أحزان المليون مصري

أحد, 2016-05-22 17:36
عبد الحليم قنديل

على مدى عام كامل، دعونا إلى تنظيم حملة وطنية واسعة لإخلاء سبيل عشرات الآلاف من المعتقلين أو المحتجزين بغير تهم العنف والإرهاب المباشر، ووصفنا المطلوب مرات بأنه «إخلاء سبيل مصر» .
وباستثناءات عابرة لأعداد صغيرة أطلق سراحها، فقد ظلت المأساة تتفاقم وتتضخم، وصارت ورما سرطانيا في قلب مصر الموجوعة، وسيق المئات الإضافيين إلى السجن المغلظ في الأيام الأخيرة، ولمجرد أنهم اعترضوا على اتفاقية «تيران وصنافير»، ونظموا مظاهرات سلمية محدودة، خلت من الشغب والعنف، ولم تصب فيها بأذى أي ممتلكات عامة أو خاصة، وكان نصيبهم السجن لمدد طالت إلى خمس سنوات، وصدرت الأحكام في أيام، وشملت شبابا أغلبهم دون سن العشرين، ربما لا يعرفون أين تقع «تيران وصنافير» أصلا، لكن الغضب متعدد الموارد شحن نفوسهم، ودفعهم إلى مجرد التعبير عن رأي هم أحرار فيه، وكان يمكن تركهم لحال سبيلهم، أو الإفراج عنهم بعد ساعات من احتجازهم، وعلى نحو ما جرى لمئات سبقت في مظاهرات ما عرف بيوم «جمعة الأرض»، لكن الرشد الموقوت لسلطة غاشمة سرعان ما غاب، وبرزت روح انتقام عظيمة الغباوة، وتجبر عليهم جهاز الأمن، ووجهت لهم تهم عشوائية من نوع قلب نظام الحكم، وكأن الحكم ريشة في هواء، يلعب بها الشباب في مباريات ـ أو مظاهرات ـ «الكرة الطائرة»، فالحكم الذي يخاف من تظاهر مئات لا يستحق البقاء، وقد تظاهر ملايين الفرنسيين ضد قانون العمل، رغم إعلان حالة الطوارئ، ورغم موجة إرهاب عاتية تعرضت لها باريس، ولم يقل أحد هناك أن ضمان الأمن يتعارض مع حق التظاهر، ولا اتهموا المتظاهرين بالسعى لقلب نظام الحكم، ولم يقبض إلا على عدد محدود من المتظاهرين ارتكبوا أعمال عنف وشغب، ويحالون إلى محاكمات لا تنتهى عادة إلى سجن نافذ مغلظ أو مخفف، بل يحرص القضاة على أن تكون أحكام السجن في حال التظاهر مشفوعة دائما بإيقاف التنفيذ مع الغرامة.
ومن العبث بالطبع أن نتحدث بالعقل إلى جهات الأمن، فقد جبلت على مواريث الغباوة، ولا أن نتحدث عن قضاة الأحكام المغلظة، فهم يحكمون بما تيسر لهم من أوراق، ومن تكييف للتهم في تحقيقات النيابة، ومن قوانين ظالمة لم يصنعوها ولا شرعوها، ومن نوع القانون العجيب الشاذ المعروف باسم قانون تنظيم التظاهر السلمي، والمطعون عليه قضائيا أمام المحكمة الدستورية العليا منذ قرابة السنتين، وقد صدر في وقت تولي المستشار عدلي منصور مسؤولية الرئاسة المؤقتة، ثم عاد منصور عقب انتهاء رئاسته للجمهورية إلى مقعده في رئاسة المحكمة الدستورية، ولا نريد أن نخاطر بتفسير سر تأخر المحكمة الدستورية في نظر الطعن، اللهم إلا إذا كان قضاة المحكمة الدستورية يستشعرون الحرج، ويؤجلون النظر في طعن على قانون أصدره رئيسهم، وربما إلى نهاية فترة رئاسة عدلي منصور للمحكمة، ونتمنى ألا يكون ذلك صحيحا، وإلا كان معناه اتصال مأساة عشرات الآلاف من الأسر، غاب أبناؤها وراء الأسوار بسبب نصوص القانون الظالم، وبدون أن ينسب إليهم عنف، ولا نية بالشروع في عنف، وكل جريرتهم، إن كانت هناك جريرة من الأصل، أنهم تظاهروا سلميا، والتظاهر حق دستوري، لا جريمة فيه، وبغير إذن ولا ترخيص من وزارة الداخلية، فالدستور يؤكد الحق في التظاهر والإضراب والاعتصام السلمي، وبغير ترخيص من وزارة الداخلية ولا من غيرها، وبمجرد الإخطار القانوني المسبق، بينما أسقط القانون الظالم نصوص الدستور القطعية من حسابه، وجعل وزارة الداخلية هي الخصم والحكم، وأتى بعقوبات مفزعة، تجعل ممارسته الحق في التظاهر السلمي مستحيلا، وربما مقصورا على فئات ممن يسمون «المواطنين الشرفاء» بالتعبير المصري الدارج الساخر، وهم زرافات من البلطجية وأرباب السوابق والبؤساء في قاع المدن، تجلبهم أقسام الشرطة من دفاترها إلى مظاهرات تعيسة كسيحة العدد، وتصور لهم أنهم ذاهبون إلى معارك ضد «أعداء الوطن»، وهي التسمية التي تلصق بالغالب الساحق من المصريين الناقدين، وبالفئات الحية بالذات، وعلى طريقة تكرر مأساة عسكري الأمن المركزي في فيلم «البريء»، الذي لعب دور بطولته ببراعة أحمد زكي، أفضل ممثل في تاريخ السينما المصرية على الإطلاق، وجسد محنة مواطن نزعوا عقله وقلبه وضميره، وحولوه إلى سكين يذبح أهله، وإلى بلدوزر يدهس أسرته، وعلى نحو ما بدا في ممارسات قبيحة قديمة متجددة، كان عنوانها الأبرز «حبيب العادلي» وزير الداخلية الأخير في أيام المخلوع مبارك، ويستعيدها الآن من يريدون إعادة ارتداء جلباب حبيب العادلي، وبدون وعي باختلاف الظروف بعد الثورة المصرية، وتفتح وعي ملايين المصريين، وسقوط حواجز الخوف، وهو ما لا يدركه الحالمون بالعودة لارتداء جلباب حبيب العادلي، فهم ينسون أو يتناسون شيئا غاية في البساطة، وهو أن شعب حبيب العادلي «تعيش أنت»، وأن العادلي نفسه تحول إلى متهم مطارد، ويحاكم الآن مجددا بجريرة إهدار مليارات الجنيهات في مصاريف الأمن السرية، وهي الجريمة التي تتكرر الآن، ويظن مرتكبوها أنهم سيفلتون من عقاب مقبل لا محالة.
ما علينا، المهم الآن أننا بصدد مأساة متفاقمة، تعانيها عشرات الآلاف من أسر المحتجزين في غير تهم العنف والإرهاب المباشر، وتحطم مستقبل شباب في عمر الزهور، وكل شاب معتقل هو أهم رأسمال في حياة أمه وأبيه، وكل أسرة صغيرة مكلومة، ترتبط بأربع أسر أخرى على الأقل بعلاقات القرابة والنسب والمصاهرة، وهو ما يعني أننا بصدد دائرة متسعة جدا من انتشار الأحزان، تطوي أعدادا قد تصل إلى حدود المليون مواطن مصري، تحترق قلوبهم وأكبادهم على ذويهم المحتجزين، ويبيتون على ضيم، وعلى كراهية ظاهرة ومستترة للصامتين جميعا، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، وقد دعونا مرارا إلى مغادرة مقاعد الخرس، وإدارة حملة وطنية لتبييض السجون السياسية، وبدون تمييز ولا استثناء سياسي أو جيلي، ولم يتحرك أحد إلا لماما، وفي صورة حقوقية باهتة، يحسن أن نحذر من اختلاط في أوراقها، وتورط بعضها في تمويل أجنبي نرفضه، ونتحدى الدولة الكسيحة أن تصدر قانونا يمنعه، وقد طالبنا بذلك على مدى ربع القرن الأخير، وبدون أن تستجيب الدولة المتورطة في اقتصاد التسول وسياسة «الشحاتة»، وهو ما يوجب الابتعاد عن هذا المستنقع كله، وطرح قضية المعتقلين على بساط وطني خالص، يستهدف إنقاذ عشرات الآلاف من زهرة شبابنا، وإنهاء أحزان قرابة المليون مصري من المرتبطين بهم نسبا، وأول وآخر دعوانا هي الالتزام بالدستور، الذي تصطدم به تغليظات قانون التظاهر الظالم، والذي تأخرت المحكمة الدستورية في تقرير إنهاء العمل به، ولا يتوقع أحد أن يلغيه «الميني برلمان» المنتخب من «ميني شعب»، فهو أسير للذين صنعوه من جماعة البيزنس وجماعة الأمن، ولا يتبقى بعد استنفاد السبل الممكنة نظريا، سوى أن نضع الجرس في رقبة القط، وأن نحمل المسؤولية للذي يتحملها فعلا، فالرئيس السيسي هو المسؤول سياسيا عن احتجاز عشرات الآلاف من الشباب، وقد اعترف مرات بالمظالم الهائلة التي وقعت بحقهم، ووعد بالإفراج عن دفعات، ولم ينفذ سوى النزر اليسير العابر، بل إن المئات القليلة التي أفرج عنها، حلت محلها الآلاف من المحتجزين الجدد، وقد يتحدث الرئيس السيسي عن إنجازات وإنشاءات مادية لا ينكرها أحد عاقل، لكن الإنجازات المادية لا تحجب حقيقة الإخفاقات السياسية والإنسانية، فلا يعقل أن يتحدث الرئيس السيسي عن 2016 كعام للشباب، ثم يتحول العام نفسه إلى موسم لسجن الشباب، ولا يعقل أن يشيد الرئيس بحماسة الشباب وغيرتهم على الوطن، ثم لا يكون نصيبهم إلا السجن في عهده، ويملك الرئيس بصلاحياته الدستورية أن ينهي مأساة المليون مواطن مصري، وأن يقررعفوا شاملا، يتم به إخلاء سبيل ذويهم، وبحسب تفرقة صريحة بين الإرهاب والسياسة، فالمتهم بالإرهاب له أن يحاكم، والمتهم بالسياسة والتظاهر ليس مكانه السجن أبدا، هذا إن كنا نريد إقرار الحد الأدنى من العدالة في هذا البلد، فذهاب الشباب إلى السجون عار علينا جميعا، عار على من فعل وتواطأ، وعار على من صمت.

٭ كاتب مصري