لا استقرار في العراق إلا باقامة حكم وطني

أربعاء, 2014-11-26 23:46
جمال محمد تقي

كما هو معروف، هناك حشد شيعي عراقي يتجاوز تعداد مقاتليه 150 الفا، مدعومين بخبراء ايرانيين وعناصر مقاتلة من صنف النخبة في فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، الذي يخضع حصرا لأوامر المرشد الأعلى علي خامنئي ومن ينتدبهم من قادة حركيين، كقاسم سليماني، الذي أصبح مرجعا للحشد الشيعي العراقي، وصمام أمانه، إضافة لمهمته الأولى المتلخصة بابقاء حكم بغداد بقبضة الأتباع من طائفيي شيعة العراق.
سبق هذا الحشد الشيعي، تحشيد كردي دفين، كانت نواته ميليشيات البيشمركة التي تحولت تدريجيا من مجاميع عشائرية متهربة من أداء الخدمة العسكرية الوطنية الى فصائل مسلحة متمردة. الحشد الكردي بلغ مستوى يضاهي فيه الحشد الشيعي حكوميا كان أم ميليشاويا، فتعداد البيشمركة بلغ اكثر من 175 الفا، يضاف لهم 20 الفا من عناصر الأمن، (الاسايش)، ناهيك عن الشرطة المحلية، وقد استولوا على الكثير من الاسلحة الثقيلة التابعة للجيش العراقي السابق وقد تركت لهم قوات الاحتلال الأمريكي انواعا من الأسلحة المستخدمة ولديهم مستشارون ومدربون.
لم يبق متخلفا عن الركب الا الحشد السني، فما زال هو العقدة، مشروع الصحوات واخواتها لم يثمر ولم يثمر كذلك لا قبله ولا بعده تطلع الاخوان المتأسلمين في العراق والمتمثلين في «الحزب الاسلامي»، وذات الشيء ينطبق على مساعي الكرابلة والاخوين نجيفي ومن جاراهم، مما دفع بالاستخباريين والطارقين على كل الابواب بالاستثمار في الصعود الصاروخي لتنظيم «داعش» وريث «القاعدة في العراق وبلاد الشام»، ومن عبث الاقدار والمفارقات التي لا تحصل الا عند الشعور بالانسداد المطبق، شاركهم في هذا الاستثمار البعض، ممن يعتبرون راية الأمة بمفهومها العلماني وليس الديني. 
اخيرا يريد البنتاغون موافقة الكونغرس على تكوين حشد سني (الحرس الوطني)، معترف به من قبل بغداد له ما لحشود البيشمركة والحشد الشيعي وعليه ما عليها. حكام بغداد الشيعة لا يعارضون علنا ذلك لكنهم يعارضونه ضمنا، لأن إيران قلقة من أن يكون هذا الحشد السني واحدا من أوراق الضغط على نفوذها في العراق، أي ليست معارضتهم له نابعة من خشيتهم على وحدة العراق، والدافع نفسه عند قيادة إقليم كردستان، عندما دعمت تظلمات أهل السنة وظيفة العديد من المختلفين مع حكام بغداد من الشيعة، كل هذا بدافع تعميم نهج الفدرلة والضغط على الشيعة لإقرار واقع التقسيم. 
مازال الفاعلون في قرار أهل السنة في العراق، هم من المتشربين بروح الوطنية العراقية، هم من دعاة الجيش العراقي الواحد والخدمة الإلزامية، من دعاة مجلس الخدمة العام الذي لا يعين أحدا في الدولة الا لمؤهلاته وليس بسبب حصص طائفته او إثنيته او عشيرته، من دعاة المركزية الوطنية المتكاملة مع متطلبات الحكم المحلي في الأطراف، من دعاة الجنسية الواحدة التي لا ذكر فيها لإثنية او مذهب، من دعاة المنهج التعليمي الواحد الذي يوحد ولا يفرق.. يرتقي ولا يتقوقع، مع هؤلاء الأغلبية الصامتة من أهالي الجنوب وبغداد واربيل، وعليه فهم الان لا يمثلون بمواقفهم تلك اهل السنة، انما مواقف كل عراقي أصيل لم يصب بلوثة التفرقة والانقسام الاثني والطائفي.
لم يبق ما يعطل انطلاقة مشروع الحشود المتوازية في العراق، الذي هو ترجمة عملية لرؤية بايدن المنسجمة مع الاستراتيجية الأمريكية الداعية لشرق أوسط جديد تتآكل فيه لحمة بلدانها وتنفطر دولها الى دويلات لا يربطها غير التنازع، لتموت تماما، وتندثر معها أي روح جامعة وأي منبع ثقافي وحدوي عربي إسلامي ينعش جذوة التحرر الحقيقي والتنمية التكاملية، التي لا تستوفي شروط انطلاقتها الا بمشروع نهضوي، يدمج ما هو وطني بما هو قومي بما هو إنساني، يكون للمجموعة العربية فيه دور بارز ينسجم مع ثقلها الذي يراد مصادرته بعد نجاح مسلسل استغراقه بالانقسامات المفعلة طائفيا واثنيا ومناطقيا.
مكتوب على العراق أن ينقسم كما انقسم السودان، الذي سينقسم لاحقا شماله ايضا الى شرق وغرب، مطلوب ان تتقسم سوريا وتتبعها لبنان، وكذا مصروليبيا والجزائر واليمن. نعم، في المرحلة الاولى سيقتصر الانقسام في الجمهوريات، ليأتي الدور ثانيا على دول الاردن والمغرب والسعودية وكل إمارات الخليج التي وإن تحولت إلى إمارات آسيوية بفعل التغيرات الديمغرافية فيها، فان ذلك لن يعفيها من الانقسام الذي سترسم ملامحه تلك المتغيرات ذاتها.
لقد تحول الصراع في المنطقة من صراع عربي ـ اسرائيلي لاسترداد الأراضي العربية المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية السيدة على ارضها المحتلة عام 1967، وصراع من أجل الديمقراطية والتنمية، إلى صراع إقليمي شيعي سني. والأخطر فيه ما يراد له أن يكون صراعا مجتمعيا، حيث لا يُكتفى بصراع الأنظمة والدول وإنما يدفع ليشارك فيه كل أفراد المجتمعات التي استقطبت دولها في المحور الشيعي، الذي تقوده إيران، أو المحور السني الذي تقوده السعودية وتركيا، وتجيير أي حركة شعبية للتغيير بمسحة هذا الصراع المفتعل.
هناك ألف علامة استفهام على صعود نجم «داعش» وبهذا الزخم وبهذا التوقيت تحديدا، لأن الأطراف المستفيدة منه عديدة، وإمكانية تكييفه لخدمة أي طرف من أطراف الصراع واردة جدا، فالنظام في سوريا استثمر في هذا الانتشار «الداعشي» لأنه سيسهل عليه مهمة تسويق المعارضة على أنهم «دواعش» أو من اخواته. وإيران مستفيدة من حالة التردد الأمريكي في التعامل مع التمدد «الداعشي»، ولصوص الحكم في العراق مستفيدون أيضا لان «داعش» بالنسبة لهم كالحريق الذي يشب في المخازن المسروقة وهو سيجعلهم بمأمن من المساءلة، فالخزينة خاوية ليس لأنها منهوبة وليس لأن القائمين عليها من الجهلة ومن عديمي الرؤية الوطنية، وإنما لأنها منهكة بتمويل قتال تنظيم «داعش»، وهذا ما يقتضي إغداق الأموال للحشد الشيعي والجيش الطائفي المطعمة قيادته ببعض الاسماء الكردية والسنية.
أمريكا مستفيدة من التمدد «الداعشي» لانه يوفر لها فرصة اخرى لإجراء تعديلات على معادلة التوازن الهش بينها وبين إيران في العراق، وأيضا لإعادة فرص التدخل المباشر في سوريا. وتركيا مستفيدة لأن التمدد «الداعشي» أعطاها ميزة التحكم غير المباشر بمسار الأزمة السورية والعراقية، إضافة إلى فرصة جديدة للنيل من مسلحي حزب العمال المعارضين لها.
كل المؤشرات تدلل على أن حشدا سنيا لن يكون، حتى إن تشكلت صحوات جديدة او تشكل ما يسمى بـ»الحرس الوطني»، لأن كل الدلائل والوقائع تقول بأن لأهل المناطق الغربية في العراق تجربة ثرة تجعلهم يوقنون أكثر بان لا استقرار وإعادة بناء وعدالة إلا باقامة حكم وطني يقوم على أسس من المصالحة الحقيقية، بين كل الأطراف السياسية الفاعلة في العراق، بما فيها تلك المناوئة للعملية السياسية القائمة، وإلا ستبقى المقاومة مستمرة كما كانت قبل «داعش» او بعده.