«تيران» و«صنافير»: باع من لا يملك .....

اثنين, 2016-04-11 15:20
عبير ياسين

عندما انتقد اللاعب محمد أبو تريكة في مارس 2016 المسؤولين عن المنتخب أثناء مباراة مصر ونيجيريا في مدينة كادونا، رد عليه هاني أبو ريدة المشرف العام على المنتخب «أن نيجيريا دولة صديقة»، وأن «شعب نيجيريا شجعوني وعاملوني معاملة الملوك».
هذا الخلط بين العلاقات الودية والمعاملة الشخصية وما يرتبط بمسؤولية الدور ومتطلباته تجد لنفسها مكانا واضحا في قضية جزيرتي تيران وصنافير، الواقعتين في مدخل خليج العقبة، التي عاش الشعب مؤمنا بمصريتها ليستيقظ في صباح 8 أبريل على صور سعيدة للرئيس عبد الفتاح السيسي وتوقيع الحكومة على اتفاقية لتعيين الحدود البحرية والاعتراف بأن الجزيرتين جزء من السعودية، مع ترديد خطاب أن مصر دورها لم يتجاوز السيطرة أو الاحتلال المؤقت. ولم ينقص المشهد الغريب إلا وصوت شادية وهي تردد في الخلفية، «السعودية اليوم في عيد». ولا يقصد هنا نقاش الدور السعودي في القضية، لأن المشكلة الحقيقية في مصر وفي النظام ورؤيته للدولة ودوره، والشعب ومسؤوليته. فما بين تصريحات أبو ريدة وتعامل السيسي والخطاب السائد، تدار مصر بالخلط بين العلاقات الودية والمسائل الشخصية، وحقوق الدولة وثمن الحفاظ على حسن العلاقات وحسن معاملة المسؤول من أراضي وآثار وكرامة الدولة ومواطنيها.
قد يرى البعض أن العنوان فيه إسقاط للعبارة الشهيرة الخاصة بوعد بلفور، التي تقول «إعط من لا يملك لمن لا يستحق». ولكن بيع الأراضي أو التخلى عنها قضية لا ترتبط بأي استحقاق يبرر التنازل عنها. الفكرة كلها فيمن باع، رغم أنه ليس له الحق في البيع. والبيع هنا قضية رمزية لا يقصد بها وجود ثمن مباشر أو غير مباشر، ممثل في اتفاقيات وصفقات وقروض، ولكن يقصد بها فكرة التخلي عن أشياء لا تباع ولا تشترى. تتأكد كيف يمكن أن يختلف معنى الكلمة وتضيق وتتسع الصدور في التعامل مع أحداث متشابهة، رغم الاختلاف بين الحقيقة المثبته والاحتمال حسب الشخص وحسابات اللحظة بأكثر ما تتعلق بالوطن. يرفع البعض كلمات «آسفين يا مرسي» في إشارة للاتهامات التي أُلصقت بحكم الرئيس الأسبق محمد مرسي، وما تردد عن اتفاقه وجماعة الإخوان على التخلي عن جزء من سيناء لحماس، وهي الاتهامات التي قام الإعلام بدور واضح في تغذيتها. بالمقابل نجد من يؤكد أن هناك أخطاء في موضوع الجزر، ولكن لا يمكن التشكيك في السيسي أو في تخلي الجيش عن أراض، ومن يتعامل من منطلق أن الموضوع غير مهم ما دام أن الطرف الآخر هو السعودية. كما تكتشف كيف يتقلص الوطن ويتحول الجدل للقيمة الاقتصادية والإستراتيجية للجزر من عدمها، وكأن الموضوع يتوقف على الثمن الذي يمكن أن تحصل عليه وليس على مبدأ السيادة.
تظهر شخصيات من كتاب تبرير حكم الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، لتؤكد أن الأرض سعودية، والضجة دليل خيانة ورغبة في دس السم في العسل. وتدرك أن العسل لا يصل عادة للمواطن، وما يقال عن اتفاقيات وعقود لا يختلف عن أموال قدمت من دول الخليج، أو وعود أعلن عنها خلال المؤتمر الاقتصادي في شرم الشيخ، وكلها وغيرها لم تصل للمواطن الذي تعمقت معاناته، مضافا لها المزيد من القيود على الحقوق والحريات، أما السم فهو متوافر ومجاني. وتتردد في الخلفية كلمات نقلت عن والدة الطالب الإيطالي الذي قتل في مصر جوليو ريجيني، وهي تهدد بنشر صوره وتقول «فاكرينه مصري»، وتدرك كيف يتم إلقاء المثل على المصري في التعذيب وغياب القيمة. وتضاف لها تعليقات سعودية على وسائل التواصل الاجتماعي تطالب المصريين بالقبول بالأمر الراهن حتى لا يتم نقل الأهرامات أيضا، في حين يدخل المصري كعادته ساخرا عارضا بيع المزيد من الأراضي بسعر الجملة وعليها هدايا مجانية.
تدرك قيمة النظام الحاكم وكل ما يهمه هو الحصول على صك بقاء ودعم خارجي وتجاهل المواطن وتصور أنه يملك الحق في التنازل والبيع والإهداء، وكأن الدولة مجرد امتداد للملكية الشخصية. واقع يزداد سوءا عندما تدرك كيف أن المباحثات التي تمت والأطراف التي تم إبلاغها بالنية في توقيع الاتفاق تشمل الأردن وإسرائيل وأطرافا أخرى مثل الإمارات ودولا ربما لم يعلن عنها، وشاركت في رسم علامات التعجب والدهشة عند الخروج على المسرح كما فعلت إسرائيل، ولكنه رغم كل هذا لا يشمل المواطن. يمكن أن يرى البعض أن قضايا مثل معاهدة السلام لا يمكن أن تخضع للنقاش العام، ولكن الجزء الحقيقي هو أن ما يخص معاهدة السلام كان يمكن التعامل معه بعيدا عن الأضواء وليس التفاوض حول ترسيم الحدود والتخلي عن الجزيرتين والإعلان بتلك الطريقة، وفي هذا التوقيت أثناء زيارة ملك السعودية والإعلان عن الاتفاقات والقروض وكأنها ثمن الجزيرتين.
تظهر المغالطات واضحة في الأخبار التي تسعى لتبرير الموقف، فإن كان النقاش تم من نهاية 2010 – كما تم الإعلان رسميا- فهي فترة ملتبسة بما يجعل الوصول لقرار قابل للاستدامة صعبا لمصر. وإن كان الحديث خلال الشهور التسعة السابقة، وفقا لمصادر سعودية، فإن المسؤولية أكثر تحديدا والفترة المعنية أكثر وضوحا، بما يطرح تساؤلات حول فكرة الإيمان المطلق بأن سيادة الدولة محمية بالثقة في من يملك القرار في القوات المسلحة، رغم التشابكات السياسية القائمة وغياب الشفافية. وإن كان السيسى قد كرر أن كل المشاريع تخضع للدراسات، وأنه لا يتم الإعلان عن مشروع بدون الدراسات اللازمة، فيبدو أن النظام تعامل مع الجزيرتين مثل أي مشروع اقتصادي تم الإعلان عنه، رغم أن فكرة الدراسات السابقة وضمان النجاح محل لسؤال مشروع في ظل وضعية قناة السويس وسد النهضة وغيرهما.
سيقول البعض أن الجزيرتين سعوديتان وأنهما كانتا وديعة لدى مصر أو محتلتين منها، ولكن تلك ليست القضية الأساسية، رغم رغبة الإعلام في تمريرها بتلك الصورة، فالقضية أن الجزيرتين محل نزاع غير محسوم، وأن السعودية كانت لها مطالبات ومصر لها مطالبات وسيطرة حقيقية. وأن التأكيد على مصرية الجزيرتين يعود لفترة الدولة العثمانية والاتفاقيات الموقعة بهذا الخصوص، ومنها اتفاقية 1906 الخاصة بترسيم الحدود الشرقية لمصر.
أما الحديث عن تخلي مبارك عنهما، في محاولة لتحميل عبء اللحظة على نظامه وغسل يد النظام الحالي والمجلس العسكري وأعضائه، ففي 2010 عندما قامت المملكة بتحديد خطوط الأساس البحرية في البحر الأحمر وخليج العقبة، التي شملت مناطق تعتبرها مصر ضمن منطقتها الاقتصادية الخالصة قامت القاهرة بإصدار إعلان أودعته لدى الأمم المتحدة أكدت فيه أن المرسوم السعودي لا يمس أو يغير موقفها في المباحثات الجارية لتعيين الحدود البحرية. وهو ما يعني التأكيد على استمرار التفاوض وليس إسقاط الحق كما فعل النظام الحالي الذي اختار أن يقدم جزيرتين وحقا تاريخيا وسيطرة فعلية مقابل تدعيم أسس البقاء والدعم والحفاظ على القبول والدور وتحسين العلاقات بأطراف أخرى بوساطة سعودية وعدم تهميش دوره، ولم يجد في خزينة الدولة المصرية إلا الأرض وإدخال السعودية طرفا مباشرا في العلاقات مع اسرائيل من أجل إعادة رسم أوراق الضغط الأقليمية.
تعيد قضية تيران وصنافير تجسيد الإشكاليات المصرية، خاصة غياب الديمقراطية والمحاسبة والشفافية، وشخصنة السلطة والزعامة التي تتماهى مع الدولة وتتصور أنها فوق الجميع. تكتشف كيف تراكم الكثير من الأشياء عبر الوقت لتظهر مضخمة خاصة محاولات تأميم الحق في القلق واحتكار المصداقية. كما تتجسد هامشية المواطن خارج طوابير الانتخابات وأمام الكاميرات المؤيدة وصفوف التفويض، وكيف يظهر هذا واضحا من إدارة تعتمد على التسريبات والإشاعات من أجل جس النبض أو تفريغ الغضب والإلهاء واتخاذ وتمرير القرار الذي يريد وهو يضمن أنها ستجد من يدعمه ويدافع عنه ويشوه المعارضين.
بدوره يبدو النظام في لحظات فرح حقيقية وهو يستمتع بقدرته على تمرير تلك التجاوزات ولسان حال السيسي أنه وحده يعرف ووحده يملك مفتاح تمرير ما يريد، كما حدث عند رفع الدعم، رغم الفارق الكبير بين زيادة صعوبات الحياة والتخلي عن الحقوق التاريخية والأرض، ولذلك يغيب التمهيد وهو يقدم نفسه بوصفه القادر على تمرير تنازلات مؤلمة، رغم الغضب الشعبي الذي يمر سريعا اعتمادا على الثقة فيه – كما يرى- متناسيا أن الثقة هشة وغير دائمة وتتآكل أو تنمو مع الاستخدام. أما للأطراف الخارجية، السعودية هنا، فيقدم نفسه بموقف المخاطر بالشعبية من أجل ما سماه البعض، فروسية إرجاع الحق لاصحابه، وهو ما يضفي بعدا شخصيا ويجعل المكسب للحاكم على حساب الدولة، والقيمة للكرسي على حساب الأرض.
يتحول الوضع لمشهد عبثي يحتاج لضرب الودع وقراءة الفنجان والكل يقدم ما يشاء من رؤى للتاريخ والحدود والسيادة، بما فيها قيادات من عالم العسكرية والمخابرات، ولسان حال الجميع أن غياب المعلومة والشفافية ينتج سوقا للبث على مدار الساعة والضحية هو الوطن والحقيقة والمنطق. وفي النهاية يمكن أن نتذكر مع غسان كنفاني في عائد إلى حيفا «إن خطأ زائد خطأ لا يساويان واحدا صحيحا» وهكذا هو الوضع في أخطاء تيران وصنافير وغيرها لا يمكن أن يساويان واحدا صحيحا، وبدون مصداقية وثقة ووثائق وشفافية وإعلان وجهة تحاسب كلما تصورت أن لها الحق منفردة أن تتنازل وتبيع وتتجاوز ما دامت كراسيها مستقرة، أو تبدو هكذا، فإن الوصول لحلول نهائية واستقرار حقيقي وبناء دولة مدنية قضية صعبة التحقق.