تدوير العنف… بين النظرية والتطبيق

ثلاثاء, 2014-11-25 07:33
باسل أبو حمدة

لا غرابة في أن تتصدر مفردة العنف القاموس السياسي لمنطقة تعيش على صفيح ساخن منذ فجر التاريخ، مثل منطقة الشرق الأوسط المنكوبة، جراء ويلات حروب جائرة وأنظمة طاغية غطت سحبها داكنة السواد سماءها وأرضها وناسها.
لكن ما يثير الاهتمام والاستهجان معا يختزله ذلك التوق السائد فيها إلى الخلط بين ممارسي هذا السلوك الإنساني بشقيه، أي العنف والعنف المضاد، وتبادل الأدوار والاتهامات باللجوء إلى هذا الخيار المنفلت، ابتداء من عقال التشريعات والقوانين والأعراف الإنسانية، في ظل كيانات سياسية مطلقة فرضت نفسها على الشعوب بقوة الحديد والنار، سواء كانت في مربع السلطة أم خارجه، رافضة بعنف اعتماد مبدأ المشاركة في صنع حاضر البلاد ومستقبلها، بينما يتجلى هذا النوع من الخلط العجيب في ما بات يطلق عليه البعض زورا وبهتانا دوامة العنف، ولاسيما في فلسطين المحتلة.
كما أن انعدام الغرابة يتأتى كذلك من واقع أن العنف لا يشكل بذاته سوى مفردة أخرى تضاف إلى قائمة طويلة من المصطلحات المغرضة والعرجاء، المستخدمة في غير محلها في قاموس الشرق السياسي، حين تصم الآذان وتغمض العيون وتعقد الألسنة أمام مقولة «العنف لا يولد إلا العنف»، أو أمام المساواة بين العنف ومقاومة العنف، أو عند محاولة رفع الصوت في وجه طاغية أو محتل غاصب، ذلك أن الفعل ورد الفعل يشكلان، في هذه الحالة، خطان متوازيان لا يلتقيان إلا في حالة زوال مسببات الفعل نفسه، وليس ضرورات الرد عليه، الأمر الذي يستحيل أن يرى النور على يد وبإرادة مفجري موجات العنف المتعاقبة، ما أفضى إلى ضرورة اجتراح وسائل وأدوات كفاحية، من شأنها رفع قبضة الفاعل عن المفعول به وليس العكس، ومن هنا ظهر مفهوم المقاومة في مواجهة أشكال الإجبار والاحتلال والاغتصاب والقمع في مختلف تجلياتها. 
وإذا كان العنف السياسي أعلى أشكال العنف وظاهرة تمارسها المجموعات المنظمة شبه الرسمية وغير الرسمية، فإن العنف السياسي الرسمي، الذي يقابله مصطلح إرهاب الدولة، يبقى متربعا على أعلى درجات سلم الأذى الكامن والظاهر، الذي يتعرض له الناس، لا لشيء إلا لأن ممارسيه من الأنظمة الاستبدادية والاستعمارية والاحتلالية، تمتلك من القوى والقدرات والامكانيات ما لا يمتلكه المعارضون لتلك الممارسات غير الإنسانية، التي لم تعد تقف عند حدود إلحاق الأذى الجسدي بالناس، بل إنها تطاولت بصورة فلكية وصولا إلى الحاق الأذى المعنوي والفكري بهم، من خلال قلب المعادلة والخلط بين الجلاد والضحية، عندما يتعلق الأمر بتحديد أي من الطرفين المظلوم وأي منهما الظالم، أي منهما منتهك للحقوق، وأي منهما حقوقه منتهكة، في أكبر وأخطر عمليات التضليل في تاريخ البشرية، تهدف إلى تعويم مفهوم المقاومة والانقضاض عليها وعلى حقوق من لا يجدون غيرها وسيلة لاسترداد حقوقهم المغتصبة.
في ظل الربيع العربي ومع نجاح الثورات المضادة لمخرجاته السياسية والفلسفية والاجتماعية والاقتصادية، في كل من مصر وسوريا وليبيا واليمن، ومع تصاعد الهجمات الصهيونية ضد ما تبقى من حقوق فلسطينية، بهدف تصفيتها نهائيا في مختلف مدن وقرى وأرياف فلسطين المحتلة عموما، والقدس خصوصا، وانسداد أي أفق أمام تسوية القضية الفلسطينية إثر عشرين عاما من المفاوضات العبثية، نتيجة تغول العقلية الصهيونية وتعنتها في عدم الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني في العودة إلى أرضه وتقرير مصيره وبناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، تصاعدت حدة جدلية العنف والعنف المضاد وأخذت شكل عملية انقلابية لا مثيل لها في التاريخ، راحت تتشكل بين ظهرانيها محاور وتحالفات جديدة وغريبة، اختلط فيها الحابل بالنابل وتداخلت فيها الأوراق، بحيث تشابكت خطوط معسكري الأصدقاء الحقيقيين والأعداء الحقيقيين، مشكلة شرنقة معقدة التضاريس يصعب فك رموزها من دون رد المسألة برمتها إلى ثابتها الاستراتيجي الوحيد، الذي رسمت خطوطه العريضة وفقا لنتائج الحرب العالمية الأولى، التي أحكمت سيطرة مراكز الاحتكار في العالم على مقدرات المنطقة ومصائر شعوبها، اعتمادا على حربة برأسين لجسد واحد: الدولة العبرية والأنظمة العربية، التي تمكنت طوال سنين من ضمان استمرار تلك السيطرة بأبهى حللها، ولا تزال تطمع باستمرار تلك السيطرة لحقبة أو حقب زمنية مقبلة.
نظرة سريعة على تصريحات المسؤولين السياسيين والعسكريين، وعلى العناوين الرئيسية في وسائل الإعلام العبرية والعربية والغربية، تبين بوضوح وجود قاسم مشترك أعظم بينها جميعا، يتمثل في نبذ العنف، لكن ليس أي نوع من أنواع العنف، بل ما اصطلح على تسميته بالعنف المضاد فقط، الذي يعكس في جوهره مفهوم المقاومة.
أما عنف الدولة أو إرهاب الدولة، فتلك مسألة ملغاة من القواميس السياسية أو مرجأة وغير مطروحة للحل والنقاش حتى اشعار آخر في أحسن الأحوال، في مشهد ينم عن معالجة عرجاء، لكن متعمدة في الوقت نفسه، تتقدم فيها النتائج على المقدمات وتحل العواقب فيها محل المسببات، لتصبح مقاومة شعب يرزح تحت الاحتلال عنفا أو إرهابا مدانا، يضرب بلا هوادة دولة الاحتلال ويلحق الأذى بمجتمعها المسكين المغلوب على أمره، الذي لا يستحق سوى التضامن والتعاطف، بينما تتحول أنظمة الاستبداد إلى معاقل تغص بالجيوش الجرارة وأجهزة القمع الجبارة لمحاربة ما يسمى بالإرهاب المصنع أصلا على مقاس ما تحتاجه تلك الأنظمة من ذرائع، لتنقلب على مسيرة التاريخ وتبقى في السلطة إلى ما نهاية، وإلا كيف يستوي أن يشكل بين ليلة وضحاها تحالف دولي ضخم لمحاربة «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام»، بينما يعجز مجلس الأمن التابع لمنظمة الأمم المتحدة عن اتخاذ حتى موقف يدين فيه إرهاب الدولة الذي يمارسه نظام الأسد ضد الشعب السوري، أو إرهاب الدولة الذي تمارسه «إسرائيل» ضد الشعب الفلسطيني، لا بل انه عندما يزل لسان هذه المنظمة الدولية بمجلسها الأمني وجمعيتها العمومية، فإنها لا تتحدث في هذه الحالة أو تلك سوى عن دوامة عنف يتبادل تدويرها أطراف النزاعات، سواء المتعلقة منها بالنزاع على السلطة أو النزاع على الأرض، ضاربة عرض الحائط هي ومن لف لفيفها أوجاع الناس ومظلوميتهم وتطلعاتهم المشروعة إلى الحرية والاستقلال والتحرر من قيد المستبد والمعتدي، بالقدر نفسه الذي تنحاز فيه للقوى الظلامية الحقيقية من خلال عدم التمييز بين عنف أحمق ترتكبه قوى وكيانات سياسية مارقة ومقاومة تلجأ اليها الشعوب مضطرة لانعدام أي وسيلة أخرى لنيل حقوقها.