في تأميم «تحيا مصر»

اثنين, 2016-03-21 00:13
عبير ياسين

عندما اعترض نجيب ساويرس رجل الأعمال المصري في تدوينة ساخرة على تويتر من قرار الفنان هاني شاكر نقيب الموسيقيين إلغاء إقامة حفل موسيقي، قيل إنه لعبده الشيطان، لم يكن من شاكر إلا الرد بتأكيد أن عدم الحصول على التصاريح اللازمة هو سبب الإلغاء، منهيا رده بعباره تحيا مصر.
توقفت كثيراً أمام الحدث، بسبب إدخال عبارة «تحيا مصر» بالطريقة التي تمت بها، والتي تعد جزءا أساسيا من عمليه تأميم الشعار وفرز من مع مصر ومن ضدها. من وجهه النظر الرسمية التي حولت الشعار إلى سلاح يتم إلقاؤه في وجه كل من يعترض أو ينتقد، فإن تقذف بشعار «تحيا مصر» يعني ضمنا أن المتحدث وطني وغيره عدو وعميل لا يعمل على أن تحيا مصر، ولكن يعمل على هدمها كما يتردد في الخطابات الرسمية بصور مختلفة. تجاوزت «تحيا مصر» وفقا للطريقة المستخدمة التعبير عن الرئيس عبد الفتاح السيسي وحملته الانتخابية، إلى التعبير عن فكرة العالمين أو الشعبين، التي تردد الحديث عنها في مرحلة ما بعد جريمة رابعة العدوية وما أحيط بها وبعدها من تجاوزات.
أصبحت «تحيا مصر» هي السلاح الذي يمكن أن تقذف به الأعداء والمعارضين، وأن تبرر به القتل وهدر الحقوق والحريات، لأنها تتم ضد من لا يستحق الحقوق والحريات والحياة ذاتها، بافتراض أنه مجرد عميل أو خائن تنتفي عنه صفه الإنسان ويطالب البعض بأن تنزع عنه الجنسية أيضاً استكمالا لحلقات الفرز القائمة.
أصبح التعامل مع شعار «تحيا مصر» من قبل عدد أكبر وفي أحداث صغيرة، مثل رد نقيب الموسيقيين، تعبيرا واضحا عن محاولات توسيع التأميم الذي يتم للعبارة، وكأنها تخص فئة واحدة لا يفترض أن تناقش أو تجادل أو تحاسب، ولسان الحال أن كل طرف في مقعده يريد أن يكرر مع الرئيس «اسمعوا كلامي أنا بس»، بافتراض أنه «يعرف المرض والعلاج» ووحده يستيقظ في الخامسة صباحا من أجل التفكير في هموم مصر، التي يتحدث عنها ويراها وفقا لرؤيته الخاصة، التي يجب ألا تخضع للنقاش أو المساءلة.
تتحول «تحيا مصر» إلى ثقب أسود يمكن أن يتم القذف فيه بأي حدث وأي شخص من أجل نسيان القضية محل النقاش، من خلال إعاده تصنيفها وفقا لثنائية وطني وعميل. ويكفي اي مسؤول عند مناقشة اي قضية، وأي ضيف في سجال إعلامي أن يردد الشعار المفتاحي، حاسما المعركة لمصلحته ومهمشا قيمة القضية محل النقاش، أو الاعتراضات المقدمة بوصفها تعبيرا عن رأي أعداء الوطن.
وفي وسط جهود التقسيم تلك، لا تتوقف جهود إحياء مكانة الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك وعائلته، وخلق حالة غير مقبولة من التعاطف ونسيان كل ما ارتكب خلال عقود في حق الوطن والمواطن. وكما كررت صحيفة خاصة خطاب الألم والمعاناة النفسية التي يعيش فيها مبارك قبل محاكمته، متحدثة عن الشيب وكبر السن الذي ظهر عليه بشكل مفاجئ وشعوره بالحزن، لأن الشعب ينكر جميله وأفضاله، تعود الصحيفة نفسها لتتحدث عن حالته الصحية ورؤيته للوطن ومستقبله ونصائحه للشعب واحتفالات زوجته - السيدة الأولى- بعيد الأم.
لا تجد تلك الصحيفة أي عيب في تمرير أكاذيب واضحه تتناقض مع الواقع، كما ظهر في محاكمة مبارك والنظاره الشمسية والشعر المصبوغ، ولا في تجربته في الحكم التي كانت تكفي لوضع الكثير من الخطط التنموية والإصلاحية على الأرض، وتتجاوز عن فساد الماضي بتقديمه الأكثر علما ودراية بحال مصر، والأكثر قدرة على التنظير لها، لأنه يعرف خطر الإخوان.
تكتشف أن «تحيا مصر» هو حديث عن مصر بلا إخوان وبلا معارضة وبلا نقاش وبدون ملامح اخرى واضحة. يصبح من السهل تجاوز عقود الفساد والإفساد التي أوصلتنا الى ثورة 25 يناير، كونها حالت دون وصول الإخوان للسلطة. ويصبح من السهل تمرير فساد جديد وظلم مستمر ومستحدث بالشعار نفسه، وكأن علينا أن نسير دوما في حلقات مفرغة لا تصلح ولا تصل للوطن الحقيقي.
يبدو الوطن المقصود ضيقا ونتاجا طبيعيا لعملية بناء وترسيخ مستمرة لعالم ما بعد التفويض، حيث هناك شعب مؤيد ضمن «تحيا مصر» يحق له الحياة، وشعب معارض وخائن يستحق كل الشرور. لا يتحدث أحد عن شكل الحياة المفترضة للشعب الاول، التي نرى الكثير من تفاصيلها على الارض، في حين يظهر التضييق واضحا ضد الشعب الثاني.
يصبح من السهل أن ينتفي الحوار والنقاش ويرتفع دليل الوطنية الأجوف مع ترديد الشعار في نهاية كل عبارة، حتى يشعر الآخر بالخوف والتهديد وخطر الدخول في المحظور والسقوط في فخ الخيانة. اتهام لا ينجو منه أحد حتى الاتحاد الاوروبي، الذي تعامل البعض مع انتقاداته للأوضاع في مصر، عقب تناول قضية مقتل الطالب والباحث الايطالي، بوصفها مجرد اشاعة وتآمر من الإعلام المأجور لتشويه صورة مصر بطريقة إنكار البعض لوجود السجادة الحمراء والتعذيب وتقييد الحريات. أما من اعترف بوجود الانتقادات فاعتبرها تعبيرا عن الاختراق الإخواني، وإن من كتب التقرير ينتمي للجماعة أو قبض منها.
تظهر مساحة أخرى لتهافت خطاب لا يعرف إن كان عليه أن يضخم الإخوان ويؤكد نجاحهم، لدرجة الوصول لساحات فشل النظام بكل آلياته وقنواته ودبلوماسيته في الوصول لها؟ أم يقلل منهم ويؤكد على اتفاق العالم على وجهة نظره، وأنهم مجرد جماعة إرهابية، وأن محاربة الإرهاب يجب أن تتم على حساب الحقوق والحريات؟ وفي الخلفية يتردد خطاب إعلامي يؤكد أن مصر ليست سويسرا ولا يفترض أن تحاسب بمعايير عالمية إنسانية ولكن بمعايير الحرب على الإرهاب.
يتم التجاوز عن حقيقة أن مصر لم تتحول إلى سويسرا حتى في غياب تهديد الإرهاب، لأن النظام الحاكم كان يجد المبررات والدعم الكافي لتغييب الحريات، باعتبارها لا تتناسب مع الخصوصية الثقافية ولا تناسب المواطن المصري. وفي النهاية هناك دوما من يعمل من أجل ترسيخ خطاب ومبررات النظام ضد حق الوطن في الحرية والعدالة، حتى إن ظهر أحيانا في ثوب المعارض.
وفي الواقع نجد أن الإرهاب الذي يقدم بوابة لشرعية منهج النظام، لازال يُسقط شهداء جدد في سيناء وغيرها، ويتم التعامل معه بالطريقة نفسها التي لا تعترف بوجود مشكلة في الأسلوب القائم. يسقط 18 من أفراد الشرطة شهداء، في كمين بسيناء. ويؤكد عيسى الخرافين كبير مشايخ سيناء على ضرورة تجفيف منابع الإرهاب باعتبار «أن الفقر والجهل مستنقع الإرهاب» مع الإشارة لاستمرار سيطرة الخطاب المتشدد على المساجد في غياب الدولة. لكن يتم التجاوز عن معظم ما قال وإبراز سيطرة المتطرفين على المساجد بوصفه العنوان الأبرز، مع خطاب مكرر عن مسؤولية أبناء سيناء عن الإرهاب. ومع تركيز الإعلام على تهميش مسؤولية الدولة تظهر تعليقات تنتقد ثورة 25 يناير، واستمرار الحديث عن الديمقراطية والحريات باعتبارها مسؤولة عن الجريمة، بدون مساءلة الدولة ومؤسساتها عن دورها في المواجهة وعن الأخطاء الأمنية، رغم رفع شعار لا صوت يعلو فوق صوت الحرب على الإرهاب.
يظهر واضحا كيف أن تأميم شعار تحيا مصر يسهل الأمور للسلطة ويساعد في الفرز، وفي تحميل المسؤولية عن الأخطاء لكل القيم الكبرى التي تلصق بيناير، وكأنها جريمة يجب المعاقبة عليها وليست حقا يتجاوز يناير واللحظة والأشخاص ويلتصق بالإنسان. تتذكر مواطنا تونسيا بعد الثورة وهو يتحدث بصوت مرتفع أثناء حظر التجوال في شوارع خالية، ومواطني مصريا يتحدث عن سعادته لقدرته على السير في مناطق كانت مغلقة قبل الثورة، وتكتشف كيف يتم العودة للوراء مرات، سواء بالتأميم المادي أو بالتأميم المعنوي. نعرف شعارات الحزب الوطني بوصفها جزءا من حالة، ولكنها لم تتحول لشعارات تكرر في نهاية الخطب أو ترفع في وجه المختلف وتعمل على فرز أبناء الوطن. لم يقدم الحزب نفسه بأكثر مما كان، حزب سلطة يعبر عن مصالح فئة وإن تحدث باسم الجميع، أما اللحظة فيغيب عنها حزب السلطة رسميا ويحل مكانه تأميم الدولة والوطن والوطنية وإعادة تعريف الخيانة لتتجاوز الكنتاكي والجبنة النستو وأجندات مرحلة ثورة يناير إلى مساءلة الضمير والوقوف ضد «تحيا مصر».
مع تقرير حالة السعادة والمكانة المتدنية التي جاءت فيها مصر سقطت مقولة «أحسن من سوريا والعراق»، وبقي شعار «تحيا مصر» وفقا لرؤية السلطة والكراسي، أما مصر ومواطنوها فهم خارج الحسابات الحقيقية والجميع يطالبهم بالانتظار والصبر والقبول بسعادة غائبة عن الواقع، حتى إن رأى الخطاب الرسمي عكس هذا، ونفى تقييده للحريات وتغييبه للديمقراطية معتمدا على تأميم شعار تحيا مصر واحتكار تصور حاضر ومستقبل مصر، لأن الحقيقة مثل الشمس لا يمكن إخفاء وجودها، وان غابت لابد أن تشرق يوما واضحة لامعة براقة في سماء الوطن.