في كتابه الذي نشر في عام 1986 بعنوان “قراصنة و أباطرة: الارهاب الدولي في العالم الحقيقي”، اراد المفكر الامريكي الشهير، نعوم تشومسكي، ان يميز بين افعال ‘القراصنة الصغار’ من جهة ‘والاباطرة ‘و هم ‘القراصنة الكبار’ من جهة اخرى و بالتالي أن يبين إن الارهاب الحقيقي هو من صناعة القراصنة الكبار أي الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص.
و يوضح ان مصطلح ‘الارهاب’ استخدم لأول مرة في نهاية القرن الثامن عشر لوصف اعمال العنف التي تقوم بها السلطات من اجل قمع و اخضاع جماهيرها و لكن هذا المصطلح أصبح غيرمستخدم فيما بعد لوصف ارهاب الدولة،و ذلك لان القوى المسيطرة اليوم على السلطة اصبحت قادرة على قمع و’ ضبط الفكر’ دون استخدام العنف المباشر لاخضاع جماهيرها الى رغباتها و بالتالي اصبح مصطلح الارهاب مستخدما لوصف ‘الارهاب بالقطعة ‘ أي ارهاب الافراد او المجموعات الصغيرة بينما كان سابقا مستخدما لوصف’أفعال الاباطرة بشعوبهم’، فأصبح الآن يعبرعما يفعله الصغار في الاقوياء .
و يشيرتشومسكي بهذا الصدد الى الحملة الكبرى التي شنها رونالد ريغان ضد “الارهاب الدولي” في عام 1981 و التى اعتمدت على كتاب ‘كلير ستيرلينغ’ المبني على فرضية اساسية وهي ان الارهاب الدولي اداة من ايحاء سوفياتي “تهدف الى زعزعة الاستقرارفي المجتمع الديمقراطي الغربي” و استمر مفكرون آخرون مثل ‘والتر لاكور’ في محاولة اثبات هذه المقولة عبر تبيانه ان الارهاب يصيب المجتمعات الديمقراطية فقط.
و يضيف تشومسكي ان الحقيقة في العالم الواقعي و ليس العالم المبني على الخيال الأمريكي “الأورويلي’” معاكسة لذلك لان اكثر ضحايا الارهاب في العقود الاخيرة هم من الكوبيين و من شعوب امريكا الوسطى و من الشعوب العربية، مثلا لبنان، فعندما تقصف اسرائيل مخيمات فلسطينية او بلدات لبنانية و تقتل و تدمر و تخطف بواخر و تأخذ رهائن لا يعتبر الامريكيين ذلك ارهاب.
فمقاييس الامبراطورية و اعوانها تنفرد في اسلوبها حيث تستثني كل الأفعال الارهابية الصادرة عنها من تعريفها للارهاب وتعتبر ان اى عمل يشن ضدها كفعل شديد الاهمية يجب معالجته بجدية و يتطلب “دفاع عن النفس″ بينما لا تعتبر ما يمارس من ارهاب على الآخرين جديرا بالاهمية و حتى بالذكر كما لا يتطلب أي رد فعل من الطرف الآخر.
ويكرس نعوم تشومسكي الفصل الاول من كتابه لما يسميه “ضبط الفكر” و يعالج فيه الحالة في الشرق الاوسط بشكل خاص، ليبين كيف يقوم المفكرين و السياسيين في الولايات المتحدة “صناعة الاجماع″ ، و يحلل كيف تستخدم الولايات المتحدة مثلا مصطلخ ” عملية السلام” لتعني به فقط التصورات و المفاهيم الامريكية للسلام، حيث يصنف كل من يرفض هذه الافكار كرافض و معارض للسلام، و بالتالي تؤلف مصطلحا جديدا لتصنفهم ‘بالرافضين للسلام’ ، و لذلك لا تعتبر الولايات المتحدة اية اقتراحات او مشاريع سلمية معروضة من قبل اطراف اخرى و ليست من فبركتها كمشاريع سلام.
و يشير تشومسكي بهذا الصدد إن أنور السادات كان قد تقدم منذ عام 1971 بمبادرة سلمية حول”الحدود المعترف بها دوليا ” بناءعلى المواقف الامريكية الشائعة في ذلك الحين، و لكن الادارة الامريكية وإعلامها و محلليها تجاهلوها تماما و تم شطبها من السجل التاريخي لكي تبقى الرواية المتداولة في الولايات المتحدة إن السادات ليس الا “بلطجي عربي ” يريد قتل اليهود و لكنه تاب بعد حرب اكتوبر عندما فشل في تدمير اسرائيل،فأصبح رجلا محبا للسلام استجابة للرعاية الطيبة لكيسنجر و كارتر، بينما تشيرالحقائق، في رأي تشومسكي ، إن حرب اكتوبر كانت نتيجة ل’جهل’ كيسنجرالمقصود و تصميمه على ضرورة الاعتماد على الصدام العسكري في الشرق الاوسط .
و يشير الكتاب الى عدة مبادرات سلمية قدمت من قبل الدول العربية و الاتحاد السوفيتي بعد ذلك و رفضت من قبل الولايات المتحدة مثل مبادرة عام 1976 التي مارست ضدها الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) و التي ادت فيما بعد الى هجوم اسرا ئيلي على لبنان مما أدى الى مقتل خمسين شخصا وكان ذلك في عهد حكم رابين الذي أشار في مذكراته الى وجود نمطين من التطرف: أي تطرف بيغن اليميني و تطرف منظمة التحرير الفلسطينية التي تطالب “بإنشاء دولة ذات سيادة في الضفة الغربية و غزة” مستثنيا طبعا مواقف حزب العمل من التطرف و هي وجهة النظرالمعتمدة من قبل الاعلام الامريكي .
و من حرب اكتوبرفي عام 1973 الى رفض المبادرات السلمية في السبعينيات، يستمر تشومسكي في التوضيح كيف تقوم الولايات المتحدة بمساعدة وبدفع من اللوبي الصهيوني في فبركة الاجماع لصالح اسرائيل و في ممارسة “غسل الادمغة تحت ستار الحرية” و خاصة عبر الادعاء بأن هناك حوارا حرا بين الحمائم و الصقور و اللذان لا يختلفان في الاهداف و لكن في الاساليب المستخدمة للتوصل اليها أي الاستخدام المتشدد للعنف او الاستخدام المتزن للعنف الخ….
و من الجدير بالذكر في كتاب تشومسكي، و في هذا الشهر بالذات، هو اهتمامه بسرد مفصل لما حدث في تونس في اول شهر تشرين الاول( اكتوبر) من عام 1985 عندما أغارت طائرات اسرائيلية عل حمام الشط و قصفت مقر الرئاسة الفلسطينية هناك قائلا:” وصل بيريس الى واشنطن للنقاش حول “السلام ” و “الارهاب” مع شريكه في الجريمة (أي ريغان) فورا بعد ما ارسل طائرته الحربية للهجوم على تونس و الذي تسبب في مقتل 20 توسيا و 55 فلسطينيا ، حسب ما جاء في تقرير الصحفي الاسرائيلي أمنون كابليوك الذي غطى الحدث بشكل مباشر” و الذي قا ل” إن الهدف المصاب كان غير محصنا و بلا دفاع حيث كان اصلا منتجعا صيفيا يضم عشرات البيوت و الفيلات المتواجدة بجوار مكاتب منظمة التحرير وكان من الصعب التمييز بين البيوت و المكاتب المتشابكة حتى عن قرب ” كما أشار إن الاسلحة التي استخدمت في هذه الضربة كانت أكثر تطورا و فتكا من الاسلحة التي استخدمت في بيروت أي نوع من” القنابل الذكية” التي تحول اهدافها الى رماد “فالاشخاص الذين كانوا داخل البيوت المصابة تمزقت اجسادهم بحيث لم يكن ممكنا التعرف عليهم” و يذكر تشومسكي انه حصل على بعض الصور للدمار الهائل و ا التي لن تقبل في رأيه اية جريدة أمريكية من نشرها لكي لا يكون هناك أثرا و شاهدا لهذا الارهاب، فبعض الذين اخرجوا من منطقة القصف أحياء دون جروح مرئية ، فارقوا الحياة فيما بعد حيث كانت اعضائهم الداخلية قد تمزقت من شدة القصف.
و قد اشار كابليوك ان الضربة الاسرائيلية على تونس كانت تستهدف ياسر عرفات حيث وجدت في مكتبه، بعد الهجوم، صورة له فوق الدمار يقول فيها “كانوا يريدون قتلي بدل من التفاوض معي” و حسب تشومسكي ليس هناك أي شك بوجود تواطؤ أمريكي في عملية الهجوم الاسرائيلي على تونس، حيث كان الاسطول السادس و اجهزة المراقبة الخاصة به في المنطقة و كانت الطائرات الاسرائيلية تتزود بالوقود في المتوسط و لكن الولايات المتحدة قررت أن لا تعلم حلفائها العرب ان القتلة كانوا في الطريق و قد جاء في جريدة ‘اللوس انجلوس تايمز′ ان “التقارير المعلوماتية تشير ان الاسطول السادس كان على علم بالغارة و قرر عدم إعلام المسؤولين التونسيين”. و بينما لم تشير صحف امريكية اخرى الى هذا التواطؤ، ذكر مراسل ‘الإكونومست’اللندنية إن “التواطؤ الامريكي الضمني مؤكد”، و كان احد ضحايا هذه الهجمة الشاب محمود المغربي الذي ولد في القدس في عام 1960 و الذي تم اعتقاله اثنى عشر مرة عندما كان في السادسة عشرة من عمره والذي كان شاهدا على عمليات التعذيب في سجون اسرائيل في تحقيق “الصنداى تايمز الللندنية” بعد أن كان قد هرب الى الاردن من طوق الاحتلال الاسرائيلي.
و كان شولتز، وزير الخارجية الامريكي اينذاك، قد اتصل بشامير، وزيرالخارجية الاسرائيلي، لإخباره بان الرئيس يؤيد الضربة الاسرائيلية في تونس. ولكن بعد ان اثار الهجوم الاسرائيلي ضجة عالمية اضطرت الولايات المتحدة الامتناع عن التصويت على قرار لمجلس الامن يدين هذا التدخل على أساس ا انه عدوانا مسلحا بتعارض مع ميثاق الامم المتحدة و القانون الدولي و الاعراف الدولية.
و يذكر تشومسكي في هذا الصدد ان الو جود الفلسطيني في تونس كان أصلا بناء على طلب من ريغان بعد الاجتياح الاسرائيلي لبيروت الذي أدى الى مقتل جوالى 20000 شخص و تسبب في دمار هائل، لدرجة ان أحد كبار الموظفين في وزارة الدفاع الأمريكية، البنتاغون، قد خبر زيف شيف المراسل العسكري لوزارة الدفاع الاسرائيلية “انكم استخدمتم مطرقة من اجل القضاء على ذبابة ” و “لقد قضيتم على كثير من المدنيين دون مبرر كما اننا صدمنا من معاملتكم للمدنيين اللبنانيين”.
و كما هو واضحا اليوم تستمر الامبراطورية بأعمال القرصنة في الشرق الاوسط بعد ان طورت اساليب حديثة و متطورة تسمح لها بفبركة “قراصنة صغار” على مزاجها ومن قلب منطقة الشرق الاوسط نفسها، مما يهيء لها الفرصة بصناعة إجماعا داخليا و عالميا تشارك فيه دولا من المنطقة يسمح لها بالاستمرار في القرصنة من أجل تدمير الشعوب و تاريها و بناها، و تسمح بالتالي لشريكها الاكبر و الاقدم في أعمال القرصنة بالبقاء و التوسع، ليس فقط كقوة محتلة دخيلة، بل كطرف مشارك، اصبح يشبه كل الدول الأخرى في المنطقة بعد ان تحولت الى شريكة في عمليات القرصنة .
رأي اليوم