اليوم العالمي لحرية الصحافة… مخاوفهم واحتفالاتنا

اثنين, 2016-05-02 12:41
توفيق رباحي

يحتفل العالم اليوم باليوم العالمي لحرية الصحافة. في العادة تحيي هذا اليوم المنظمات والهيئات والجهات المعنية بالمجال الإعلامي وتفاصيله الأخرى المتعلقة بالممارسة اليومية. وتحتفل أيضا، وبإفراط، دول وحكومات نكتشف بسرعة انها من الأكثر دوسا على حرية الصحافة والأكثر تضييقا وتنكيداً على الصحافيين. فقد تكرس اليوم واقع يتمثل في أن الدول والحكومات الأكثر احتفالا واحتفاءً بشيء هي الأكثر إساءة وضررا له: المحتفلون باليوم العالمي لحقوق الإنسان هم الأكثر انتهاكا لهذه الحقوق! ودول مثل بريطانيا والسويد وسويسرا وما شابهها لا تتذكر أن هذا اليوم موجود، ناهيك عن الاحتفال به بقرع الطبول ونفخ المزامير. 
أما الحكومات الأخرى، مصر، باكستان، الجزائر، المغرب وغيرها فتقيم الأفراح والمؤتمرات والمنتديات وتفرد وسائل إعلامها مساحات كبرى للخطابات والشعارات الرنانة، بينما الحريات والحقوق منها براء.
وكذلك الشأن مع اليوم العالمي للمرأة الذي لا تقام له الاحتفالات إلا في الدول الأكثر ظلما للمرأة وانتهاكا لحقوقها. ولا تحتفل به دولة غربية واحدة بالإفراط والغلو الذي تفعل به الدول العربية والعالمثالثية عموما. 
ولا يختلف الأمر مع اليوم العالمي للطفولة، وكذلك الأيام العالمية للأمراض (وما أكثرها) بمختلف أنواعها ومسمياتها.
ولعل اليوم العالمي لحرية التعبير هو الأكثر بروزاً بحكم أن الصحافة أصبحت الوجه الآخر للعمل السياسي وتداعياته على حياة الناس. لا سياسة بلا صحافة، والعكس صحيح.
لسوء الحظ، واقع الصحافة والصحافيين في الجزء الجنوبي من الكرة الأرضية لا يسر عدوا أو صديقا. وإذا ضيّقنا الجغرافيا أكثر باتجاه المنطقة العربية، فستكون واحدة من أسوأ الفضاءات البشرية والجغرافية من حيث الصحافة، لأصاحبها كوظيفة، وللمتلقين كسلعة. تجار مفلسون يبيعون، بلا إقناع، سلعة لا يعرفون قيمتها ويسيئون لها. 
في الغرب لا تواجه الصحافة مشكلة مصداقية على الرغم من بعض الاخفاقات والنقائص التي تحيط بعملها اليومي والتي لا تخطئها العين. المشكلة هناك تجارية اقتصادية.. هناك خطر داهم، اسمه الإعلام الجديد، يزحف نحو الصحافة بمفهومها التقليدي ويهدد بالقضاء عليها في فترة زمنية منظورة. هذا هو الهمّ الذي يؤرق العاملين في صناعة الصحافة الغربية.
هذا السلاح الخطر وغير المكلف هو المعضلة التي احتار في مواجهتها الإعلام التقليدي.
في الغرب لا يزالون أصحاب المبادرة والسبق والفضل. آخر إنجازاتهم، ولن تكون الأخيرة، فضيحة «»وثائق بنما»، وقبلها مثلها العشرات من القصص الرائعة. 
في الجزء الجنوبي من الكرة الأرضية، وضمنه المنطقة العربية، لم يصل الناس، صحافيين وجمهورا، بعدُ إلى «ترف» الخوف على وظائفهم ومستقبل الصحافة من الإعلام الجديد. ذلك أن الوعي بخطورة هذا الأخير لم ينضج بعد كما يجب.
الخوف في هذا الجزء من العالم هو من خسارة جمهور قد ينفر بسبب قلة احترامه. ما زالت المصداقية والثقة هي المعضلة الكبرى، فلا غرابة ألا يفهم المرء، ولو كان متابعا، بتجرد الكثير مما يجري من حوله لأن لا أحد (صحافة) وفر له المعلومة بصدق وموضوعية. إذا كان من حق الصحافة ألا تكون محايدة، فمن واجبها ألا تلوي عنق الحقيقة. وهذا لا يحدث في موضوع اليمن، مثلا، والطيف الساحق من الصحافة العربية. وقس على ذلك سوريا والعراق وليبيا: يحتاج المرء إلى جهد ذهني خارق ومتابعة أكثر من صورة مجتزئة ثم تركيب أجزائها المبتورة لعله يصل إلى ما يشبه نتيجة. 
والمصيبة أن الأمر وصل إلى حد استغفال الجمهور والضحك عليه، وفي حالات أخرى عدم الاكتراث بحقه في المعرفة وبردة فعله عندما يدرك ان هناك من يحاول الضحك على ذقنه وتضليله.
هذا في القضايا الكبرى والمصيرية بأحجامها وآثارها على مستقبل الأجيال، فما بالك بالملفات العادية التي لا تتعلق بمصائر شعوب ودول ومجتمعات.
لا حل جاهزاً لهذا الواقع المحزن الذي يفوح فشلا وأمراضا نفسية وتعصبا وطائفية وظلما. يحتاج الأمر إلى الكثير من الجهد والوقت والتضحية لتخفيف أضرار ضربت وانتهت وأخرى في الطريق. واقع الصحافة العربية اليوم في أصله يختزل أزمة متعددة الأوجه تعصف بمجتمعات بمختلف الطرق وعجزت عن حل أيّ من قضاياها العالقة.. الدين، اللغة، الهوية، التنمية، نمط الحكم، التعليم. لماذا نستغرب، وسط هذه الأمواج العاتية، أن نستهلك صحافة مغشوشة مثلما يتلقى أطفالنا تعليما مغشوشا ونستهلك ماء ملوثا ونعالج بأدوية مشكوك فيها؟
اليوم يعيش العالم، والجزء الجنوبي منه هذا التناقض المخيف: الناس يستهلكون كمًّا هائلا من المعلومات في اليوم والساعة، لكنهم في الوقت ذاته أبعد ما يتلقون الأصح منها. كأن أحداً يستغل هذه الحاجة ليفرض منطقه، مثلما يحدث في سوق الاستهلاك اليومي عندما يستغل تاجر ما ارتفاع الطلب على سلعة ما فيبيعها كيفما كانت بالسعر الذي يريد.
إنقاذ الصحافة في يد أصحابها ولا أحد غيرهم. ينسحب هذا الكلام على كل مكان وزمان، لكنه ينسحب بشدة على الجسم الصحافي العربي الذي تتقاسم مكوناته الهمّ نفسه والطموحات نفسها. 
عصر أمس سألني ابني جاداً: هل تعرف الوظيفة التي أحلم بها في كبري؟ قلت غير منتظر: لا تقل لي صحافيا. حدق فيّ بذهول، وسأل: كيف تقول هذا الكلام وأنت صحافي؟ قلت: قصة طويلة من حقك أن أرويها لك، لكن ليس اليوم. ثم انصرفت أكتب هذا المقال.