الأخطر من «وثائق بنما»

أحد, 2016-04-10 23:05
عبد الحليم قنديل

ربما لا تكون من قيمة تبقى في «وثائق بنما»، سوى أنها كشفت التلاعب الذي جرى ويجري في القاهرة، وعلى مدى خمس سنوات من تواطؤ نظم ما بعد الثورة مع اللصوص.
وليست القصة في شركة «بان وورلد» التي ظهرت وثائقها في حملة المنظمة الدولية للصحافيين الاستقصائيين، وتبين أنها مملوكة لعلاء مبارك، ولا يعلم بالضبط حجم الأموال التي ذهبت إليها، وجرى تسجيلها عبر وسطاء ماليين في «جزر العذراء البريطانية»، والأخيرة واحدة من عشرات مناطق «الأوف شورز» حول العالم، وتستخدم عادة في غسل الأموال المنهوبة والمهربة، أو المتحصلة عن جرائم وتجارات سوداء، وحيث لا نظم ضرائب ولا مراجعات محاسبة على الإطلاق، ويلجأ إليها لصوص الأوطان من طراز عائلة المخلوع مبارك وحوارييه ومسؤوليه ورجال أعماله، وبهدف إخفاء السرقات، ثم إعادة تدويرها ـ بعد الغسل ـ إلى عواصم وبنوك وصناديق أموال، تبدو بريئة وقانونية، وعلى طريقة ما فعله علاء مبارك، الذي قدم للوسطاء جواز سفره المصري، وفي خانة المهنة «أعمال حرة»، وعلى عنوان تعاقد في لندن، ومن شقة فاخرة في عاصمة الضباب، أنكر في تحقيقات القاهرة أي صلة له ـ أو لأخيه جمال ـ بها، وصدقه المحققون السذج، وأغلقوا الملف كما رغب.
وليست القصة المكشوفة بوثائقها الآن، سوى «عينة بينة»، ومثال صغير على طبيعة ما جرى في الخفاء، وجرى به نزح تريليونات الجنيهات عبر وسطاء ماليين وعائليين وسياسيين، عبر عواصم عربية وغربية وآسيوية، ويعلم الله وحده حجم المبالغ التي سرقتها ونزحتها عائلة مبارك، وأخفتها في شركات «الأوف شورز»، أو على سبيل الأمانة المحفوظة لدى الأصدقاء والأمراء والملوك إياهم، وقد قدرت صحيفة «الغارديان» البريطانية حجم ثروة عائلة مبارك وقت خلعه، وذكرت أن العائلة تملك ما تزيد قيمته على سبعين مليار دولار، ولم يستطع أحد وقتها أن يثبت صحة تقرير «الغارديان»، ولا ظهرت وثائق تؤيده، اللهم إلا وثائق شركة علاء مبارك المخفية المنشورة أخيرا، وكانت «الغارديان» ـ نفسها ـ بين عشرات وسائل إعلام الدنيا المشاركة في التحقيق الاستقصائي المذهل عن ثروات زعماء العالم المخفية.
وقد يقال إن السلطات المصرية قد تتحرك بعد كشف عينة من وثائق الثروات المخفية، وهذا ما لا نرجحه، وربما لا نأمل فيه، فقد لا يفعلون شيئا، سوى إعادة فتح دفاتر علاها التراب، وإجراء تحقيقات صورية جديدة، ربما لا تنتهي إلى شيء غير ما حدث ويحدث، فقد اكتفت السلطات من الغنيمة بالفتات، وفتحت أدراج «الكسب غير المشروع» لتلقي رشاوى صغيرة، وقيل إن مجموع ما تعتزم عائلة مبارك ورجاله دفعه لا يزيد عن مليار دولار بأسعار صرف السوق الموازية هذه الأيام، فالمبلغ المعلن عنه لقاء المصالحات لا يزيد عن 11 مليار جنيه مصري، يسدد حسين سالم ـ ظل مبارك ـ نصفه، فيما لا تدفع عائلة مبارك نفسها سوى «الفكة»، وعلى طريقة تسديد 147 مليون جنيه محكوم بها في قضية سرقات القصور الرئاسية، ومقابل إغلاق كل الملفات، وإسقاط كافة الأحكام القضائية، وعودة اللصوص للاستمتاع بما سرقوا ونهبوا، وفتح مزاد السخرية المريرة من كل ما جرى ويجري، فالمبالغ التي يقال إنها ستعاد عبثية بامتياز، ولا تكاد تساوى نصف المبالغ التي أنفقتها الدولة على محاكمات صورية لمبارك وعائلته ورجاله، مضافا إليها فاتورة علاج مبارك في مستشفى المعادي على نفقة الدولة، فوق عشرات الملايين من الجنيهات جرى إنفاقها كمكافآت للقضاة ورجال الشرطة في المحاكمات وترتيباتها، وقرابة المئة مليون جنيه أخرى، جرى إنفاقها على تشكيل لجان استرداد الأموال، وعلى سفرياتها ونزهاتها إلى سويسرا وعواصم الاتحاد الأوروبي، التي عادت منها كما ذهبت، فلم تستعد مصر مليما واحدا من الأموال المنهوبة المهربة للخارج، ثم أنها دفعت في الداخل أضعاف المبالغ العائدة بقانون المصالحات سيئ السمعة، وبما يكشف حقيقة التواطؤ مع اللصوص.
والذين يتواطأون لا يحققون بجدية، فهم فقط يخادعون الناس، ويضحكون على الذقون، ثم يدعون أنه ما باليد حيلة، وهكذا فعلوا من أول يوم بعد خلع مبارك في 11 فبراير 2011، كان الاتفاق وقتها أن يترك مبارك السلطة، ومقابل عهد أمان له ولعائلته ولأمواله، وكان ممثل المجلس العسكري الحاكم في الاتفاق هو الفريق سامي عنان كما قالت هيلارى كلينتون في شهادتها المنشورة، وقد كان الرجل رئيسا لأركان الجيش وقتها، وموضع ثقة عظمى في واشنطن، وتدخل ملوك وأمراء البترول كطرف ضامن للاتفاق، وكان حسين سالم قد خرج من مصر مع الأيام الأولى للثورة، فيما ترك المجلس العسكري رجل مبارك الأقوى ـ زكريا عزمي ـ في منصبه رئيسا لديوان الرئاسة، وذهب مبارك مع عائلته إلى قصره في «شرم الشيخ»، مستريحا إلى عهد الأمان الذي أخذه، ومتفرغا ـ مع زوجته ونجليه ـ لإدارة أوسع عملية تهريب لتريليونات الجنيهات، فيما تركوا لزكريا عزمي مهمة إحراق والتخلص من الوثائق والمستندات التي قد تدين، واستمرت العملية على مدى ثلاثة شهور كاملة بعد خلع مبارك، كان قد جرى فيها ترتيب كل شيء، وإلى أن اضطر المجلس العسكري لمسايرة غضب ملايين المتظاهرين في ميدان التحرير، وإحالة مبارك وعائلته ورجاله إلى المحاكمات التي تعرفون سيرتها، وبما حول ما سموه محاكمة القرن إلى «فضيحة القرن»، فقد جرى إذلال مبارك حقا في قفص الاتهام، ولكن بدون المقدرة على التوصل لدليل إدانة حاسم، بسبب التلاعب عن عمد في تكييف الاتهامات، وخلو الملفات من وثائق جرى التخلص منها، والمحصلة كانت كما تعرف، خرج رجال مبارك من نوع زكريا عزمي وفتحي سرور وصفوت الشريف من السجون أيام حكم الإخوان اللاحق لحكم المجلس العسكري، ثم جرت تبرئة مبارك وجنرالاته الأمنيين في قضية قتل المتظاهرين، وبدت القصة كلها عبثا في عبث، وإلى حد أن القاضي حسن الرشيدي الذي برأ مبارك، صمم على أن يذكر في ديباجة الحكم الصادم شهادته للتاريخ، فقد قال القاضي إنه لم يجد قانونا يحاكم به مبارك على كوارث ثلاثين سنة فقر ونهب وفساد وتوريث وتخلف وقمع وانحطاط، ولا تزال القضية ـ كما هو معروف ـ منظورة أمام محكمة النقض، التي أصدرت بدورها حكما صحيحا يتيما في قضية سرقات القصور الرئاسية، وأدانت المخلوع مع نجليه، ووضعته حيث يستحق في مزابل اللصوص، ووصمته بصفة «الحرامي» بختم النسر، وبحكم قضائي نهائي بات لا تعقيب عليه، وما كاد الناس يحسنون الظن، وتزيد آمالهم قليلا في طلب العدالة، ما كادوا يفعلون ويشعرون، حتى عاجلتهم يد التواطؤ من جديد، وصدرت تعديلات «التصالح» على قانون الكسب غير المشروع، الذي روجوا لنواحي نفع مفترض فيه، وقالوا إنه سيجلب مئات المليارات لخزانة الدولة الفارغة، ثم تكشفت الحقائق سراعا، فهو لا يكلف اللصوص سوى دفع ملاليم، ومقابل رد اعتبارهم القانوني، و»غسل» صحفهم الجنائية، وتسهيل لحاقهم بالتريليونات المتحصلة من «غسل» الأموال في «الأوف شورز»، وهو ما يحدث الآن بالحرف في موسم تكريم الفساد، وفي سياق سياسي واقتصادي، عادت به «فلول» حكم مبارك إلى دوائر التحكم والسلطة، وتسلمت مفاتيح «الكرار» فوق مواقع القرار.
لكل هذه الأسباب وغيرها، فلا يصح لأحد أن يتعجب من رد الفعل الرسمي البارد في القاهرة على كشف «وثائق بنما»، فهم يريدون أن تطوى الأوراق وتجف الصحف، وأن تتحول القصة كلها إلى حواديت مسلية، يبدون فيها غاية الإعجاب سرا بحيل عائلة مبارك في إخفاء الأموال المنهوبة، ويدعون في الظاهر عزما على التحقيق، ثم تعود «ريمة» إلى اسطواناتها القــــديمة، ويحدثونك عن الفساد الذي هو من طبع الدنيا، وعن العجز في مواجهة ألاعيب الكبار، وهم يعرفون ما نعرف، وهو أن الجزء الأعظم من ثروة عائلة مبارك في الحفظ والصون، وبرعاية متفق عليها في عواصم صديقة شقيقة، وأن الجواب الشافي لن يظهر في «وثائق بنما» على خطورتها، بل في وثائق القاهرة التي جرى التخفي بها، والمسارعة بالتخلص منها، وحتى لا تتكشف حقائق التواطؤ الرسمي مع اللصوص، وهي الجريمة المتصلة حتى ساعة تاريخه.