالة الذي أبلغه به رئيس الوزراء، الذي طلب منه أن «يلم الدور» على حد التعبير السوقي اللائق في مخاطبة أمثال الزند، وبعد ثلاث ساعات لاهـــــثة، صدر أمر الإقالة الفورية، وفي ديباجة القرار المنسوب لرئيس الوزراء إشارة صريحة، ونص على كونه أتى بناء على ما «وجه به رئيس الجمهورية»، وكانت تلك العبارة هي نهاية محاولة انقلاب صغيرة لأنصار الزند، الذين بلغــــت بهم الجرأة والوقاحة حد إصدار بيان يرفض عزل الزند باسم «نادي القضاة»، وكأنهم يصنعون للرئاسة قراراتها (!)، كان الزند في حالة ذهول، لا يصدق ما يجري له، ولم يجــــد في قصر الرئاسة من يرد على توسلاته، ولا نفعت شفاعة شيخ الأزهر فيه، وانتهى إلى مصير الذبح بالسكـــين البارد، و«لم الدور» فورا، وتركه أنصاره للمصير البائس، الذي ينتظرونه بدورهم، وعادوا للصمت كموظفين صغار يتخوفون من مصيرهم بعد الزند، ويعرفون طريقة الدولة المصرية حين تأخذ قرارها بيدها، فالملفات جاهزة، وكواليس ما جرى في المصالحات إياها تحت الفحص والتدقيق، وهي لم ترد للدولة مليما، بل أعطت جوائز الحصــــانة للفاسدين، وجرت فيها مساومات وصفقات مذهلة، شارك في بعضها شخص من أرامل الزند، موبوء ومشهور ببذاءاته «السكسكية»، وهو ما يفسر صيحات الغضب التي توالت في إعلام مليارديرات النهب، وقول مذيع ـ بدرجة أمين شرطة ـ «أخطأت ياسيسي» منددا بقرار إقالة الزند، بينما قرار الرئيس بإقالة الزند و»فرمه» في محله تماما، وهو مجرد تصحيح لخطأ قاتل شوه وجه السيسي قبل غيره، واستنزف شعبيته، فلم يحظ قرار للسيسي بارتياح شعبي كما جرى مع إقالة الزند، ولم يفرح المصريون منذ خلع مبارك وعزل مرسي، كما فرحوا بقرار «فرم» الزند، الذي كان مقررا له أن يتم مع التعديل الوزاري المقبل، لكن عجرفة الزند أوقعته في الكمين، وعجلت بساعته.