في الأول من شهر يوليو الحالي صدر بعد طول انتظار تقرير اللجنة الرباعية الدولية المعنية بإيجاد تسوية فيما تسميه الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. وقد جاء التقرير في ثماني صفحات تتحدث بالتفصيل في موضوع المعيقات الثلاثة للعملية السلمية التي عطلت قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة إلى جانب دولة إسرائيل، فيما عرف بحل الدولتين.
ونتيجة لخطورة هذا التقرير الذي تبنى الخطاب الإسرائيلي بشكل شبه كامل، كان لا بد إلا أن نضع القراء العرب أمام حقيقة هذه اللجنة، وما يصدر عنها من تقارير تقترب في كل مرة من الخطاب الإسرائيلي في لوم الضحية وتبرئة الاحتلال وسياسة الفصل العنصري وإشعال الحروب وتدمير البنى التحتية وسجن الشعب الفلسطيني برمته. وسأقدم في هذا المقال مجموعة من الملاحظات حول التقرير.
خلفية ضرورية
بناء على نصيحة من رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، ألقى الرئيس الأمريكي جورج بوش خطابا يوم 24 يونيو 2002 تبنى فيه فكرة إنشاء دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل على أن يتوقف العنف والإرهاب أولا ثم تنسحب إسرائيل من منطقتي (أ) و(ب) يلي ذلك عقد مؤتمر دولي لتفعيل الاقتصاد الفلسطيني، ثم يعقد مؤتمر دولي آخر لحل كافة قضايا الوضع النهائي.
تلك الأفكار وضعت معا على صيغة «خريطة طريق». وكان هدف بلير وبوش هو ضمان تأييد عربي لغزوتهما المقبلة للعراق. وقد قدم رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، إرييل شارون، 14 تحفظا على خريطة الطريق أهمها، ضرورة تدمير حركة حماس أولا والاعتراف بإسرائيل دولة يهودية والقبول علنا بإلغاء حق العودة ـ وعدم الانتقال إلى المرحلة الثانية إلا بعد توقف العنف والإرهاب، و»حل وإصلاح القيادة الفلسطينية الحالية. أما الدولة فستكون مؤقتة وحدودها مؤقتة وتعطى صلاحيات سيادية محدودة، وتحتفظ إسرائيل بحق السيطرة على المعابر والمجال الجوي وموجات الأثير.
تشكلت اللجنة الرباعية من الولايات المتحدة والاتحاد الروسي والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. وقد قبل الأمين العام السابق كوفي عنان بأن تكون الأمم المتحدة رُبع هذا الإطار بدل أن تظل المرجعية القانونية والقوة الشرعية الدولية التي يحتكم إليها كل الأطراف في حالة ما اختلفوا. أما روسيا فقد كانت في أضعف حلقاتها بعد سنوات بوريس يلتسين الذي ترك روسيا عام 1999 في حالة تفكك وفساد وتراجع اقتصادي بدون وزن أو تأثير دوليين.
إذن الرباعية كانت قرارا أمريكيا بحتا وآلية أمريكية، والثلاثة الباقون لم يكونوا أكثر من شهاد لا يملكون شيئا من القرار النهائي. وقد عُين رئيس البنك الدولي السابق جيمس ولفنسون منسقا للرباعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. لكنه، وهو صاحب ضمير حي، اكتشف أن هناك لعبة أكبر منه ومنع من إقامة اتصالات مع كافة أطياف الشعب الفلسطيني فاستقال في أبريل 2005. وقام بوش بتعيين مجرم الحرب توني بلير في هذا المنصب بتاريخ 27 يونيو 2007 طبعا بدون أن يكون للأمم المتحدة أي دور في هذا التعيين، وظل في منصبه لغاية 27 مايو 2015 بعد أن تأكد أن الخراب الذي أوكل بتنفيذه قد أنجز، وأن الغطاء الذي منحه لإسرائيل لتلتهم ما تشاء من الأرض كان فعالا، وأن ثلاث حروب إسرائيلية على قطاع غزة لكسر ظهر المقاومة قد تحقق.
تقرير الرباعية
قررت الرباعية بتاريخ 12 فبراير 2016 أن تنجز تقريرا حول أسباب تعثر تنفيذ الحل العادل والشامل والدائم القائم على حل الدولتين، الذي كان مشمولا في رؤية خريطة الطريق. استغرق إنجاز التقرير المكون من ثماني صفحات أربعة شهور و18 يوما. وأود أن أؤكد ما يلي:
أولا- أن التقرير كتبه فرانك لوونستاين ممثل الولايات المتحدة في اللجنة الرباعية منفردا. والسيد لوونستاين مساعد مارتن إنديك، سفير الولايات المتحدة السابق في إسرائيل، وأحد قيادات الإيباك السابقين، وأحد غلاة الصهاينة الذي استقال كمستشار لوزير الخارجية جون كيري أثناء مفاوضات الثمانية شهور (أغسطس 2013- أبريل 2014) التي انتهت إلى فشل ذريع، بسبب استمرار الاستيطان وتراجع إسرائيل في اللحظة الأخيرة عن إطلاق الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين.
ثانيا- عرض التقرير على بقية أعضاء اللجنة الرباعية وأبدوا عليه مجموعة من الملاحظات الهامشية. ويجب أن نتذكر أن علاقات الاتحاد الروسي مع إسرائيل في أفضل وأمتن وأعمق حالاتها. أما ممثل الأمين العام فهو السيد نيكولاي ملادينوف وهو، من وجهة نظري، الأخطر من بين الأربعة. إنه أكثر من تبنى الرواية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. وقد تحفظ على تعيينه بعض المسؤولين الفلسطينيين إلا أن الأمين العام أصر على تعيينه.
ثالثا- عرض التقرير على إسرائيل قبل أن يعرض على مجلس الأمن، وعلى الطرف الفلسطيني. وقد قام نتنياهو بلقاء عاجل مع كيري في روما قبل إطلاق التقرير، بهدف حذف أجزاء منه. وبالفعل أصر الجانب الإسرائيلي على حذف الجزء المتعلق بالمحاججة القانونية ضد بناء المستوطنات، تحت حجة أن الجانب الفلسطيني الذي قدم ملف الاستيطان إلى محكمة الجنايات الدولية كجريمة حرب سيجد في التقرير ما يعزز حجته ويقوي موقفه.
التقرير من حيث اللغة
في الأعراف الدبلوماسية اختيار الكلمات ليس صدفة ولا عباطة، بل أن كل مفردة يتم انتقاؤها بعناية متناهية. ولننظر في الاستخدام المشبوه للمفردات والجمل:
- تحدث التقرير عن معيقات الحل وأولها «العنف والإرهاب الفلسطينيان اللذان بدآ» كما يقول التقرير في أكتوبر 2015. والسؤال قبل هذه التاريخ لم تعثر حل الدولتين. ألم يكن هناك وقت كاف لحل الدولتين منذ أوسلو 1993 لغاية «الاتجاهات الحالية» التي بدأت منذ أكتوبر 2015.
- يختار التقرير أن يركز فقط على نقطة «التهديدات الرئيسية» لتحقيق سلام قائم على التفاوض. وكلمة رئيسية سنكتشف أنها تشير إلى أن ثلثي التهديدات ناتجة عن مسلكية الفلسطينيين. ويذكر التقرير أنه لن يتطرق إلى الأوضاع الإنسانية أو السياسية أو القانونية أو الأمنية. كل هذه المسائل تشير بوضوح إلى مسؤولية إسرائيل، وفي نظر اللجنة أنها ليست رئيسية.
- الحل القائم على الدولتين وتحقيق السلام الدائم يلبي «احتياجات إسرائيل الأمنية والتطلعات الفلسطينية في الدولة والسيادة». فالأمن لإسرائيل حاجة وضرورة بينما الدولة والسيادة للفلسطينيين مجرد طموحات وتطلعات والفرق بين الحاجة والتطلع واضح.
- خلال فترة العنف التي يشير إليها التقرير بأنها بدأت في أكتوبر 2015 «ردت إسرائيل بالتوسع في استخدام الاعتقال الإداري». فقد وضع المبرر لإسرائيل وهو الرد على العنف. وكأنها غير معتدية ولا يشكل الاحتلال عدوانا أصلا، بل هي ترد على العنف.
التقرير من حيث المضمون
يشير التقرير إلى ثلاثة اتجاهات/معيقات أدت إلى تعثر الأمل في الحل السياسي.
- استمرار العنف والهجمات الإرهابية ضد المدنيين والتحريض على العنف مما يفاقم انعدام الثقة؛
- استمرار سياسة الاستيطان والتوسع وتخصيص أراض للاستخدام الإسرائيلي فقط، وحرمان الفلسطينيين من التنمية، وهذا يؤدي إلى تآكل إمكانية الحل القائم على الدوليتين؛
- الاستمرار في بناء القدرة التسليحية غير الشرعية والأنشطة العسكرية وغياب الوحدة الوطنية الفلسطينية والوضع الإنساني المتردي في غزة. كلها أدت إلى تفاقم عدم الاستقرار وبالتالي تعطيل الجهود الرامية لتحقيق حل الدولتين.
كما هو واضح فالاتجاه الأول والثالث يتحملهما الفلسطينيون, والثاني والمتعلق بـ»سياسة الاستيطان والتوسع» من مسؤولية إسرائيل. ونلاحظ أن النقطة الثالثة تحتوي على أكثرمن بند ـ تسلح- أنشطة عسكرية- انقسام ويتم قذف جملة لا مكان لها وهي الوضع الإنساني في غزة، علما أن المقدمة أكدت أن التقرير لن يشمل الوضع الإنساني.
وفي تفاصيل نقطة العنف والإرهاب يقول التقرير أن الفلسطينيين منذ أكتوبر 2015 قاموا بـ 250 هجوما أو محاولة هجوم ضد الإسرائيليين أدت إلى مقتل 30 بسبب «الطعن أو إطلاق النار أو الدهس بالسيارات وحالة تفجير واحدة». ثم يضيف «هذه الهجمات الإرهابية التي ينفذها غالبا صغار في السن غير مرتبطين باي تنظيم تساهم في الشعور لدى الإسرائيليين بأنهم يعيشون تحت تهديد مستمر». ويقول التقرير إن 140 فلسطينيا قتلوا أثناء تنفيذ هذه الهجمات بينما قتل 60 فلسطينيا على أيدي قوات الأمن الإسرائيلية أثناء قيام الفلسطينيين بمظاهرات أو مواجهات أو هجومات.
إذن سميت هجمات الفلسطينيين إرهابا، بينما لم توصف عمليات القتل الإسرائيلي التي تعادل سبعة أضعاف العمليات الفلسطينية بأي وصف. وكأنها مبررة وردة فعل على الإرهاب الفلسطيني, عن عنف المستوطنين وتدميرهم للمتلكات يقول التقرير «يبقى مصدر قلق جاد». هكذا يوصف ما يقوم به المستوطنون. ثم يثني على جهود إسرائيل في لجم أو احتواء أنشطة المستوطنين.
وعن التحريض يقول التقرير إن الذين «يرتكبون أعمالا إرهابية يمجدون علنا على أنهم أبطال شهداء» خاصة في وسائل التواصل الاجتماعي. ويشير إلى أن حماس والفصائل الراديكالية مسؤولة عن معظم التحريض. ولكن حتى بعض قيادات فتح تعتبر المنفذين لهذه العمليات «أبطالا وتيجانا على رؤوس الفلسطينيين». وتسمى بأسماء هؤلاء الشوارع والساحات العامة تمجيدا لهم. إذن حسب التقرير مطلوب من الفلسطينيين أن يسموا طفلا «على فرض أنه يحمل سكينا» قاتلا وإرهابيا ومجرما. أما إسرائيل فعندما يقتل جندي أحد الأطفال الفلسطينيين عمدا وينشر الشريط على العالم ويتم احتجازه لساعات فتقوم البلاد كلها لدعم القاتل واعتباره بطلا وتجمع له الأموال ويخرج من الاعتقال الإداري فورا.
حول التوصيات
يقدم التقرير عشر توصيات منطلقة من المعطلات الثلاثة التي سببت تعثر العملية السياسية.
يطلب التقرير من الفلسطينيين تعزيز التعاون الأمني ومنع العنف وحماية أرواح المدنيين. كما يطالب السلطة الفلسطينية باتخاذ خطوات حاسمة وبكل قدراتها لوقف التحريض وتعزيز جهودها في محاربة الإرهاب، بما في ذلك إدانة كل الأعمال الإرهابية. وعلى السلطة الفلسطينية أن تستمر في جهود بناء المؤسسات والحكم الرشيد وتطوير اقتصاد مستدام، وضرورة توحيد الضفة الغربية مع غزة تحت قيادة السلطة الشرعية وعلى أساس مبادئ منظمة التحرير.
وهناك عدد من التوصيات موجهة لإسرائيل في موضوع وقف سياسة الاستيطان والتوسع وتخصيصي أراض للاستخدام الإسرائيلي فقط، ونقل السلطة والمسؤوليات للفلسطينيين في المنطقة جيم، ومساندة السلطة في بناء قدراتها الاقتصادية والمؤسساتية.
وحول حصار غزة تشير التوصية الثامنة إلى «رفع التقييدات على الحركة والنفاذ من وإلى غزة بعد الأخذ بعين الاعتبار احتياجات إسرائيل الأمنية لحماية مواطنيها من الهجمات الإرهابية».
خطورة التقرير
لابد هنا من الإشارة إلى أن التقرير يتبنى التعريف الإسرائيلي فقط في موضوع الإرهاب. فكل ما يقوم به الفلسطينيون، سواء ضد قوات الاحتلال أو المستوطنين هو إرهاب. في التقرير تجد أن موضوع الاحتلال غائب وتهويد القدس غائب واقتحامات الأقصى، التي تثير أعصاب الفلسطينيين غائبة، وأضرار الجدار العازل وغير الشرعي، حسب رأي محكمة العدل الدولية، غير مذكورة وسبعة آلاف أسير بمن فيهم أكثر من 440 طفلا لا قيمة لهم ولا ذكر لهم عند الرباعية. والاستخدام المفرط للقوة لا ذكر له والقتل خارج إطار القانون غائب ومعاناة الناس على الحواجز لا ذكر لها. وفي غزة ليس المطلوب رفع الحصار بل تسهيل الوصول بعد التاكد من متطلبات إسرائيل الأمنية. والأخطر من هذا أن ما تقوم به إسرائيل مبرر لأنه رد على هجمات الفلسطينيين وما يقوم به الفلسطينيون مقطوع عن خلفيته وهو الاحتلال.
لقد تناست اللجنة العتيدة التي أنشأها بوش أن الاحتلال هو أعلى أنواع الإرهاب وأن الاحتلال هو أكبر مصدر للتحريض، وأن الاحتلال هو الذي أفرز ظاهرة الاستيطان، التي تعتبر جريمة حرب حسب بنود اتفاقية جنيف الرابعة . ثم يأتي هؤلاء الغرباء ويحملون الضحية المسؤولية لأنها ترفض أن تموت بصمت.
٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز