«التجفيف» الصحيح.. لـ«منابع» الإرهاب

سبت, 2016-07-02 13:09
إياد أبو شقرا

ما شهدته العاصمة البنغالية دّكا بالأمس٬ وقبلها مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول «عاصمة» تركيا الاقتصادية والثقافية٬ وقبله ما عرفته باريس وبروكسل٬ ناهيك عن المحن التي تعصف بكيانات الشرق الأوسط٬ أحداث تؤكد ضرورة مواجهة المجتمع الدولي الإرهاب الإجرامي المرتكب زوًرا باسم الإسلام. القضية تجاوزت الاستنكار٬ وأضحى هناك حاجةُملّحة للتحرك الفعلي.

في أعقاب اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) على الولايات المتحدة خرج بعض أركان إدارة الرئيس جورج بوش الابن بمقولة «تجفيف منابع الإرهاب». وهذا الكلام صحيح تماًما. إذ لا بديل عن «تجفيف» منابع الإرهاب٬ والمعنى المقصود حرمان الإرهاب من بيئة حاضنة يترعرع فيها ويلقى منها الحماية.

غير أن إدارة بوش ارتكبت خطأين خلال الأيام الأولى من تعاملها مع كارثة 11 سبتمبر: الخطأ الأولى إسكاتها الأصوات البريئة للمواطنين الأميركيين العاديين التي تساءلت: «لماذا يكرهوننا؟»٬ إذ تفّنن أيديولوجيو اليمين المتطرف في تسخيف هذا التساؤل من منطلق أن لا أخطاء سياسية يمكن أن تبّرر إجراًما بهذه البشاعة. والخطأ الثاني شّن الإدارة حرًبا مفتوحة على «العدو» من دون تحليل ماهّية هذا «العدو»٬ ما أّدى إلى خلق حقائق على الأرض ساعدت هذا «العدو» على إيجاد البيئة الحاضنة..

مع أن الغاية الأساسية من الحرب كانت حرمانه منها.
بالنسبة للخطأ الأول٬ في مجتمع مصدوم كحال المجتمع الأميركي في خريف ٬2001 غّطت الحاجة للتضامن الوطني في وجه خطر داهم لم يعهده من قبل على أي حوار ديمقراطي عاقل ورصين. وغلّبت بعض القناعات والمصالح كفة الحلول العملية السريعة على المعالجة الاستراتيجية السليمة. ولم تكتِف إدارة بوش٬ يقودها «المحافظون الجدد»٬ بضرب تنظيم «القاعدة» وضرب حركة «طالبان» التي وّفرت له الحماية والدعم اللوجيستي٬ بل باشرت بتنفيذ مخطط قديم لا علاقة له باعتداءات سبتمبر هو إسقاط الأنظمة في الشرق العربي ابتداًء بنظام البعث في العراق.

يومذاك كانت «واشنطن – ما قبل باراك أوباما» والاتفاق النووي تنظر إلى إيران كدولة راعية للإرهاب. كيف لا وهي التي خّططت ونفذت عبر أدواتها في لبنان عمليات خطف الرهائن الأجانب – ومنهم أميركيون – وتصفية بعضهم٬ ومجزرة ثكنة «المارينز» في بيروت يوم 23 أكتوبر (تشرين الأول) ٬1983 حيث قتل 241 أميركًيا. تلك الأدوات التي أّسسها ونّظمها علي أكبر محتشمي بور سفير إيران في دمشق – الذي صار لاحًقا وزير الداخلية الإيراني – تحمل اليوم مسّمى «حزب الله».

هذا في لبنان. أما في العراق٬ وبمجرد إسقاط واشنطن نظام صدام حسين عام 2003 توافد على بغداد المحتلة من طهران قادة «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» (اليوم ُيعرف بـ«المجلس الأعلى الإسلامي»). ومن هؤلاءَمن قاتل في صفوف القوات الإيرانية ضد الجيش العراقي إبان الحرب العراقية الإيرانية (1980 – 1988 (ضمن «فيلق بدر». وللعلم٬ كان «المجلس» قد أسس برئاسة محمد باقر الحكيم٬ الزعيم الديني الشيعي العراقي المنفي في إيران٬ يوم 17 نوفمبر (تشرين الثاني) ٬1982 وجاء التأسيس برعاية رسمية إيرانية ضمن استراتيجية «تصدير الثورة» الخمينية.

تصاعد نفوذ إيران في العراق٬ بل وضع طهران اليد عليه٬ كما اكتشف خلال فترة قصيرة العسكريون البريطانيون المنتشرون في محافظات الجنوب العراقي٬ توازى مع بدء هيمنة «حزب الله» على لبنان٬ ووضع يده ليس على مؤسسات البلاد السياسية فحسب بل على مؤسساتها الأمنية أيًضا. وتأكد ذلك خلال السنوات التالية عبر محطات مفصلية في تاريخ لبنان الحديث٬ منذ خريف ٬2004 مع فرض التجديد لرئيس الجمهورية إميل لحود (حليف النظامين السوري والإيراني). ثم تصفية عدد من خصوم محور طهران – دمشق على رأسهم رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري. ثم خوض «الحزب» حرًبا ضد إسرائيل٬ عام ٬2006 تبين لاحًقا أن الغاية منها تثبيت إيران هدنة و«منطقة عازلة» مع إسرائيل تتيح استخدام «حزب الله» في مهام إقليمية أخرى مكلّف بها. وبحلول 2008 نجح «حزب الله» في أن يغدو فعلًيا ورسمًيا «دولة ضمن الدولة»٬ أكبر منها وأقوى ومع ذلك شريًكا في قرارها السياسي ومؤسساتها السياسية والأمنية.

وفي مارس (آذار) 2011 مع تفّجر ثورة الشعب السوري ضد نظام آل الأسد٬ الحليف العربي الوحيد لإيران في حربها مع العراق رغم «بعثية» النظامين٬ سقطت كل الأقنعة والشعارات.. وحّول «حزب الله» سلاحه شمالاً لقتال السوريين وإجهاض ثورتهم.

في هذه الأثناء كان نوري المالكي٬ رئيس الوزراء العراقي بين 2008 و2014 والحركي السابق في «حزب الدعوة» الإيراني التوّجهات٬ يمعن في حربه المذهبية المفتوحة مستنًدا إلى دعم طهران المباشر٬ ويستعدي حتى «الصحوات» العشائرية السّنية التي تصّدت (منذ 2006 (لتمدد تنظيم «القاعدة». وما يجب ذكره هنا أن وجود «القاعدة» في ذاك الحين ما كان له ليحصل لولا سياسة التشّفي والانتقام والتمييز الطائفي والكيدي التي مارسها المالكي ضد العرب السّنة. وبالتالي٬ بعدما أسقطت «الشيعية الإيرانية السياسية» الحاكمة في العراق٬ والمهيمنة على لبنان٬ والمتوّسعة عسكرًيا في سوريا بتواطؤ نظامها٬ كان من الطبيعي ظهور رد فعل مضاد. وحًقا تجّسد رد الفعل هذا في خلق بيئة حاضنة لتطّرف سّني يائس وانتحاري سرعان ما تبلور في تنظيم داعش. «داعش» الذي احتل الموصل ثاني كبرى حواضر العراق فعلًيا من دون قتال!
الظروف التي أوجدت «داعش» هي كما نرى ونعلم. والأجهزة التي ساعدت على ابتكار «داعش» واستغلاله وتوظيف إجرامه لا تراهن عبًثا ولا تترك شيًئا للمصادفات.

فهذا التنظيم الإرهابي ينفذ عمًدا أو من دون قصد ما هو مطلوب لإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط٬ وزّج العالم الإسلامي في حروب دينية (مع الغرب المسيحي)٬ ومذهبية (بين السّنة والشيعة)٬ وعرقية (عربية – تركية – كردية – إيرانية) لا تنتهي.

وعليه٬ لن يتيسر محو البيئة الحاضنة من دون نية عربية ودولية صادقة ووعي سياسي عميق لما يحدث في العالمين العربي والإسلامي. أما إعلان الحرب على المسلمين السّنة٬ وتحديًدا العرب السّنة٬ فلن تؤدي إلا إلى زيادة رقعة هذه البيئة٬ والنفخ في نار التطّرف.