لأن عملية مخيم «البقعة» الفلسطيني، التي استهدفت مركزًا للمخابرات الأردنية وأسفرت عن استشهاد خمسة من «مرتبات» هذا المركز، هُمْ أربعة ضباط صفٍّ وموظف مدني واحد، كانت قد سبقتها بفترة قصيرة عملية إرهابية شارك فيها نحو عشرة من القتلة قيل إنها استهدفت أساسًا مخيم إربد للاجئين الفلسطينيين، فقد ساد اعتقاد وسرت شائعات ساهمت في نشرها وتعميمها بعض وسائل الاتصال الجماهيري (المواقع الإلكترونية) بأن المقصود هو إثارة فتنة في الأردن، وبالتالي نقل ما يجري في سوريا المجاورة أو بعضه إلى هذا البلد (المملكة الأردنية الهاشمية) التي يرى البعض أنَّ استقرارها، رغم كل هذه العواصف التي استمرت تضرب هذه المنطقة منذ أكثر من خمسة أعوام، يعتبر معجزة فعلية وحالة نادرة.
ولعل ما عزز هذا الاعتقاد أنَّ هناك من لجأ إلى فتح ملف ما يُدعى «الكونفدرالية» الأردنية – الفلسطينية، التي كان قد جرى الحديث عنها في فترة سابقة بعيدة، وحيث أدت العودة إلى الحديث عن هذه المسألة إلى إثارة كثير من الأسئلة والتساؤلات، وذلك رغم نفي الجهة المعنية وحقيقة الشخص المعني الذي لم تعد له أي صفة رسمية منذ فترة طويلة، والسبب أنه صدر عن الإسرائيليين شبه تأييد لهذه الفكرة، كما صدر عنهم أيضًا ترحيب غير واضح بمبادرة «الحل العربي» التي أقرتها قمة بيروت العربية عام 2002.
والمعروف أن منظمة التحرير الفلسطينية التي لا تزال تتمسك بقرار قمة الرباط الشهيرة عام 1974، الذي نصَّ على أنها «الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني»، إنْ هي رحبت - ولا تزال ترحب - بالمبادرة العربية الآنفة الذكر، فإنها رفضت وترفض أي مفاوضات عربية – إسرائيلية، كما أنها بالتأكيد ترفض فكرة العودة إلى حكاية الكونفدرالية أو الفيدرالية الأردنية – الفلسطينية، قبل أن يقرر الفلسطينيون مصيرهم بأنفسهم، ويقيموا دولتهم المستقلة على حدود يونيو (حزيران) عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. وحقيقة أنَّ هذا كله يؤيده الأردن، ويتمسك به، وليس له أي خيار بالنسبة لهذا الأمر إلا هذا الخيار.
وهنا، فإن ما أثار بعض المخاوف لدى بعض الأوساط الأردنية غير الرسمية، وربما الرسمية أيضًا، هو أنَّ عملية تل أبيب الأخيرة، التي نفذها اثنان من الشبان الفلسطينيين لا يزال غير معروف انتماؤهما التنظيمي، قد تدفع هذه الحكومة الإسرائيلية المتطرفة التي عنوانها بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه أفيغدور ليبرمان إلى استغلال هذه الظروف العربية المزرية، وهذا الوضع الدولي السيئ، في القيام بعمليات إبعاد وتهجير للفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأردن، وعلى غرار ما كاد يحصل في أكثر من مرة في الفترات السابقة لولا بعض التدخلات الدولية الفاعلة، خاصة تدخل الاتحاد السوفياتي، وهذا يجب أن يقال، الذي كان قد انهار في بدايات تسعينات القرن الماضي، وكان بديله روسيا الاتحادية التي نسج نظامها الحالي عرى علاقات مع إسرائيل «الليكودية» أثارت لدى العرب وبعض الدول العربية كثيرًا من الأسئلة والتساؤلات التي لا تزال بلا أي أجوبة وأي إجابات حتى الآن.
ولعل ما يعزز شكوك ومخاوف الذين أثارت مخاوفهم عملية إربد وعملية «البقعة» الإرهابيتان أن الأردن، الذي من حسن حظه أنه امتلك مبكرًا جيشًا محترفًا منضبطًا قويًا وأجهزة أمنية تعتبر أفضل أجهزة أمنية في هذه المنطقة ومن بين أفضل الأجهزة الأمنية في العالم كله، قد تعرض على مدى سنوات ما بعد بدء «الربيع العربي»، وقبل ذلك، إلى محاولات نقلٍ لما يجري في سوريا إليه، وتحويل حدوده الشمالية إلى حدود مع إيران ومع «داعش»، وأيضًا مع حزب الله ومع كثير من التشكيلات والشراذم المذهبية والطائفية المستوردة من دول قريبة وبعيدة.. ومن كل حدبٍ وصوب.
ولم تتوقف عمليات التسلل ومحاولات اختراق حدود الأردن الشمالية حتى ولو ليوم واحد على مدى الخمسة أعوام الماضية، ويقينًا لولا تماسك الشعب الأردني بكل منابته وأصوله أولاً، ولولا استعداد ويقظة قواته المسلحة (الجيش العربي) وتفوق أجهزته الأمنية ثانيًا، ولولا حكمة قيادته والتصاقها الدائم بشعبها ثالثًا، لكان الأردن يعيش الآن أوضاعًا غير هذه الأوضاع المستقرة، ولكان قد أصبح عبئًا أمنيًا على الدول الشقيقة المجاورة، خاصة المملكة العربية السعودية التي بقيت على مدى نحو قرن بأكمله مطمئنة اطمئنانًا كاملاً لأوضاع حدودها مع المملكة الأردنية الهاشمية.
ثم إنه لا شك في أنَّ هناك مخاوف دائمة لدى الأردنيين من أن تستغل إسرائيل «الليكودية» ظروفًا عربية بائسة وسيئة وأوضاعًا دولية مرتبكة بسبب تهديدات «داعش» وتحدياته، وتلعب مع الأردن ومع الأشقاء الفلسطينيين، أعانهم الله، لعبة التهجير الجماعي لبعض سكان الضفة الغربية، أو لهم كلهم. وهذا يتوقف في حقيقة الأمر على مدى استمرار مقدرة الأردن على مواجهة كل محاولات الاختراق المستمرة لحدوده الشمالية، وكل محاولات سعي المتآمرين من الخارج بالتعاون مع بعض «عملاء» الداخل لخلق فتنة داخلية بين أبناء الشعب الواحد من أردنيين وفلسطينيين. وهنا، فإنه بالإمكان التأكيد على أن هذه المحاولات كلها سوف يكون مصيرها الفشل الذريع، كما فشلت محاولات سابقة كثيرة.
إننا نستطيع التأكيد وبكل ثقة على أن الشعب الفلسطيني سيبقى متمسكًا بوطنه، وأنه سيقاوم كل المؤامرات الإسرائيلية وكل محاولات اقتلاعه من هذا الوطن ورميه شرق نهر الأردن، وكذلك فإنه لا بد من التأكيد على أن الأردنيين كلهم على اختلاف منابتهم وأصولهم يشكلون شعبًا واحدًا موحدًا، وأن هذا الشعب بقي يقبض على وحدته الوطنية وتماسكه كما يقبض على الجمر، وهذا قد تجلَّى بكل صوره التي تبعث على الفخر والاعتزاز حتى في بدايات سبعينات القرن الماضي، في تلك الفترة التي كانت في غاية الصعوبة، والسبب كان تلك التدخلات الخارجية التي من المفترض أنها كانت معروفة في البدايات وفي النهايات.. وحتى الآن.
إن عملية «البقعة» الأخيرة، وسواء أكانت فردية أم أنه سيتم اكتشاف أن وراءها إما شبكة إرهابية كـ«داعش» أو غير «داعش» أو استخبارات دولة معادية كإيران، قد تتكرر وأكثر من مرة، فالأردن يقع في منتصف حلقة نارية ملتهبة، لكن ما هو مؤكد وبكل قناعة تستند إلى حقائق صحيحة ومؤكدة، أن هذا البلد بتماسك شعبه وبحكمة قيادته وبمقدرة قواته المسلحة (الجيش العربي) ويقظة أجهزته الأمنية (خاصة المخابرات العامة) سيبقى عصيًا على الاختراق، وستبقى أمواج الفتنة ترتطم بجدران حدوده الشمالية وتعود لتضرب الذين أرسلوها والذين دأبوا على إرسالها خلال الأعوام الخمسة الماضية.. لقد أفشل الأردن على مدى الأعوام الخمسة الماضية حتى الآن كثيرًا من محاولات استهدافه من الداخل ومن الخارج أيضًا، والمؤكد أن هذه المحاولات ستتواصل وستستمر ما دامت أوضاع سوريا هي الأوضاع المتفجرة، وما دامت إيران تتدخل كل هذا التدخل السافر في الشؤون العربية الداخلية، وأيضًا ما دامت روسيا تتخذ هذا الموقف المُستغرب الذي تتخذه.