لماذا فشلنا في إخراج فيلم مقتل ريجيني؟

ثلاثاء, 2016-03-29 19:20
عبير ياسين

في قصيدته «هوامش على دفتر النكسة» ينعى نزار قبانى «نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة»، وهو فكر لا ينتهي عند نكسة ولا يكتفي من الهزيمة، ولكنه يصر على الحفاظ على نصيبنا من الفشل، ربما من أجل أن نقدر قيمة النجاح عندما يتحقق، مثل العدل الذي يفترض أن نفرح به بشكل مضاعف عندما يولد من رحم الظلم.
يبدو من الطبيعي أن يأتي سيناريو مقتل طالب الدكتوراه الإيطالي جوليو ريجيني، الذي أعلنته وزارة الداخلية المصرية في 24 مارس 2016، قبل التراجع عنه، فاشلا نصا وإعدادا وإخراجا وتسويقا، للمصداقية وليس للمشاهدة للأسف. فالفيلم لم يحظ بفضيلة عدم المشاهدة، التي كان يمكن أن تقلل من حجم عالمية الكارثة، وعلى العكس حظي بالمشاهدة، محليا وعالميا، كما نال ما يكفي من تعليقات غاضبة وساخرة، وتحول التعامل معه لكرة ثلج كبيرة لا يتصور أن تتوقف عن النمو بسهولة.
أما السبب الأساسي في فشل الفيلم فهو اختلاف عقلية من أنتجه وأسلوب إدارته للأحداث، عن عقلية أطراف الحدث وأسلوب إدارة الأمور خارج دوائر إعداد الفيلم وإخراجه. يأتى الفشل نتيجة طبيعية لاختلاف عالم إنتاج الفيلم الجامد عن عالم الواقع المتطور، أن تنتج عالمك وتعيش فيه لعقود وترى أنه كاف لتمرير الكوارث والتعامل مع الأزمات، لا يعني أنه يصلح للأبد، وأنه يصلح في كل زمان ومكان. أبجديات لا نتعلمها في مدارس تجد وزارة التعليم فيها أنها تملك الحق في حذف اسم الدكتور محمد البرادعي من قائمة المصريين الحاصلين على جائزة نوبل بقصد وعمدية، وكأنها تملك بشكل منفرد أن تعيد تشكيل وكتابة التاريخ، ليس في الأمور الخلافية محل الشك وإعادة التفسير فقط، ولكن في الحقائق والإنجازات المثبتة.
المطلوب في الواقع هو أن ينتهي التحقيق في مقتل ريجيني بالوصول للحقيقة وتحقق العدالة، ولكن عقلية من تعاملت مع الحدث تعودت على أن الحقيقة غائبة، ولا تشكل الهدف الأساس لعمليات البحث والتحقيق، التي تهدف لإغلاق الملفات حتى إن كان على حساب العدالة والحقيقة، وعلى حساب الأبرياء الذين يتم التعامل معهم بوصفهم أرقاما وضحايا جانبية لا يفترض أن يهتم بهم أحد.
أعلنت الداخلية العثور على متعلقات ريجيني في منزل شقيقة أحد أعضاء عصابة إجرامية تخصصت في اختطاف الأجانب من أجل سرقتهم، متنكرة في زي رجال الشرطة. أما أعضاء العصابة فقد تم قتلهم جميعا في عملية تبادل إطلاق النار. بدورها كانت المتعلقات في حقيبة جلدية حمراء عليها علم إيطاليا وداخلها وجد العديد من الأوراق التي تؤكد شخصية ريجيني ومنها، جواز السفر، بالإضافة إلى ما قيل إنه قطعة حشيش ومتعلقات نسائية وكارت الفيزا وعدد ٢ هاتف محمول.
هذا الفيلم المتكرر بثه في أحداث محلية لم يمر بشكل هادئ، ولم يساعد في إغلاق ملف ريجيني، الذي يتمتع رغم كل ما تعرض له من تعذيب بفضيلة أنه أجنبي، وأن البحث عن حقيقة ما تعرض له يتجاوز الحدود، ويهدد مصالح أكبر من التجاوزات التي يتعرض لها المواطن العادى في المحروسة.
لم يقنع السيناريو المعلن أحدا، خاصة مع مقتل كل أفراد العصابة المتهمة، ومع سؤال لماذا تم تفتيش منزل شقيقة أحد أفراد العصابة والقبض على زوجها. وهنا يطرح السؤال لماذا تم إخراج هذا السيناريو وكيف يمكن تصور تمريره لدى من قام به؟
بداية فإن السيناريو قدم من وجهة نظر من أخرجه العناصر اللازمة للنجاح، فهناك الأوراق التي يفترض أن تربط العصابة بالضحية، وهناك دلائل الفساد الإخلاقي التي يفترض أن تثير التساؤلات حول ريجيني وتقلل التعاطف معه، مع تأكيد أن العصابة كانت ترتدي زي الشرطة في عملياتها. 
وبهذا فإن كان هناك من يقول إن من خطف الطالب هم أفراد من الشرطة، فالرد أن العصابة ترتدي زي الشرطة. وإن كانت هناك رغبة في التأكد من صلة العصابة فهي واضحة من خلال الأوراق والشنطة والعلم. وإن كان تم تعذيبه فهي حبكة درامية من العصابة وأسلوب تمويه لضمان أن يكون التشابه مع الشرطة متحققا قلبا وقالبا. ومن هذا التشابه في التعذيب الذي أعلن عنه بشكل غير مباشر، والذي لازلنا نتعامل معه رسميا بوصفه حالات فردية، جاء التشكيك في التصور المصري للقضية. واعتبرت بعض التغطيات الصحافية الأوروبية أن سجل الشرطة المصرية في التعذيب والاختفاء القسري والتعامل مع حقوق الإنسان والاعتقالات غير القانونية يثير الشكوك في مصداقية ما أعلن، خاصة في ما يتعلق بتعذيب ريجيني بقصد السرقة، وهي النقطة التي تظل محل شك وتساؤل لم يرد عليه التصور المصري للأحداث، لدرجة أن بعض المنظمات غير الحكومية اعتبرت أنه يحمل توقيع الأجهزة المصرية، وأن قتل ريجيني يطرح الكثير من التساؤلات حول إخفاء انتهاكات الداخلية.
جاء سيناريو ريجيني مكتمل الأركان بوصفه إخراجا محليا في سياق اعتاد على أن النتيجة المعلنة لا تتساوى مع الحقيقة ولا تتسق مع المنطق بالضرورة. ولكن على الجانب الآخر كان هناك خطاب مختلف كليا، لا يهتم بتأكيد أن ريجيني مثل ابن من أبناء المسؤول الإيطالي بقدر ما يؤكد على أن الهدف هو الحقيقة والكشف عما حدث ومحاسبة المسؤولين عن الجريمة.
بدورها قامت الداخلية المصرية بتغيير الخطاب، وأكدت أن بياناتها لم تشر نهائيا للطالب الإيطالي، وأن أشار إلى العثور على متعلقات ريجيني في شقة شقيقة زعيمة العصابة، وأن البحث لازال مستمرا. أما أسباب التراجع الذي قد يرتبط بشكل مباشر بالموقف الإيطالي وما يمكن أن يمثله من تحديات ضمن الموقف الأوروبى العام، وموقفه من ملف حقوق الإنسان، وربطه بما تعرض له ريجيني، فلا يمكن فصله عن حالة الرفض الداخلية. فقد ارتبط إعلان الداخلية بحالة من الرفض والنقد والسخرية لعدم منطقيته حتى من قبل بعض المدافعين عن النظام، باعتبار أنه يهدد العلاقات الدبلوماسية في ظل تهديد ايطاليا بسحب سفيرها، وغضب أسرة ريجيني. وضع يعيد للواجهة انتقادات وزير العدل الأسبق الزند وتنديده وبعض مؤيديه بدور وسائل التواصل الاجتماعي لتركيزها على تصريحاته ودروها في إقالته، وهو انتقاد يعيد التأكيد على دور وسائل التواصل الاجتماعي ومكانتها التي لم تغب، رغم كل محاولات إضعافها والتشكيك في قيمتها ومصداقيتها.
أما الرفض الإيطالي فيبدو العامل المباشر لتغيير الموقف المصري، أو إعادة تفسيره، حيث أكد وزير الداخلية الإيطالي انجلينو الفانو رفض حكومته للنتائج التي توصلت إليها مصر، من أنها قتلت العصابة المسؤولة عن مقتل ريجيني. وأكد «أنه من المهم أن نوجه تأكيداتنا إلى البحث عن الحقيقة».
وأضاف «لقد قام المصريون بتغيير مسار التحقيقات خلال ساعات، وأخبرونا أن التحقيقات مستمرة». مؤكدا على أهمية أن يشارك المحققون الإيطاليون في جمع الأدلة والاستجواب، وأنه أكد لعائلة ريجيني والرأي العام الايطالي على «ان الحكومة الايطالية ستتوصل إلى أسماء القتلة». أما رئيس الوزراء، ماتيو رينزي، فقد وعد أسرة ريجيني باستمرار الضغط على مصر للوقوف على حقيقة وفاته.
تبدو الفجوة واضحة بين سيناريو لا يهتم بالحقيقة ويعمل على غلق الملف بأي ثمن، وعالم يطالب بالحقيقة والعدالة. ويبدو أن ما تحقق هو إسقاط السيناريو الفاشل بصورة عالمية، لم تنتج إلا فقد المزيد من المصداقية والتشكيك في كل الروايات الرسمية المقبلة، سواء في ما يتعلق بحدث ريجيني أو في كل حدث يخص الحقوق والحريات والعدالة والقانون، لأن من أنتج سيناريو وأعاد تغييره بعد وقت قصير نتيجة لضغط ومصالح خارجية لا يمكن التحقق من عدم قيامه بإنتاج سيناريوهات أخرى غير حقيقية. أما سبب الفشل فيبدو واضحا في غياب أهمية القيم الكبرى مثل العدالة والحقوق وقيمة الإنسان، مع غياب المحاسبة التي تجعل كل فرد في مكانه يتملق الكرسي الذي يرتفع عنه ويعمل على تقديم ما يتصور أنه دليل ولاء، حتى إن كان على حساب الوطن ومواطنيه، لا يختلف في هذا أن تكون القضية محلية أو دولية.
بدرونا لا يفترض أن نرفع قيمة قضية على أخرى، ولا أن نركز على شق علاقتنا بالطرف الأجنبي فقط، لأن قضيتنا الأساسية في تغييب قيمة الإنسان وحقوقه ومكانته. وعندما تسترجع مكانة القيمة وتخضع الدولة ومسؤوليها للمحاسبة يمكن أن تتحول العدالة والحقيقة لقيم مستهدفة للإنسان في عمومه على أرض المحروسة، سواء أكان مواطنا أو أجنبيا، أما إن طالبنا بغلق الملف تلك المرة وإعلان الحقيقة من أجل مصالح اللحظة، ومن أجل أن تكون تحسين الصورة في تعاملنا مع الآخر، فنحن نناقض أنفسنا ونقبل بانتهاك حقوقنا وحريتنا والتعامل مع المواطن بوصفه درجة ثانية، ما دام ليس معه جواز سفر أجنبي ولا يملك دولة أخرى تهدد بسحب سفير وتهديد مصالح وعلاقات.
علينا أن نؤكد أن القيمة للإنسان وأن الهدف هو الحقيقة والعدالة وأن الطريق هو المكاشفة والمحاسبة من أجل وطن يستحق أن يكون أكثر عدلا ورحمة وإنسانية.