«الرويعي» وحق المواطن في تبني خطاب المؤامرة

اثنين, 2016-05-16 13:23
عبير ياسين

يطالب الرئيس عبد الفتاح السيسي في أحاديثه المتكررة الشعب المصري بالثقة المطلقة التي يفترض أن ترتب القبول بكل ما يحدث، بدون مناقشة أو تفكير، في إطار توسيع التفويض وما يترتب عليه من انفراد بالقرار. 
وضع ظهر واضحا في لقائه بممثلي المجتمع في 13 أبريل 2016 الذي أشار فيه لقرار التنازل عن جزيرتى تيران وصنافير، وانتقد حالة الشك وعدم الثقة التي يتسم بها الشعب بقوله «مش مصدقين حاجة خالص.. مش بنصدق حاجة خالص.. بنشكك في كل حاجة»، وهو الوضع الذي ظهر مدى أزعاجه للرئيس لأنه يهدد وحدة الكتلة الصامتة التي تمثل نواة الحكم، مضيفا ما سماه «الانتحار القومي»، الناتج من ضرب إرادة الشعب وإحباطه، الذي اعتبره نتاجا لغياب الثقة، في الوقت الذي لم يعترف فيه بأخطاء النظام وسوء الإدارة، سواء بصفة عامة أو في قضية الجزيرتين بصفة خاصة، كونها مجال الحديث في اللقاء المشار إليه.
ورغم حديث الرئيس عن ضرورة الثقة المطلقة من المحكوم في شخصه، فإنه لا يقوم بتغذية تلك الثقة عبر المزيد من الانفتاح والشفافية والمحاسبة اللازمة لتأسيس حالة الثقة المطلوبة، مع تأكيد أن الثقة المطلقة في السلطة غير موجودة، وأن السلطة مفسدة وسوء استخدامها وارد، ولابد أن تخضع والقائمون عليها للمحاسبة الدائمة. وفي الوقت الذي يعتمد فيه النظام ومؤيدوه، خاصة في وسائل الإعلام المختلفة، على ترويج خطاب المؤامرة بصفة مستمرة، سواء في تفسير الكوارث أو تبرير المشكلات وحدوثها، أو سوء التعامل معها لدرجة أن تتحول أزمة السيول وسوء إدارتها وارتفاع سعر الدولار أمام الجنيه وارتفاع الأسعار وردود الفعل الغاضبة على تجاوزات الشرطة والتنازل عن الجزر إلى نتاج لتحركات جماعة الإخوان المسلمين وتوظيف أهل الشر، وليس لغضب شعبي حقيقي، أو سوء إدارة وحكم يحتاج إلى وقفة ومحاسبة وتغيير آليات واستراتيجيات.
وفي سياق يقوم على ضرورة إحياء المؤامرة التي يتغذى النظام من وجودها وتضخيمها، فمن الطبيعي أن يظهر تبني خطاب المؤامرة وأهل الشر من قبل الشعب، خاصة أن الشعب لديه مبررات موضوعية لتصديق فكرة المؤامرة التي تحاك ضده وضد مصالحه، بعد عقود من الاستغلال والفساد والإفساد والتخلي عن الحقوق والاعتداء على الحريات وتقييدها، كلما وجد النظام الحاكم – ايا كان- نفسه في مواجهة متطلبات إصلاح حقيقية ومحاسبة ضرورية على الأرض. وإلى جانب انتشار فكرة المؤامرة وتوليدها بشكل يومي ومستمر، فإن طبيعة الأحداث التي شهدتها مصر خلال فترة قصيرة في عمر الزمن، تجعل السؤال عن الأجندات الخفية والأهداف الحقيقية مسألة مشروعة ومطلوبة ولسان الحال أن الثقة لها أسس، وأن تلك الأسس غائبة. والمقصود بتلك الأحداث هو مجموعة الحرائق التي شهدتها العديد من المحافظات خلال عدة أيام، خاصة من8 مايو الحالي في أماكن متفرقة من المحروسة، وأنشطة مختلفة تشمل مصانع ومنازل وأراضي زراعية ومناطق تجارية وأماكن حكومية. وإن كان البعض استخدم انتشار الحرائق جغرافيا ونوعيا لنفي فكرة المؤامرة، فإن المواطن لا يرى الأمور بتلك الطريقة، خاصة أن بعض الحرائق التي لا يتم التركيز عليها عادة في الأخبار الرئيسية، تم وضعها في سياق الحرائق الكبرى لتقديم الصورة ككل بوصفها تزامنا قدريا ليس له سبب، وإن كان له سبب آخر فهو الإرهاب في إسقاط لكثير من السيناريوهات المحتملة وتجاوز عن مسؤولية الإهمال الممتد والصيانة الغائبة وفساد المحليات أو غض الطرف أو وجود المؤامرة فعلا.
وكما كان من الطبيعي أن يثور أهالي قتيل الدرب الأحمر، وترتفع الهتافات ضد السيسي والتساؤلات عن سبب انتخاب أهل القتيل له، وأن تعلو أصوات الغضب المصاحبة لصور السجادة الحمراء، كان من الطبيعي أن يزداد الغضب وترتفع حدة النقد وتنطلق بعض الهتافات المطالبة برحيله، على خلفية حريق الرويعي بالعتبة 9 مايو، والغورية 11 مايو، وربط الحريق بحديث عن رغبة بعض كبار المستثمرين الاستيلاء على الأرض، وتغيير نشاط المنطقة التجاري القائم، وما تحتوي عليه من ورش وحرف وصناعات مختلفة، تضيف للتاريخ الكثير من المعنى والروح والرائحة المميزة، من أجل استبدالها ببعض المباني الأحدث من فنادق وشركات قد لا تضيف الكثير من القيمة للوطن والمواطن حتى إن اضافت لمن يملكها الكثير.
كما أن هذا السيناريو يؤكد على أشكالية رؤية النظام لمصر بوصفها «دولة حديثة» أو «شبه دولة» تسعى للحاق بعالم الدول الحديثة، عبر التخلى عن الجغرافيا (الجزر وحقول النفط) والتاريخ (الأماكن والمباني الأثرية وما تتعرض له من نهب وإهمال وسوء إدارة). وإن كان النظام يرى أن من حقه أن يوقع ما يشاء وقتما يشاء، وأن يرفض الحديث ويتعلل بـ»أهل الشر»، فمن الطبيعي أن يؤمن الناس بأن هناك «أهل شر» يرغبون في السيطرة على البلد والاستيلاء على ما بقي للمواطن من أماكن وأنشطة وسبل عيش، رغم غياب الدولة وعدم قيامها بأدوارها المفترضة، قبل أن تنزل للواقع وتوجه اللوم للمواطن وحده، على ما يعانيه من مشكلات وتجعله يدفع الثمن وحده على تأخرها في معالجة تلك المشكلات.
ومما يدعم حق المواطن في اللجوء لتفسير المؤامرة، غياب الشفافية بصفة عامة، وتأسيس جزء كبير من سياسات النظام على تحديات مواجهة المؤامرات الكونية و»أهل الشر». إلى جانب خبرة تاريخية دفع ويدفع فيها الوطن والمواطن الكثير من حقوق الدولة من غاز طبيعي ومياه وأراض توزع بالمجان أو بأسعار زهيدة إلى جزر واحتكارات وتسهيلات اقتصادية لا تصب في صالح المواطن والوطن بالضرورة. في الوقت نفسه فإن الوقائع التي يتحدث عنها شهود العيان في الرويعي والغورية وكيفية انتشار الحريق وتأخر المطافئ، رغم القرب الجغرافي، والطريقة التي تم بها التعامل مع الحريق وأدت لزيادته وانتشاره تصب في تعزيز تلك التفسيرات عن الهدف النهائي أو المستفيد من الإهمال أو المشاركة أو غض الطرف انتظارا للحظة سانحة لإخلاء المنطقة، بدلا من تحديثها وصيانتها، مع الحفاظ على طابعها الخاص وتقديمه بوصفه معلما حضاريا وتاريخيا، كما يفعل الكثير من الدول المتقدمة التي لا تبني الحاضر على حساب الماضي وتتمسك بالتاريخ وإن قصر عمره ولا ترى في نفسها شبه دولة أو دولة حديثة لا تسعى للريادة.
بالإضافة إلى حديث نائب محافظ القاهرة عن ضرورة إخلاء وسط العاصمة، خاصة منطقة العتبة ومحيطها من الباعة الجائلين بعد الحرائق بوقت قصير، وتصريحات القائم بأعمال محافظة القاهرة عن انه «جار تجهيز أماكن بديلة لأصحاب المحلات» المتضررة، التي تؤشر لوجود خطط على الأرض لنقل الكثير من الأنشطة والعاملين فيها من العتبة ووسط القاهرة واستخدام الحريق أو أي كارثة محتملة لترويج سيناريو الإخلاء بديلا عن سيناريو التجديد والحفاظ على روح المنطقة.
اما ما يقال عن وجود حرائق أخرى ومبررات الماس الكهربائي والعشوائية فكلها أمور قديمة ومكررة من أحداث كان يتم فيها استخدام الماس الكهربائي بوصفه المتهم الحاضر دوما لإخفاء المعلومات أو التخلص من الملفات، أما الحديث عن البنية التحتية وإهمال إجراءات السلامة فتطرح سؤالا عن دور الدولة والحكومات المتوالية، والأولويات التي يتبناها النظام وتركيزه على طرح ما يراه مشاريع قومية، بدون ما يؤكد قيمتها الحقيقية للحظة والمستقبل. وإن كان الحديث عن عاصمة جديدة تخصص لها الموارد وتتحول لعالم آخر مغلق على البعض، فالمفترض أن تقوم الدولة بالاستثمار في ما تملك وتعيد الجمال لروح مصر الحقيقية، وتقف أمام محاولات تأجير التاريخ لمن يدفع، مثل ما أعلن عنه من تحويل قلعة قايتبناي إلى قاعة أفراح باسم زيادة الموارد الاقتصادية. وأن يتم الاستثمار في القاهرة لتتحول لمنطقة جذب سياحي بما تملكه من قيمة حضارية وتاريخية وأنشطة متنوعة حافظت على وجودها رغم تقلبات الزمن والسياسة.
ما سبق يرتب أن تحضر المؤامرة في حرائق القاهرة، خاصة أن تيران وصنافير والتعامل مع معارضة التنازل عنها، ومن يعارض لا يسمح بنمو الثقة، وإن كان النظام يرغب في أن يواجه الخوف والقلق بشكل حقيقي فإنه يحتاج إلى تحركات تتجاوز مطالبة المواطن بتصديق خطاب المؤامرة عندما تستخدمه السلطة، ورفضه عندما يستخدمه المواطن. وإن كانت هناك ضرورة بشكل عام لتوفر المعلومة الحقيقية والمكاشفة والمحاسبة، فإن تجاوز مخاطر المؤامرة في حرائق القاهرة يتوقف على التعامل الرسمي معها، وما يؤكده أو ينفيه المستقبل القريب من انتصار لخطاب إخلاء المنطقة من أجل بعض المصالح الضيقة ولتأكيد أن مصر دولة حديثة، أو لخطاب الحضارة والحفاظ على روح الوطن الحقيقية، مع بذل ما يلزم من معالجة تحافظ على المنطقة وغيرها من المناطق والآثار بوصفها جزءا من اللحظة التاريخية التي ظهرت فيها، أو متحفا مفتوحا يتم التعامل معه بالتنظيم، بدون الإخلاء، والتجديد بدون القضاء على القديم، والتقنين بدون الجور على روح المكان والبشر وحقهم في الحياة والعمل والحفاظ على مهن الأجداد وذكريات التاريخ التي تستحق أن تعيش وتتنفس وتنمو.