مصر بين عبد الحميد شتا وزينب المهدي: أين تذهب الثورة؟

سبت, 2014-11-22 20:04
عبير ياسين

إلى أين تذهب مصر بأبنائها.. سؤال ولكن من داخله يثور سؤال آخر، هل أصبح من الضروري تعريف الأبناء والمواطنة الحقيقية، فربما يكون هناك فئات من الدرجة الأولى وفئات من الدرجة الثالثة أو البدون، وهم الذين لا يملكون.. «كان هذا السؤال هو خاتمة موضوع قديم كتبته منذ أكثر من عقد كامل من الزمن عن عبد الحميد شتا، الباحث في العلوم السياسية الذي انتحر غرقا بعد أن تم استبعاده من التمثيل التجاري، رغم اجتياز الامتحانات التي عقدت لهذا الغرض. لحظة أثارت الكثير من التساؤلات، خاصة أن أسباب الانتحار ارتبطت بالاستبعاد لأسباب اجتماعية، أو كشف الهيئة الذي ربطه البعض بطبيعة عمل والده الفــــلاح، الذي لا يملك الوجاهة الاجتماعية الكافية. بدورها عادت قصة شتا مرة أخرى إلى الواجهة، على هامش ثورة يناير 2011، واعتبر البعض ان الثورة نهاية للظلم وفرصة للمحاسبة.

ولكن الواقع كان يتحرك بعيدا عن حلم الثورة، ولم يكن خبر انتحار زينب المهدي، المنتمية للإخوان والداعمة لعبد المنعم أبو الفتوح في انتخابات الرئاسة، والعاملة في ملف الفتيات المعتقلات، هو التأكيد الوحيد على أن روح الثورة التي صاحبت يناير غائبة، فهناك الكثير من الأحداث التي تؤكد تراجع حلم دولة العدالة والمساواة التي أحيتها الثورة، وتقدم دولة التمييز التي قامت ضدها.

ففي يونيو/حزيران 2014 تم الحديث عن ضرورة العمل على تجنب تكرار حادث انتحار شتا، بعد استبعاد عدد من خريجي كلية الحقوق من قبل المجلس الأعلى للقضاء من تعيينات النيابة، رغم اجتيازهم الاختبارات المحددة، بسبب عدم لياقتهم اجتماعيا. لتأتي تصريحات المستشار أحمد علي عبد الرحمن النائب الأول لرئيس محكمة النقض واضحة وهو يتحدث عن رفض قبول أبناء عمال النظافة في وظائف النيابة العامة، لأنها – كما يرى – لا تتناسب مع واقعهم الاجتماعي. في الوقت الذي سعى فيه البعض لقبول أبناء القضاة الحاصلين على تقدير مقبول في النيابة، باعتبار أن بيئة التربية القضائية كافية للعمل في المهنة نفسها، وهو المنطق نفسه الذي يحكم العديد من المواقع المميزة في مصر. ويؤكد البعض على صواب الاستبعاد الطبقي في تبنٍ واضح لخطاب فترة مبارك عن رجال الأعمال، وما يقدم لهم من مناصب وفقا لفرضية أن من يملك المال لا يحتاج إلى الفساد ولا يقود إلى الإفساد، وهو ما لا يحدث بالضرورة كما يؤكد الواقع. لم يكن المال ولن يكون هو دليل الشرف، كما لا يعد الفقر دليل الفساد أيضا. ولكن ما تؤكده تلك المواقف والتصريحات، إلى جانب الاهتمام القليل الذي تحظى به مقارنة بغيرها، أن المجتمع لا يأخذها بالجدية الكافية رغم أهميتها، وأنه يترك نفسه لقضايا هامشية لا تؤثر على وضعه الحقيقي في المدى المتوسط والطويل.

وفي سبتمبر/أيلول انتحر السائق فرج رزق في لوحة إعلانات على طريق القاهرة – الإسماعيلية بسبب ضائقة مالية، في مشهد كفيل بأن يهز مجتمعا كاملا. مواطن فقد الأمل في تلبية احتياجات أسرته براتبه الشهري القليل، رغم الشكاوى المتعددة التي تقدم بها إلى شركته، فانتحر في ظل غياب شبكة دعم ورعاية اجتماعية لتسانده. ولكن على الرغم من هذا وجد مذيع في نفسه الجراءة لينتقد الميت لأنه لم ينتحر بطريقة أقل جرحا للمشاعر. نعم، عادة ما يتوقف الكثير من التعليقات أمام فكرة الانتحار من أجل انتقاد من قام بالفعل، وتجريمه أخلاقيا ومحاسبته دينيا، ولكن هنا وجد البعض أن من حقهم الحديث عن مشاعر المجتمع الذي لم يرحم الميت في حياته، ولم يرغب في الشعور بالصدمة بعد وفاته.

بدوره جاء خبر وفاة زينب في نوفمبر/تشرين الثاني ليضيف السياسة للحدث، من إدانة الإخوان لفصلها بعد دعمها لأبو الفتوح في الانتخابات الرئاسية، لإدانة أبو الفتوح نفسه بدون اهتمام بالفارق الزمني. مع الحديث عن تراجع الثورة وتطورات ما بعد إقالة مرسي. والحديث عن تناقض السلوك في ارتداء الحجاب ونزعه، والتعليقات السلبية التي تعرضت لها بسببه، والدراسة في الأزهر وتركها، والمعاناة الاقتصادية وعدم العثور على فرصة عمل، وغيرها من الضغوط التي مرت عليها في فترة قصيرة رغم وجودها في المجال العام.

حدث وفاة زينب يجمع خيوطا كثيرة من الواقع، خاصة خلال سنوات ما بعد الثورة. كما يتشابه مع شتا ورزق في الكفاح من أجل الحياة والتمسك بالأمل لدرجة كبيرة، ثم الانفصال عن المجتمع بما يمثله من ظلم وضغوط. يكتشف شتا أن التعليم والتفوق ليس طريق الوصول، ويكتشف رزق أن عمله ومطالبه بتحسين وضعه غير كافية لتلبية احتياجاته، وتكتشف زينب أن جهودها غير كافية لوقف الظلم عنها أو عن غيرها. تبدو تلك الحالات قريبة من كفاح صغير لا يغير صورة الظلم الكبيرة التي تحيط بشخصياته، وعندما يجف نبض الأمل تغيب الحياة نفسها بعد أن ظل التمسك بما يشبهها ممتدا لفترة طويلة. وتتقاطع تلك الحالات في أنها تقدم رسائل واضحة للمجتمع، فشتا كان معروفا في سياق عمله، وكان من الطبيعي أن تثير وفاته الاهتمام بين معارفه. والمهدي كان من الطبيعي أن يثير خبر وفاتها الاهتمام تحت لقب انتحار ناشطة سياسية. أما رزق فقد اختار على ما يبدو أن يتأكد من وصول رسالته عبر الشكل النهائي للموت، حتى لا يغيب في موته كما غاب في حياته، ولعله أراد أن يكون موته وسيلة انقاذ لغيره.

وتشترك أيضا في التعامل الديني مع الحدث، وهو ما ظهر واضحا في حالة زينب والسؤال عن الكفر وإمكانية الصلاة على المنتحر من عدمه.. مع إطلاق البعض لعبارات تبدو موضوعية، ومنها عدم تحويل المنتحر إلى بطل أو إعطاء قيمة ايجابية للانتحار، ولكن ما يتم تجاهله أن تلك المقولات لن توقف الانتحار ما دامت أسبابه قائمة، وأن الحديث عن العقوبة لا يصلح الحاضر الذي قد يفتقد إلى معنى الحياة أو شبه الحياة. يقول علي شريعتي: «خير لك ان تقضي وقتك بالسعي لإدخال نفسك الجنة على السعي في إثبات أن غيرك سيدخل النار». وربما يكون علينا أن نتذكر أيضا أنه خير لنا ان ندعم فرص البقاء على الحياة بدلا من البحث عن كيفية إدانة من اختار مغادرتها. لا نقول بوجود بطولة في الموت أو اختياره، ولكننا لا نعرف ما يمر به من اختار الموتن أو ظهر لنا أنه اختار الموت. فالمشكلة ليست في الجدل حول البعد الديني، ولكن في أنه يغطى على الأسباب ويقيدها في مساحة لا تحاسب أحدا وترجع الموت لضعف الإيمان. والمطلوب أن نقف أمام مرآة الحقيقة ونعترف بوجود أزمة أكثر عمقا، لا يفترض أن تمر بإدانة الميت لأنه تسبب في تعكير أخبار الصباح، أو جرح مشاعر المشاهدين وهو معلق على الطريق مدينا ضمير الإنسانية فينا، ومطالبا بالبحث عن أسباب تجنب تكرار المشهد.

وهنا يبدو السؤال الجوهري في معنى استدعاء شتا بعد يناير، وتغير صيغة الاستدعاء من السعادة باستعادة حقه، إلى التخوف من تكرار نموذجه، بما يعني أن الواقع لم يتغير، والثورة لم تحل معادلة الحقوق والمساواة والعدالة الغائبة، كما يتضح من تلك الحالات القليلة التي أشرنا إليها. ولا يبدو من التعامل مع وفاة رزق والمهدي أن هناك تغيرا إيجابيا قد يحدث في الأجل القصير فلازال التعامل في مساحة إدانة الميت، وإراحة الضمير ببعض الكلمات عما يفترض فعله وضرورة تطبيق الدستور والقوانين الخاصة بالعدالة والمساواة، كما حدث أيام وفاة شتا… ولكنها جميعها أشبه باهتمام لحظي يجمد حتى تحدث كارثة جديدة. ويظل السؤال، ما هو البديل إن كانت الحياة محاطة بالسقوف الزجاجية والصلبة التي لا ترحم ولا تتحرك لأعلى ولا تستثنى إلا إذا توفرت الصلاحية الاجتماعية وفقا لما يحدده أصحاب السلطة، بما يضمن أن سلم الصعود يتحرك في اتجاه واحد ويأخذ أمل البعض في حياة أفضل معه إلى المجهول. ما البديل لشبه الحياة إلا بتحسين ظروف الحياة وتربية الأمل في تغيير حقيقي لمجتمع أكثر عدلا وحرية، وواقع يطبق كل المثاليات التي يتغنى بها في كل كارثة جديدة، ما البديل بدون شبكات دعم مادية ومعنوية توجد الآن في الحياة بدلا من أن تحاسب الأموات.