فرنسا المريضة بذاكرتها والجزائر المبتلاة بتاريخها

ثلاثاء, 2016-03-22 00:57
توفيق رباحي

ليست الجزائر وحدها مبتلاة بتاريخها الاستعماري ومأزومة بتفاصيله. فرنسا أيضا مريضة بذاكرتها الاستعمارية. الأولى مأزومة كدولة مستعمَرة، والثانية مريضة كدولة مستعمِرة. 
في الجزائر تحضر فرنسا كموضوع جدل سياسي وفكري وثقافي دائم، وفي فرنسا تشكل الجزائر موضوعا سياسيا وانتخابيا داخليا. 
في الجزائر لوبيات تعيش على أمجاد الماضي وتشكل ما اتُفق على ما يُعرف إعلاميا بـ»الأسرة الثورية» (المجاهدون، أبناء شهداء حرب الاستقلال، أبناء المجاهدين، المحكومون بالإعدام أثناء الاستعمار، قدماء المخابرات الجزائرية، ممثلو الثورة في الخارج، فدرالية جبهة التحرير في فرنسا). هؤلاء كلهم يستولون على حاضر الجزائر مستغيلن الماضي ولا غنى لنظام الحكم عنهم. وفي فرنسا لوبيات لا تقل قوة وسطوة وحضوراً تتكون من قدماء المحاربين و»الحرْكى» (الجزائريون عملاء الجيش الفرنسي آنذاك)، والأجانب المقاتلون في الجزائر، والمدنيون الفرنسيون المولودون في الجزائر، قادة الجيش الاستعماري الفرنسي في الجزائر.. إلخ.
الخلاف بين الحالتين أن النقاش التاريخي في فرنسا أقرب إلى العمق، ولا أحد يخشى تداعياته على التناسق الاجتماعي. بينما تخشى الجزائر رفع الغطاء عن فترة الاحتلال، خصوصا الثلاثين سنة الأخيرة منها، لأنها غير جاهزة لمجابهتها وغير محصنة لتحمل تداعياتها.
قبل ثلاثة أيام احتفل البلَدان، كلٌ بمفرده وعلى طريقته، بالذكرى الرابعة والخمسين لتوقيع اتفاقيات إيفيان التي كرّست وقف إطلاق النار ومهدت لاستقلال الجزائر بعد قرن وثلث من الاحتلال.
في الضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط، الجزائر عاجزة، كالعادة، عن الإبداع في احتفالاتها. فنيا ولا سياسيا ولا ثقافيا. كل ما هنالك بعض الفلكلور تفرضه المناسبة المتكررة والمتشابهة إلى حد الملل، ناهيك عن أنها فرصة يوظفها الحاكمون عساها تديم تفوقهم المؤقت وتحمي مصالحهم الظرفية. وهذا أكثر ما يخيف في الموضوع، لأنه ترتب عنه «ابتعاد» عموم الجزائريين عن الذكرى وتنكرهم لها. في أفضل الأحوال هي لم تعد تعني لهم الكثير، وفي أسوأ الأحوال كفروا بها.
في الضفة الشمالية للبحر، قطعت فرنسا خطوة في اتجاه المرآة لتنظر إلى نفسها عن قرب: الرئيس فرانسوا أولاند قرر إحياء ذكرى وقف إطلاق النار، وترأس يوم السبت احتفالا للمناسبة ألقى فيه خطابا يمكن اعتباره سنتمتراً واحداً محتشما في رحلة فرنسا للتصالح مع تاريخها الجزائري. 
صحيح أن أولاند انتقد «النظام الاستعماري» وقال إنه «أنكر على الشعوب حقها في التكفل بنفسها»، لكنه لم يذهب أبعد من ذلك. ولم يكن ليجرؤ ليذهب لأنه ينتمي إلى معسكر سياسي وعقائدي لم يقصِّر في حق الجزائريين أثناء العهد الاستعماري. 
حتى السنتمتر اليتيم الذي تجرأ أولاند على قطعه جلب له سهام خصومه السياسيين. لم يقتصر الأمر هذه المرة على اليمين المتطرف وعتاة الكولونياليين في المجتمع السياسي والثقافي والتاريخي الفرنسي، بل قاد جوقته الرئيس السابق نيكولا ساركوزي الذي اعتبر أن ما أقدم عليه هولاند يظلم الماضي الفرنسي في الجزائر ويضع فرنسا في «الجهة الخطأ» من التاريخ (مقال بصحيفة لوفيغارو يوم الخميس 17 الجاري).
لا يمثل ساركوزي نفسه هنا، بل شريحة كبرى من الفرنسيين الذين لهم صلة بتلك الفترة بشكل أو بآخر. فلو لم ينطق هو لفعل غيره. المجتمع الفرنسي يكاد يضيق بأمثال الرئيس السابق في تفكيره تجاه التاريخ. ولكلٌ أسبابه ودواعيه. ساركوزي، مثلا، ينطق مدفوعا بحسابات سياسية وانتخابية وتطرف سياسي يميني لا يختلف عن يمينية الجبهة القومية التي أسسها جان ماري لوبان. 
بالنسبة لساركوزي وقدماء الاستعماريين وما تبقى من «الحرْكى»، ما أقدم عليه الرئيس أولاند تمجيدٌ لمناسبة فتحت الباب لفظاعات وتجاوزات استمرت إلى غاية شهر يوليو (تموز) 1962 تاريخ إعلان الاستقلال. التأريخ الجزائري، وحتى الفرنسي النزيه، لتلك الفترة ينسب أغلب الفظاعات للفرنسيين من المدنيين والعسكريين الذين رفضوا استقلال الجزائر، فعاثوا قتلا وتخريبا في العاصمة والمدن الكبرى، وكان ضحاياهم من الجزائريين والفرنسيين على السواء. قمة الإرهاب مارسته «المنظمة السرية المسلحة» التي شكلها قادة عسكريون ومدنيون فرنسيون في الجزائر العاصمة فور إعلان وقف إطلاق النار في 19 أذار (مارس) 1962. 
نصيب فرنسيي تلك الأيام من العنف والإرهاب لا يجرؤ أحد من أبنائهم واحفادهم اليوم على ذكره. لا احد يذكر المنظمة السرية المسلحة، ولا أحد يذكر رافضي استقلال الجزائر، ولا أحد يقرّ بأن قطاعا من الفرنسيين المولودين بالجزائر مارسوا العنف لكي لا تستقل الجزائر. المؤسسة السياسية الفرنسية تعترف بالعنف لكنها تتوقف عند توزيع المسؤوليات فتخونها النزاهة. ثم سرعان ما تتحول باتجاه الاضطهاد الذي تعرض له «الحرْكى» وعملاء الاحتلال من الجزائريين على يد جزائريين آخرين. وهو اضطهاد، إذا أُخذ في سياقه النفسي والاجتماعي والأمني آنذاك، لوجد له تبريرا في ما تعرض له عموم الجزائريين على يد المستعمر بمساعدة وتواطؤ وتشجيع من العملاء الذين أصبحوا لاحقا عاراً على الضحية والجلاد معا.
لو كانت لفرنسا مشكلة كبرى مع تاريخها الاستعماري في كل مكان من العالم لكان ذلك اسهل على أبنائها ليجدوا حلا لماضيهم. لكن مشكلة فرنسا أنها تعاني من «عقدة الجزائر» فقط.. لا تونس ولا المغرب ولا السينغال ولا بقية إفريقيا ولا غيرها. هذه العقدة هي التي تركتها في حالة إنكار وإصرار على تسمية حرب الجزائر (1954 ـ 1962) «حوادث شمال إفريقيا، إلى غاية 1998.
احتاج الفرنسيون إلى 36 سنة ليقروا بالتسمية اللائقة للحرب، فكم سيحتاجون لكي يقروا بما وقع فيها على أيدي أبائهم واجدادهم الجلادين؟